مجلس السيادةينفي ما يتم تداوله حول مراجعة الجنسية السودانية    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ومن يُهُنْ يسهل الهَوانُ عليه: عندما تجلدنا استغاثة مقهورة
نشر في الراكوبة يوم 11 - 12 - 2010


لا نقل عنها قهرا
إنا حملنا الحزن أعواما و ما طلع الصباح
و الحزن نار تخمد الأيام شهوتنا
و توقظها الرياح
و الريح عندك كيف تلجمها
و ما لك من سلاح
إلا لقاء الريح و النيران
في وطن مباح – محمود درويش
لم أفق بعد من صدمة مشاهدة مقطع جلد فتاة في قسم شرطة في الخرطوم على مرأى و مسمع من السابلة والمتفرجين و أفراد الشرطة. يبدأ المشهد مبتورا من منتصف جلسة التعذيب، فالفتاة تتململ و صوت مدني يبدو أنه القاضي في الخلفية \" اديها سنتين .. دايرة وين؟ السجن؟ يالله اقعدي ... يالله سريع خلينا نمشي الشارع ده شوفيه واقف\" ! وبمجرد انتهاءه من استعجاله لها كي يلحق ما تبقى من مشاغل اليوم – مشاهدة جلد أخريات في أقسام أخرى، من يدري, جلست على ركبتيها تنفض يدها من ألم الجلدات السابقة، تستجمع ما تبقى من قوتها لتستقبل ما تبقى من لسعات ... وما أن جلست حتى هوى السوط على ظهرها فجفلت و أستقبلت جلادها وهي جاثية تصرخ صرخات تدمي القلب، صرخات كسكين مسنونة النصل تصم الآذان وتدمي القلوب. زحفت بجسدها الموجوع للوراء فعاجلها بأربع جلدات على ركبتيها أفقدتها القدرة على المشي، ابتعدت عنه فعاقبها على تقهقرها بجلدة على وجهها و أتبعها بأخرى على ركبتيها، وهي تزحف، وتصرخ، وتستغيث \"يا أمي!\" صرخة تدمي، توجع، تلكز انسانية من شهد (أن أفيقوا، فالوجع يفوق الاحتمال). \"يا أمي!\" وكأنها تنادي أمها أن ارجعيني لرحمك فهذه الحياة موجعة لا أريدها! \"يا أمي! وااااااي\" و تنفض يديها، و تزحف للوراء حتى وصلت لسيارة بالقرب و استجارت بها، استجارت بالجماد الذي بات أرحم من بني الانسان المتحلقين حولها. تتالت الضربات على وجها و صدرها وهي تصرخ صرخات تشق الحجر، ولكن قلوب من حولها أشد قسوة { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } 74سورة البقرة – أمسكت بطرف السوط علّها توقف سيل العذاب، توقف الجلاد ليلتقط أنفاسه، فهب آخر لإحقاق العدالة، فألهبها بالسياط على حين غرّة. هب بتلقائية من يود مساعدة آخر في تحريك قدرِعلى النار... تناوبوا في جلد كل ما طالته سياطهم من جسدها، بجلد عشوائي مما يليهم. انتهى المقطع وهي تكاد تفقد وعيها من الصراخ والجلاد لا يعنيه صراخها في شيء، وظل يجلدها بلا رحمة. والسادة النظّارة، السادة منفذي الحكم القانوني، السادة \"المؤمنين\" حضور المشهد المهيب، الذين أضفوا بحضورهم بعدا آخر للعقاب، السادة الشهود في شغل عنها يتضاحكون، و يتبادلون الحديث، ويعبر بعضهم الساحة وهي على بعد خطوتين منهم جاثية على ركبتيها، وكأنه يوم عادي، وكأن الجلاد طفل يلهو بقطة في يوم مشرق جميل. تركني المقطع معلقة بين السماء و الأرض، ظللت أعيده مرة تلو المرة، و صراخها يملأ الغرفة، يصم أذني، وسوط ملفوف حول عنقي وغصة تسد حلقي و الدمع حار يكوي وجهي. لم أنم من يومها إلا لماماً، يلاحقني صوتها في الأحلام متى غفوت. ظلت صورتها وهي جاثية وتمسك بطرف السوط تلح علي، وأفراد الشرطة من حولها و السابلة والمتحلقين يشاهدون ما رأينا ولم يطرف لهم رمش! المصور أو أحد قريب منه يعلق بأنه \"ليشهد عذابها طائفة من المؤمنين\" و يضيف \"ما ديل مؤمنين!\" يا لوجعي لو هؤلاء هم المؤمنين! يا وجعي لو كان الإيمان هو أن أقف مكتوف الأيدي في الظل لأتلذذ بمراقبة انسان يُشوى حيا! المؤمنون الذين صوّروا المشهد، ونشروه، ليشهد مزيد من المؤمنون تنفيذ الحكم (العادل) متناسين بأنهم تعدوا بذلك أي خطوط حمراء في حماية المتهمة و التي برغم تعديها في نظرهم على القانون ما يزال أمنها و سلامتها مسؤوليتهم الأصيلة. فكونها متهمة لا يعني تعريض حياتها للخطر بتصوير المشهد و نشره لما له من عواقب على سمعتها وصورتها في الوسط الذي تعيش فيه. أم تُراهم حكموا عليها بالإعدام ولكنه حكم مؤجل يقوم به من يأنس في نفسه الكفاءة من أسرتها ومعارفها؟
ظللت أسأل نفسي عن الجرم الذي أقترفته هذه الفتاة لتستحق ما رأيت؟ أي جرم يستحق التعدي على كرامة وانسانية مواطن في وطنه وبيد بني جلدته؟ أي جريمة تستحق تجاوزات في حد الجلد وفق الشريعة؟ أهي متهمة بالخيانة؟ هل هي قاتلة؟ أي فساد في الأرض أفسدت لتستحق ما رأينا؟ هل الجريمة زنا؟ لا أظن , فعدد الجلدات ليس وفق ما يحدده الشرع. هل هي جريمة أخرى متعلقة بأمن المجتمع؟ إذاً لما اكتفوا بجلدها عوضا عن حبسها مدة تتناسب مع الجرم ولو بنص قانونهم الجائر. وإن كانت جريمتها تستحق حكما تعزيريا بالجلد، هل هذه الطريقة المتوحشة هي الطريقة التي يقرّها القانون؟ أي قانون هنا يا سادة؟ أي قانون يجيز هذا الجلد على الركب و الوجه و البطن؟ ماهي حيثيات القضية؟ هل سُمح لها بتوكيل محامي؟ هل حضر؟ أين القاضي؟ أين مدير القسم؟ أين \"الانسان\" في ذلك المشهد الدامي؟
ولم تطل حيرتي كثيرا، فقد تناقلت وسائل الإعلام الخبر و انتشر مقطع الفيديو كالنار في الهشيم، وعدنا لتصدر عناوين الأخبار، عناوين أخبار تجعلنا نغوص في مقاعدنا خجلا من الانتماء لدولة تجلد النساء علنا في الشوارع، دولة تلقي بالنساء في عربات الشرطة كما تُلقى الشياه، دولة تروج ل طالبان في نسختها الأفريقية. وأعلن الشريط الاخباري في قناة الجزيرة بأنه قد تم \"جلد شابة سودانية بسبب لبس البنطلون.\" ولله الحمد اني لم أحضر لقاء د. نافع على نافع مع برنامج مباشر في قناة الجزيرة الذي قال فيه انها لو كانت محترمة لما جلدت (نقلا عن الراكوبة) وهو لعمري تصريح موجع حد الوجع، هل دور القانون والقائمين عليه توزيع صكوك \"الاحترام\"؟ ماهو الاحترام الذي تجيزة الشرطة السودانية يا سادة؟ من يعرف من (المؤمنين ) او ( المشاهدين ) .. ينورنا كي لا نجلد بجريرة الظن!
**\"إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل و أنصار الجور.\" الكواكبي
**\"العوام هم قوة المستبد وقوته، بهم و عليهم يصول و يطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقاء حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته.\" الكواكبي
\"جلد شابة سودانية بسبب لبس البنطلون.\" قد يتساءل شخص ما في الكرة الأرضية إن كان لبس البنطلون جريمة، وسنجيبه أنه نعم. في السودان يعد لبس البنطلون جريمة تمس بالأمن القومي. لبس البنطلون فساد في الأرض. لبس البنلطون سبب تدني قيمة العملة و انهيار الاقتصاد. لبس البنطلون أدى لتأجيج حرب أهلية راح ضحيتها اكثر من مليوني شخص. البنطلون سبب أزمة دارفور. البنطلون رفع سعر المواد الاساسية. والبنطلون سبب احتلال حلايب. لبس البنطلون رفع معدلات البطالة وسبب هجرات الشباب والقوى العاملة. أي نعم! هذه البنطلون هو سبب الفساد والاختلاسات والرشوة. هذا البنطلون يا سادة ليس مجرد قماش ساتر للجزء السفلي للجسد بل هو الشيطان في شكل وردة! بنطلون يا سادة! التهمة لبس بنطلون! واستحقت بذلك عشرين جلدة رأيناها من أصل خمسين أشار إليها أحد \"المؤمنين\" .. خمسون جلدة على الوجه و الصدر والرأس والركبتين، جلدات ب (سوط عنج) قد تفضي لمضاعفات خطيرة، تلقتها على مرأى و مسمع من المارة والمشاة في وضح النهار بسبب بنطلون! الشيطان بنطلون جعل البعض يظن أنها تهمة أخلاقية، وبذا جلدت الفتاة مئة مرة غيبا في شرفها وسمعتها. من أجل بنطلون ترتديه الفتيات في السودان طيلة اليوم، وفي نفس يوم الجلد، وبعد يوم الجلد، و لا استبعد ان تكون مرت بالموقع في وقت الجلد أكثر من سيارة بها فتاة تلبس بنطلون، نفدن لسبب أو لآخر من ذات القدر الذي واجهته تلك الفتاة. يبدو أن لهذا البنطلون قدرات أكثر مما أعرف. فبسببه ثارت الخرطوم العام الماضي عندما تعرضت أخريات و الصحفية لبنى لذات التهمة وكادت ان تواجه ذات المصير لولا أنها كانت صيدا عصيا على الجلاد. التهمة بنطلون. رفعت الجلسة، اجلدوها خمسون جلدة وليشهد ذلك المؤمنون من المارة والمشاة والأمساخ البشرية التي تضحك , نعم تضحك وفي الخلفية بكاء وعويل امرأة جاثية على ركبتيها.
وبعدها بيوم تسربت معلومات أخرى عن القضية، وتناقلت المنتديات الإلكترونية أنها كانت مدانة بجرائم أخرى ليس من بينها لبس البنطلون، وازددنا حزناً، فإن كانت فعلا مدانة بما قرأنا وبأنها روّجت المخدارت وحبوب منع الحمل في المدارس و ممارسة الدعارة وتسهيلها، فهل ما رأينا هو الحل القانوني لكل ذلك؟ هل تخييرها بين الجلد وبين الحبس من ضمن الاجراءات القانونية؟ بدا سؤاله و كأنه إعلان ترويجي \"ارتكب جريمتين أو أكثر وأحصل على عقاب واحد!\" هل الخمسين جلدة عقوبة على الترويج ام التشهير على الدعارة؟ هل تم دمج العقابين في واحد two in one ؟ من يدير قضاءنا يا سادة؟ قبل شهور حكم على مغتصب طفل في مسجد (نعم في مسجد، في بيت من بيوت الله) بالسجن سنتين و مائة جلدة!! ولم تشهد طائفة من المؤمنين جلده و لن استغرب إن علمت أنه قضى من مدته شهرين و أخلي سبيله بموجب كفالة! هل كان حكم السجن لمدة سنتين لانتهاك حرمة المسجد و الجلد عقوبة الاغتصاب؟ هل يستحق مغتصب لطفل الحياة ناهيك عن بشاعة جرمه باختياره بيتا من بيوت الله مسرحا لجريمته؟ أي مظلة قانونية هذه التي لا تدرك فداحة جرم و آخر ويطبق أفرادها القانون بانتقائية و مزاجية دون مراعاة لمصلحة المجتمع و أفراده؟!
للحادثة أكثر من بعد، البعد الانساني لا يخفى على أي \"انسان\" ومن خفي عليه فليتحسس انسانيته، أما البعد القانوني فسأتركه للعارفين ليفتونا في أمر ما رأينا وموقعه من القانون وأي فلسفة أخلاقية اعتمد عليها من نص على العقوبة التي شهدنا و فجعتنا وإن كان من أجازها يرجى من ورائها تقويم و إصلاح المخطئ،هذا في حال أتفقنا على الخطأ و الجرم من الأساس! ما أود معرفته هو شعور \"البشر\" الآخرين ... الحضور. أود أن أعرف حقيقة شعور الجلادين، شعور السادة المارّة و النظّارة، شعور \"مولانا\" القاضي المستعجل الذي كان يقايض الفتاة على (الزمن البتضيعو بتوجعها) تقعد و تنجلد ولا تاخد سنتين؟ سؤال بسيط كأنه يسألها \"اها؟ شاي ولا قهوة؟\" سؤال اعتيادي يبدو وكأنه آت من شخص من خارج المشهد، شخص منفصل عن الحدث وغير متأثر به على الإطلاق وكأن عملية الجلد هي عملية تنفيض لسجادة معلقة في البلكونة لا جسد انسان كرّمه الله... ترى هل يشعر الجلاد بأنه يد القانون و العدالة؟ هل هو مقتنع حقا بأن ما قام به متسق مع روح العدالة؟ أم من الأحرى أن أسأله عن مفهومه للعدالة؟ هل يدرك ذاك الجلاد (الاستاند باي) بأن ابتسامته في تلك اللحظة تحديدا تخرجه من زمرة البشر الاسوياء ؟ ابتسامة عادية خجولة غطاها بيده التي تحمل السوط. ابتسامة مرتاحة كأنه في منزله يحستي الشاي مع أصدقاءه ... وذلك الآخر ذو الصوت العميق الذي ظل يردد ان الحضور مؤمنين وحضورهم جزء من الاحتفالية، هل يدرك مدى فداحة ابتساره للآية القرآنية و تعديه الخط الفاصل بين مجرد مشارك في الظلم إلى مذنب أيضا كونه قذفها ضمنا بقوله ذاك وانه بات مستحقا لثمانين جلدة لوكان القانون فعلا عادل؟ ولا ننسى أن نشكر للمصور حرصه على تأكيد أن ما رأينا هو فعل سوداني مية في المية و صناعة وطنية فقد أظهر لنا علم السودان مرفرفاً كأنه يحاول أن يحمي الملكية الفكرية لهذا الابداع وقفل بذلك أي باب لمحاولة التنصل من (سودانية) هذه الجريمة.
لا أعلم من أين أبدأ في وصف شعوري الشخصي تجاه ما رأيت. منذ مجيء الإنقاذ وصورتها تزداد تشوها وبعدا عن الانسانية. فالانقاذ تصر على حصري كمواطن في قالب مجهول حتى بالنسبة إليها. أنا كسودانية مطالبة على أخذ القالب الذي تضعني فيه القوانين، قوانين..( استرتش مطاطية تشيل من الحبايب مية)..! فالقانون يتغير و يتشكل بحسب الأهواء و الأمكنة و الظروف ويبدو غير معني بأي ظرفية تخص المتهم. العقوبات عبارة عن صحن كوكتيل من كل التشريعات الربّانية و القوانين الوضعية مع رشة توابل من سادية المطبقين. فقد تجلد فتاة على باب الجامعة لأنها لا ترتدي طرحة، في حين تطالعنا سهرات التلفزيون بنساء محسوبات على السلطة وهن في كامل هيبتهن و جمالهن و طرف الثوب يكاد يلامس شعرهن المصفف بعناية. ما رأيته على موقع اليوتيوب والذي أورثني غصة بالأمس، شاهدت من خلاله أيضاً قبل سنة حفلة في سجن ترقص فيه فتاة حاسرة الرأس وترتدي لبسا قد يوجب الخمسين جلدة أو أكثر في ظرف آخر و تهتز و يشاركها الرقص رجل و الحضور من رجال الشرطة و مدنيين في غاية السعادة و الحبور و كمان بيصفقوا! السؤال الملح سألخصة ببساطة \"شنو البيخلي دي رجل وديك كراع؟\"
ومن يُهُنْ يسهل الهَوانُ عليه **** ما لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
المتنبي
إن ما شاهدته في الفيديو دليل حي على سيكولوجية الانسان المقهور. فالكذب الذي تمارسه السلطة في أعلى قمة هرمها، وادعائها بتطبيق حدود الله شفهيا و قولها ما لا تعمل انتقل تلقائيا لباقي أجزاء الدولة ومؤسساتها وهنا نراها متمثلة في أفراد جهاز الشرطة الذين يرددون آيات القرآن وأفعالهم منافية للدين والعرف والانسانية. تخرص نافع على نافع على \"احترام\" الفتاة دون الرجوع للوقائع ومحاضر الشرطة يثبت \"سهولة\" الاتهام لمجرد رأي شخصي أو فرضية لا تسندها دلائل ولا براهين. أين حدود الله هنا؟ أين مخافة الله وشرعه؟ هل لبس البنطلون بالمطلق يعني ان الفتاة غير محترمة؟ هل يعني هذا ان نساء بلاد السند اللاتي يرتدين (الشروال) قميص غير محترمات بالمطلق كده؟ والآن, و على ضوء ما يتناقله البعض عن جريمة الفتاة، هل حوكمت وفق معايير \"الاحترام\" ؟؟؟أم المتاجرة الممنوعة ؟؟؟أم خدش الحياء العام ؟؟؟أم ممارسة الدعارة؟ هل يعلم د. نافع كم \"غير محترم\" في حكومته وفق ذات المعايير؟ هل سنشهد يوما جلدهم ؟ أم هم فوق القانون؟
والآن ياتي دور السادة المقهورين السابلة و المتفرجين، ما سر اصطفافهم بنظام على سور الجسر؟ هل كانوا مستمتعين بالفعل أم أجبروا على التحلق؟ هل استهجنوا ما رأوا وكانوا يمنون أنفسهم بقدوم بطل مخلص (غودو) منقذ من السماء يكفيهم شر المواجهة مع أفراد الشرطة المتعطشين لممارسة السلطة؟ أريد أن أصدق أن أي من المارة لم تحدثه نفسه بمخاطبة الجلادين أو حتى نصحهم بنقل حفلة الشواء الآدمي للداخل أو بالعدم ,مافى زول قدر يقول (حرااااااام عليكم ياخ) , وبعداك .. يقوم جاري..! عملا بمبدأ (الجبان ربو عيالو)! أخبروني أن أحدا من المارة استهجن الحدث... أخبروني أنه مازال في السودان رجل لم تنكسر نفسه بعد، ولم يعلق كرامته كمعطف وراء باب غرفته قبل أن يغادر منزله. أي خنوع و انكسار هذا؟ أي سلبية واى جبن يا إلهي؟ ترى ألهذا ظلت تردد الفتاة يا \"أمي!\" بدلا من الاستنجاد بابو مروة من الحاضرين، أترى لمست من أعينهم بأنهم مغيبون، قليلي حيلة، و لا يقلون قهرا عنها فلم ترد أن تثقل عليهم باستنهاض نخوتهم من سباتها؟
\"لا اخاف عدوا يواجهنا
بل عدوا بنا اسمه القمع والسلطة المطلقة
نياشين دم الضحايا على صدرهم زنبقة\" مظفر النوّاب
تأكدت الآن اكثر من أي يوم مضى بأن طريق الديموقراطية أمامنا طويل طويل طويل ... بعيد المنال. لكي نطالب بالديموقراطية يلزمنا أولا أن نؤمن بقدرة الجماهير في إحداث التغيير، في طلب الحرية، في الوقوف في وجه الظلم و قول كلمة لا. ولكن ما رأيته في ذلك الفيديو وارى أحلامي في الغد الآت الثرى، فالجماهير التي رأيتها تتحلق حول فتاة ضعيفة وحيدة تلهبها السياط وضحكات الجلادين جماهير خنوعة، مكسورة. فلقد جلدت أمامهم بوحشية.. فشحت انسانيتهم وجادوا بالصمت ولم يتدخل أحد. لم يثر أحد. لم يصرخ أحد. لم يغضب أحد.. لم يبدوا اعتراضا حتى ولو بالتفرق عوض التجمهر. لو رأيتهم يتفرقون في بادرة استياء مما رأوا.. لإطمئنت النفس في نخوة باقية، ولكنهم خذولها و خذلوني وخذلوا أي أمل في التغيير. خذلوني وخذلوا محجوب شريف الذي احسن فينا الظن حين قال:
يا اللي بتسمع والما بتسمع
لازم تفتح اضانك وتسمع
صوت الشارع لمن يدوي
كل قلاع الخونة بتهوي
وكل جباه الكهنة بتركع
وشمس الحق السرقو شعاعها
بكرة بامر الشعب بتطلع
مافي زول بيسمع! لا الجلاد لا الشارع! في انسانيتهم صمم ... والشارع أخرس. الشارع خائف. الشارع ذليل. الشارع خاين نفسو وواقف يتفرج يا استاذي. الشارع راكع...!!
الفاتحة... انتقل أبو مروة للرفيق الأعلى – ينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن، وقد كان. دفن أبو مروة يوم جلدت النساء في الاسواق و الجامعات وفي باحات أقسام الشرطة. مات ابو مروة يوم أقتحمت الشرطة سكن الطالبات وهن نيام ولم يثر أحد. مات أبو مروة يوم جاعت النساء واستقبلتهن الشوارع بالعمل الذليل ولم يثر أحد. مات أبو مروة يوم أُغتصبت النساء ولم يثر أحد. مات أبو مروة يوم قُتل الطلبة و ألقيت جثثهم بلا تكفين في الشوارع ولم يثر أحد. مات أبو مروة يوم اقتتلنا و مزقتنا الصراعات السياسية العقيمة. مات أبو مروة يوم قبلنا الفساد وتقديم الولاء على الخبرة. مات أبو مروة يوم تركنا الخوف يدخل قلوبنا لمن تشوف زول الأمن و \"قلبك كل ما باب الشارع دق يدق ...إيدك ترجف في الصقاطة ووشك شاحب :ربنا يستر أمكن هم\" محجوب شريف.
يا سادة ... مات أبو مروة يوم حكمنا العسكر \"الاستأسد والأتنمر\" ويوم غضبتنا ما جا ... وهلكنا احنا وهو قاعد متسمر!
مات أبو مروة يوم حكمنا العسكر!
اعزيكم وأعزي نفسي في الفقيد \"ابو مروة\" كان طيب الاخلاق لا يرتضي الظلم ولا المهانة. مات ولم يترك وريثا ولا ولد، غاب ولكنه باق في قلوبنا، نفتقده ببالغ الأسى ولكنها سنة الحياة ومن يهن يسهل الهوان عليه!
________________________________
عزاز شامي
نشرت في أجراس الحرية بتاريخ السبت 11 ديسمبر 2010 الرسالة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.