عبدالله مكاوي [email protected] أمتعنا الأستاذ الكبير والمحامي القدير كمال الجزولي كعادته بمقاله الأخير أنضر الأشجار السُّودانيَّة في بستان اليسار الماركسي وهو يصور فيه مرارة الرحيل وحجم الفاجعة التي منيت بها البلاد وهي تشييع وتودع احد فرسانها وأعظم رجالاتها في القرن الأخير الراحل المقيم محمد إبراهيم نقد الإنسان والمفكر والمناضل والقائد في أحرج لحظات البلاد وأحوج ما تكون لقوة بصيرته ودقة تحليلاته وروحه التوافقية المتسامحة وإحساسه الصادق بمعاناة شعبه الممكون وصابر لتستحق هذه البلاد لقب أم عوارض في قصيدة حميد نورة ولكنه لحسن الحظ يبشرنا بحضور الغيم الهطول الذي يسقي كل البلاد ويروي جواها كل العطاشي ويحرك في شرايينها وأعصابها كل مقومات النهوض من هذا الخراب بعد فكها من قبضة واسر المهووسين وتجار الدين وسماسرة الحروب. وأنا أقرأ المقال الجميل انتابتني مشاعر التناقض اللذيذ وعلي الرغم من غرابة التسمية إلا أنها تعبر بصدق عن ما كنت أحسه وذلك لان المقال يتحدث عن رحيل إنسان عزيز وحبيب الي قلبي وبكل ما يحمله الرحيل من مشاعر الحزن والأسي إلا أن تسليط الضوء عبر المقال علي بعض الجوانب الإنسانية المُشَّرِفَة والوضاءة في حياة الراحل أكدت لنا صدق محبتنا وتطابق التقدير اللامتناهي في دواخلنا مع واقع هذا الإنسان الشفاف لتختلج في دواخلنا مشاعر الحزن مع مشاعر التقدير وكل ذلك محمول علي أجنحة لغة وأسلوب وإبداعية الأستاذ كمال التي لا تخفي علي كل من تجرد من الأحكام المسبقة والتصنيفات المضللة لتحلق بنا تلك الكلمات إلي مراقي الحلول في النص المكتوب والاندماج كلية في أجواء من الروحانية الإبداعية لتسلمنا غير مبالية الي عوالم الدهشة والسحر والجمال ولكن غصبا عن كل ذلك أجد نفسي منحاز وطربان لهذا التعبير من نصه الذي يقول فيه(كان نُقُد يبعث إلينا بملاحظاته كتابة، في قصاصات ورقيَّة متناهية الصِّغر، وهي العادة التي لازمته، لاحقاً، حتى في ظروف العلن! ولئن كنا نخصُّه هو بالذكر، هنا، فإن هذه العادة قد لازمت، في الواقع، كلَّ الكادر السِّري للحزب على مدى عشرات السِّنين؛ ولو أن كلَّ الناس اقتصدوا في استخدام الورق كما ظل يفعل هؤلاء، لحُفظت غابات كثيرة حول العالم!) ويحضرني في هذا المقام قول ذكره لي احد الأصدقاء قبل فترة طويلة وان لم تخني الذاكرة أظنه منسوب للأستاذ الرائع الحاج وراق وهو يتوجه بخطابه للطلاب بمجمع شمبات أن ترفقوا حتي بالنجيلة التي تمشون عليها، أو شئ من هذا القبيل! لله درك يا يسار، هولاء القوم اختصهم الله بحمل هموم وقضايا الإنسان في معناها الشامل والمتجاوز للحدود والأعراق والديانات وكل الاختلافات ولتمتد لتشمل البيئة في محيطها الواسع. لو كنت أمرا أحدا او جهة لأمرت كليات الإعلام والآداب أن تدمج هذه المقالة ضمن مقرراتها الدراسية لزيادة الذائقة الجمالية والإبداعية والمعرفية لطلابها ولكي يعرفوا قدر الرجال في هذه البلاد التي لم تنجح وتبرع في شئ مثل نجاحها وبراعتها في قتل وتشريد وتشويه سمعة أفضل رجالاتها وأكثرهم رغبة وقدرة علي انتشالها من وهدتها التي لازمتها طويلا، ولأمرت جامعة الخرطوم بالخصوص أن تسمي احد قاعات كلية الاقتصاد باسم الراحل المقيم نقد واحد قاعات كلية الآداب باسم الراحل المقيم حميد وان تُذَيِّل اللوحة التي تحمل اسميها باعتذار الوطن إليهما.وبهذه المناسبة أقترح علي القائمين علي أمر التعليم العالي أن تتم الاستعانة بأصحاب الانجازات والخبرات والنجاحات المشهودة في كل المجالات( سياسية، اقتصادية، ثقافية،إدارية،علمية الخ) ليقدموا محاضرات يلخصوا فيها تجاربهم وتُضَمَّن ضِمن المناهج لربط الطلاب بالواقع العملي وليعطوا تلك الأجيال القادمة مثال للقدوة القادرة علي العطاء والنجاح والابتكار مما يشجع تلك الأجيال علي الطموح والجدية في التحصيل وذلك بالتنسيق مع أساتذة الجامعات الإجلاء دون حساسيات متوهمة او مصطنعة، وهنالك جانب آخر لا يقل أهمية وهو أن كتابة هذه التجارب وتقديمها تسد ثغرة كبيرة في جدار الحفظ لذاكرة الوطن وتاريخه وعطاء أبنائه الشئ الذي أهمل كثيرا بسبب قلة التوثيق والندرة في كتابة السير الذاتية لأصحاب العطاء في كل المجالات، أما بالنسبة للراحلين أمثال نقد وحميد وغيرهم فعلي الجامعات انتداب بعض الأساتذة والباحثين لدراسة /التخصص في الإنتاج الفكري والجانب السياسي لنقد او الإنتاج الشعري والحالة العبقرية والإبداعية لحميد وتقديمها لطلاب العلم ضمن المناهج الدراسية بالإضافة الي المساهمة في مجالات الإعلام والتأليف والنشر لرفد المكتبات ودور النشر بنتائج بحوثهم وتقديم هذا المنجز الفكري والشعري الضخم بالصورة التي يستحقها ليسهم في دعم الوعي والاستنارة والتقدم علي كل الأصعدة لان مثل هولاء المبدعين عددهم قليل في كل امة وفي كل زمان لذلك تجب المحافظة علي إرثهما والبناء عليه ليسهم بدوره في ولادة مبدعين آخرين بالإضافة الي تجميل الحياة وإعطائها القاً وقيمة. وقبل العبور من خلال باب الرحيل هنالك قضية ناقشتها كثيرا مع بعض الأصدقاء مررا وتكررا وكتب عنها البعض وكان من الأجدي إثارتها خلال وجوده الشامخ بيننا كما أثارها الآخرون ولكن لإيماني بأن الشأن العام والمساهمة فيه تستوجب الصراحة التامة في حالة حياة او موت الفاعلين في الشأن العام مع احترام قدسية الموت للراحلين والتَحشُّم والتأدب والابتعاد عن الشأن الشخصي في حالة الحياة او الموت للفاعلين في الشأن العام، المهم لمحبتي الشديدة للراحل كم تمنيت أن يبادر بالتنازل الطوعي عن قيادة الحزب ومجابهة كل الضغوطات التي تطالبه بالاستمرار كما يستشف من كلام الأستاذ كمال بقوله (وعندما كنا نفكر سويَّاً في إنشاء مركز للدِّراسات والبُحوث، بعد أن يفرغ هو نهائيَّاً من عمله كسكرتير عام للحزب، وفق ما كان يعتزم قبل المؤتمر الخامس، كان يقول لي متحسِّباً: "أبعدني فقط عن أي شأن إداري ريثما أكمل كتابي عن التصوّف في السُّودان".) وتلك الأمنية ليست طعنا في أهليته الفكرية او القيادية او العمرية معاذ الله، ولكن من اجل تقديم نموذج وفتح طريق لأدب التنازل الطوعي بكل ما يحمله ذلك من رمزية واستنان لسنة حسنة يتوج بها تاريخه النضالي البطولي وفي نفس الوقت تمثل رسالة لقادة الأحزاب الآخرين أن حان وقت المغادرة لإعطاء الآخرين فرصتهم وإعطاء أنفسهم فرصة لمراجعة النفس بعيدا عن ضغوط القيادة والتزاماتها و لكتابة تجربتهم وتقديم النصح للآخرين، ومن جانب آخر يرسل رسالة لمن يخلفه ان القيادة رحلة قصيرة يؤدي دوره فيها ومن ثم يترجل لآخر بكل سلاسة لتستمر سنة الحياة في التجديد الذي يحمل في جوفه الأفضل مستفيدا من سلبيات الأقدم وباني علي ايجابياته، ولنا في نيلسون مانديلا أسوة حسنة ويصعب علي أي شخص ان يزايد علي نضالاته وتمكنه من قيادة دولة جنوب افريقيا لعدة فترات قادمة ولكنه فضل التنحي ليمثل قدوة للقادة من بعده علي ترك المنصب بعد إتمام فتراتهم وليقطع الطريق علي الكنكشة المفضية للاستبداد الذي أذاق شعوب القارة مر العذاب ومازال يتفنن في عزفه وإتقانه كل صباح. وتمكن نيلسون مانديلا عبر هذا الصَنِيّع أن يرتفع ويرتقي في مراتب التقدير الإنساني ليصل الي درجة القديسين ويمثل رمز للمحبة والاحترام والتسامح والتواضع والتأثير الايجابي في كل أنحاء العالم. ولكي نكون صريحين فالحزب الشيوعي كغيره من الأحزاب الوطنية لا يستطيع الهروب والانفكاك(علي الرغم من قوته النسبية مقارنة بالأحزاب الأخرى) من البيئة السودانية التي أنتجته او نشأ فيها ونعني بذلك السلطة الأبوية (عقلية ونفسية واجتماعية) في المجتمع وبالتالي انتفاء الندية والحرية الكاملة في حالة الحوار و الطموح بين أعضاء التنظيم /الطائفة/الطريقة/الجماعة/الحركة مما قاد لانسداد القنوات الطبيعية للترقي والتنافس الحر والتدافع للوصول الي مراكز القيادة ورفدها بدماء جديدة تعيد نشاطها وتحميها من شر التكلس والشلل، او علي الأقل حفظ حق الأعضاء في الاعتراض والاختلاف ونقد القيادة من غير زعل او تخوين او حرج في أفضل الحالات، وكل ذلك قاد للانشقاقات والانقسامات وضمور الدور المرجو من الأحزاب وذلك بالإضافة الي مواجهة أنظمة شمولية استهلكت طاقة الأحزاب وقدرتها علي تصحيح أخطائها الداخلية بالمطاردة والنفي والتضييق وأحيانا التصفية الجسدية، وكانت المحصلة ضعف دور الأحزاب في تقديم نموذج صالح للممارسة الديمقراطية والعمل المؤسسي وتبادل دور القيادة(كعب أخيل في الممارسة السياسية السودانية) وإدارة الحوار بعقلانية داخلها وبالتالي المساهمة القوية والدفع الذاتي للتجربة الديمقراطية داخل الوطن خاصة والأحزاب تمثل أهم أدواتها بل هي اللبنة والأساس الذي تبني عليه التجربة الديمقراطية الناجحة والتي ترسخ وتقوي بمزيد من الديمقراطية كما هو معروف ، بمعني آخر ان قوة الديمقراطية و دولة المؤسسات تمثل انعكاس لقوة الأحزاب ودرجة تمتعها بالديمقراطية والمؤسسية داخلها والعكس صحيح. لكل ذلك يحتاج الأمر من الجميع لمواجهة الذات وتقديم نقد صارم وصريح لمجمل التجربة السياسية بالإضافة الي كشف احتكارية السلطة الأبوية لمجمل تاريخنا السياسي والثقافي والاجتماعي و السعي الجاد لتجاوزها أو وضعها في حجمها الطبيعي علي الأقل وقبل ذلك فضح وتعرية العقلية الشمولية والتربية الاستبدادية والنفسية الإقصائية لأن كل ذلك أصاب المجتمع وأبنائه بالدونية والإنصرافية عن الشأن العام وهو يري الوصاية تُفرض عليه وتحيط به من كل اتجاه، ليتحول من كائن قادر فاعل كامل الأهلية للمشاركة في الشأن العام الي مجرد تابع قاصر كل همه لعب دوره البيولوجي لحفظ النوع أي تمت حيونته بتعبير المفكر دكتور حيدر إبراهيم علي في واحدة من مقالاته.