قصة قصيرة أحمد الملك [email protected] ممنوع ممارسة الحرب مساء! قصة قصيرة أوقد السيد الرئيس شمعة لأن الكهرباء إنقطعت فجأة ثم أحضر بقية زجاجة خمر محلي، كان يقتصد في شرابها بسبب ضيق ذات اليد. ثم تذكر انه يحتفل اليوم بعيد ميلاده الستين. تذكر إحتفال العام الماضي بالقرب من حدود بلاده. لقد أطفأ شمعة عيد ميلاده مع دوي أصوات المدافع. شاركت في إحياء الحفل الصاخب فرقة موسيقية مكونة من عشرين رجلا وغرقت الأرض في أنهار من الخمور المحلية. في العام الماضي كان الاحتفال بحضور عدد كبير من الاصدقاء ورجال حركته . لكن كل شئ تغير هذا العام، لقد وقّعت الدولة التي تستضيفه إتفاقية سلام مع دولته توقف على إثرها الدعم الذي كان يحصل عليه طوال سنوات من الدولة المضيفة . أيقظته في الصباح طرقات على الباب. وجد ضابطا في إنتظاره خارج الكوخ، دعاه للدخول لتناول القهوة لكنه إعتذر عن الدخول بدعوى أنه مشغول بأمر ما، أوضح أنه مكلف بتسليم سعادته رسالة من القيادة، لم يوضح أي قيادة يقصد، قيادة الجيش أم قيادة هذا البلد الذي يعيش فيه منذ سنوات، منذ أن إحتضنته حكومته وأمدته بالمال والسلاح لإسقاط الحكومة القائمة في بلده بسبب دعمها لتنظيمات معارضة لسلطة البلد الذي يستضيفه. تم تعيينه رئيسا في الانتظار في إحتفال رسمي، إرتدى فيه ملابس عسكرية كاملة ووضعت فيه على رأسه قبعة عسكرية مزينة بريش النعام الملون، وحين وصوله لمكان الاحتفال تفقد مع الرئيس المضيف حرس الشرف. لقد أمضى ثلاث سنوات يتصرف كرئيس دولة. يصدر القرارات الجمهورية بترقية ضباطه وبتعيين مبعوثين شخصيين له . خاضت جيوشه معارك خسرت معظمها، لكن ذلك لم يؤثر على معنوياته أو يغير شيئا من الواقع. فالحرب نفسها أصبحت مهنة. وأعباء الرئاسة الحقيقية لن تكون سهلة حتى يتعجلها، وفي كل الأحوال فهو يواصل في ممارسة سلطته الغيابية من البيت الذي منحته له الحكومة كمقر مؤقت له ولسلطته. في مقر اقامته كانت السلطة تستمر يوميا حتى الثالثة بعد الظهر، يخلد بعدها السيد الرئيس للقيلولة، غارقا في عرقه في قيظ الساعة الثالثة بعد الظهر الذي لا تخفف مروحة السقف العتيقة شيئا من ضراوته. وان كانت تخفف قليلا من ضربات البعوض الذي يتسلل من فتحات سلك النملية الذي يغطي الجدران. الساعة الرابعة يبدأ البيت في التحول إلى خلية نحل، يحضر أولا ضباط حركته، من قدامى المحاربين، مرهقين من وعثاء الهزائم، لم يكسبوا طوال حياتهم حربا ولا حتى على طاولة دومينو. تبدو على وجوههم إمارات ورع مزيف يتبدد مع أول خيوط الظلام. يتحدثون دائما بأصوات عالية أو يبدون في حالة انهماك مزيف في النقاش، كأن صمتهم يفضح همس الشائعات التي تطاردهم حول الأسلحة التي يبيعونها دون أن تطلق طلقة واحدة. وتجارتهم الحدودية في كل شئ من الملابس العسكرية إلى زجاجات الويسكي. اذا حاول أحدهم التحدث حول الموقف العسكري يوقفه بإشارة من سبابته: ممنوع ممارسة الحرب مساء! يتنازل الجميع عن رتبهم العسكرية. يحتفظ هو فقط بلقبه الخالد: السيد الرئيس. يحضر أصدقائه من ندماء الشراب القدامى، بعضهم يحملون جنسية البلدين بسبب إنتمائهم لقبائل حدودية مشتركة. ينسون حين تستعر نار الشراب إلى أي وطن ينتمون، يقول احدهم مشيرا إلى جركان الخمر المحلية: هذا هو الوطن! ثم يوضح: يكون جيدا أحيانا فيسكرك قبل إن تشرب منه، ويكون سيئا في أحيان أخرى، مغشوش بالماء فلا يحرك فيك ساكنا! لكننا لا نستطيع تركه، فهو الوطن! ثم يحضر الطباخون ، يقومون يوميا بذبح ثلاثة خراف، لا ينس أحد جنرالاته أن يعلق يوميا بالقول حين يرى الخراف مذبوحة تنزف آخر قطرات دمائها قبل تعليقها للسلخ: هذا هو الدم الوحيد الذي نجحنا في إراقته منذ أشهر! يعلقونها في الفناء وبعد سلخها يستخرجون المعدة والامعاء لطبخها ثم يشوون بقية الخروف كاملا، وكأن تصاعد رائحة الشواء هو الاشارة التي تظهر على اثرها الفرقة الموسيقية مع الراقصات الحبشيات. يبدأ الغناء بعد أن تتناول الفرقة الموسيقية العشاء في صخب إستوائي. حين توشك السهرة على الانتهاء عند بدء إنبلاج ضوء الصباح يقف السيد الرئيس متأبطا يد الراقصة الأفضل أداء تلك الليلة وكأنه عريس على وشك السفر مع عروسه لقضاء شهر العسل بعد إنتهاء مراسم زواجه، يشكر الجميع على حضورهم راجيا أن يكون الاحتفال قريبا في الوطن بعد تحريره من الطغمة الفاشية التي سرقت موارده وسلمته للشركات الأجنبية . يستعيد البيت الرئاسي وقاره صباحا. يصبح الكلام في ردهاته همسا بين المستشارين المتعجلين والوفود الحكومية التي تنسق مع ضباطه للهجمات الجديدة على قوات بلاده. لم ينتبه في الفترة الأخيرة لبدء تناقص عدد المندوبين الحكوميين. عزا ذلك لإنشغال حكومة البلد المضيف بمشاكلها الكثيرة. حتى لاحظ تناقص الدعم المالي الذي يتلقاه شهريا، مع رسالة إعتذار بسبب الضائقة الاقتصادية التي يعاني منها البلد المضيف. لقد تعين عقد مجلس حرب مع ضباطه لدراسة التغيرات الجديدة. كشف ضباطه انهم لاحظوا أيضا مضايقات في الحصول على الذخيرة وحتى الاسلحة التي يقومون بشرائها من جهات خارجية أصبحت تواجه مصاعب في السماح بإدخالها بل إن حكومة البلد المضيف صادرت قبل أيام شحنة أسلحة كانت قادمة لقواته بحجة إن الاسلحة تخالف المواصفات المتفق عليها . علق قائلا: يبدو إن شيئا ما يحدث من خلف ظهورنا! في الماضي كان بإمكاننا ادخال دبابة برخصة إستيراد كلاشنكوف! أوضح أحد ضباطه: سمعت خبرا غير مؤكد يقول إن حكومة البلد المضيف تفاوض حكومتنا سرا! يا للكارثة! شعر كأن العالم ينهار من حوله، لماذا لا يخطروننا بذلك؟ تساءل السيد الرئيس محاولا إن يخفي جزع صوته الواضح بتركيز نظره في فراغ النافذة، لم يقل ضباطه شيئا ، لكن طيف ابتسامة عبر في وجوههم جميعا قبل أن يتلاشى أمام هيبة فزع السلطة المسائية. إقترح أحد الضباط تعليق العمليات العسكرية حتى يتضح الموقف، قبل أن يردف مبتسما : وحتى لا نضطر بعتادنا القليل أن نحارب في جبهتين! وجد السيد الرئيس الإقتراح جيدا خاصة والميزانية الجديدة لن تكفي لتغطية تكلفة حرب النهار ومعارك البهجة ليلا. بعد إستلام ميزانية الشهر التالي تعين اتخاذ قرار جمهوري لتخفيض تكلفة معركة البهجة المسائية. بدلا من ذبح ثلاثة خراف يوميا تناقص العدد إلى خروفين ثم تناقص في الشهر الثالث إلى خروف واحد ، علق بأسف مساء وهو يستقبل ضباطه: من المحزن أن نخفض الصرف على المعركة الوحيدة التي نكسبها كل ليلة! جلس السيد الرئيس في مقعده بعد أن فتح النافذة ليستطيع قراءة الرسالة في ضوء الصباح. فسمع صوت غناء العصافير فوق أشجار الغابة القريبة، بدا له تغريد العصافير غريبا كأنه قادم من أزمان أخرى، أزمان لم يعد ممكنا مداراتها في النسيان. كانت تلك هي الرسالة الرسمية الثانية التي يتلقاها خلال عدة شهور، في الرسالة الأولى طلب منه إخلاء بيت الضيافة الذي كان يقيم فيه لدواعي الصيانة كما أوضحت الرسالة، ليقيم منذ ذلك الوقت في كوخ صغير لكنه مريح نسبيا خاصة مع تناقص الأصدقاء الذين كانت تجذبهم البهجة الدموية. لم يعد يرى أحدا في معظم الأيام سوى إمرأة عجوز كانت تحضر كل ثلاثة أيام لنظافة البيت الصغير. نظر للرسالة بخوف من يقين إنه إن كانت الرسالة الاولى أخرجته من بيت السلطة فلابد إن هذه الرسالة ستخرجه إلى المجهول من هذا العالم الذي لا يعرف لوطنه بديلا غيره. كانت الرسالة من قيادة الجيش تبلغه بعبارات واضحة وحاسمة انه بحسب نصوص معاهدة السلام مع حكومة بلده فإنه لم يعد بإمكانه القيام بأية نشاط عسكري ضد جيش بلاده.وأن الدعم الذي كان يتلقاه من الجيش والحكومة سيتوقف منذ تلك اللحظة، وان أية خرق للاتفاقية سيجبر الحكومة على إتخاذ قرار بإبعاده مع بقية قواته إلى خارج حدود الوطن. وضع السيد الرئيس الرسالة على المنضدة بجانبه وأشعل سيجارة وطفق يرقب سحب الدخان وهي تهرب بسرعة عبر النافذة!