محمد عبدالرحيم دقاش [email protected] فى هذا العالم اذا كنت صاحب قلب كبير او كنت من الذين انعم الله عليهم بنعمة الرحمة وحاولت ان تمارس مهنة مساعدة الناس ، فأنت بالتأكيد قد حكمت على كل سجلات العواطف التى تدفعك نحو البر والتقوى بالاعدام ، فهنا مساعدة الناس غاية لاتدرك ، ومبدأ الانسانية وما يعطى من انطباعات الرأفة والشفقة ما عاد قانون ينظم حسن العلاقة الاخلاقية بين البشر ، المجتمع فى السودان تفسخ بصورة مخجلة وصار بقايا رماد يزرى غبار النفاق والتضليل على اعين القائمين على امر الاصلاح فيه ، اقول ذلك وشهد شاهد من اصدقائى الثقاة على واقعة غريبة بعض الشى فى حق مجتمعنا السودانى المحافظ ، فقد اقسم صديقى برب الكعبة انه عندما كان يقود سيارته الصالون ماركة جياد ، وبينما هو يسير بتؤدة وسرعة معقولة بشارع المشتل بالرياض ، لفت انتباهه تجمع صغير لبعض السابلة الذين تجمهروا فى شكل دائرة حول شيئا ما ، قال : لم استبين كنهه الا عندما توقفت بالسيارة على بعد امتار قليلة ثم ترجلت لاستطلع اصل الحكاية ، وعندما اغتربت رأيت احدى الفتياة وهى مسجية على قارعة الطريق وكأنها فى غيبوبة او ربما تكون قد فارقت الحياة ، فسئلت الذين من حولى عن الامر فكان جواب الجميع الصمت ، وعندما صحت متسائلا بصوت جهورى قطع سكون المتجمهرين ، تطوع احد المتفرجين وقال لى : سقطت الفتاة لوحدها عندما كانت تسير بمحازاة الطريق ، فرديت عليه : منذ متى ، ... غالبا هسى بتكون عندها ساعة ونصف كدة ،... ساعة ونصف ؟ ولماذا لم تقوموا باسعافها ؟... البقوم منو يا زول ؟ .. الناس المتجمهرة دى مالو ماعندم رحمة يعنى ؟ ضحك محدثى بخباثة رتيبة وقال لى : الظاهر عليك انت ابو الرحمة زاتا ، ثم انصرف من حولى ... ويمضى صديقى قائلا : ثم شرعت بكل ما اوتيت من قوة فى شق الكتل البشرية المصطفة حول الفتاة ، وصحت فى البعض ان يمد يد المساعدة بغرض حمل الفتاة للسياره حتى اقوم بواجب اسعافها ، فتحرك البعض على مضض واستجاب لطلبى بمساعدتى ، ووضعنا البنت فى المقعد الخلفى للسيارة ، واستويت على عجلة القيادة ونظرت فى وجوه الجميع مستفسرا بنظراتى البريئة عمن سيكون من دعاة الخير ويذهب معى للمستشفى ، ولكن للاسف ارتدت عليا تساؤلاتى ، بنظرات اشد ريبة اشعرتنى بأن الجميع يطعن فى مصداقية الحنان الجياش الذى يتقطرمنى ... المهم قمت بتوصيل الفتاة الى حوادث الخرطوم ، ووجدت العناية من الطاقم الطبى الذى واسانى بعبارات الطمانينة واكد لى بأن الفتاة لا تعانى من شى يذكر اللهم الا من كومة سكرى ، لحظات وستكون بخير ، فضلت ان اتم الجميل وانتظر الفتاة حتى تتعافى واقوم بتوصيلها الى منزل زويها حتى اكمل اجرى مع الله ، ففعلت ذلك وجلست بجوارها فى سرير المستشفى حتى فاقت ، ورأيتها تنظر حولها بفرح متناهى ، ثم سئلتنى بكل تلقائية : اين هى ؟ فرديت عليها بأنها فى المستشفى وكانت فى حالة نقص فى السكر ولكن الان الحمد لله ، ابتسمت فى وجهى وشكرتنى بكل لطف واستئذنتنى بالذهاب الى البيت لان اسرتها سوف تصاب بالهلع اذا لم تكن الان فى البيت ، فطلبت منها الانتظار حتى حضور الدكتور الذى ما كدنا ننهى حديثنا حتى دخل وسمح لها بمغادرة المستشفى ، طلبت منها ان اقلها الى البيت فوافقت بكل طيبة اهل السودان ، جلست بجوارى فى السيارة وحينها كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة والنصف ليلا بقليل ، سرنا معا بشارع افريقيا وكنا نتجازب اطراف الحديث فى الامور العامة ، ودلفت بها الى ضرورة ان تعطى الاهمية القصوى لمسألة مرضها بداء السكرى ، فليس من الكياسة ان تذهب لوحدها فى الليل فربما تتعرض مرة اخرى لمثل هذا الموقف ، فوافقتنى الراى ووعدتنى بأنها ستعمل بنصيحتى ، وشكرتنى على الشهامة والموقف النبيل ، وبينما هى تمطرنى بعبارات الثناء والرجولة ، توقفت باستوب الجريف فى انتظار انارة الضو الاخضر ، وفجأة توقفت بمحاذاتنا ، سيارة رياضية يستغلها ثلاثة شباب تبدو عليهم اثار النعمة ، وراحوا يرمقونا بنظرات ثائرة ويؤشرون نحو الفتاة التى كانت فى هذه اللحظة تنظر امامها بكل ادب واحترام وتحادثنى بوقار عظيم ولم تنتبه لأشارات الشباب الثلاثة ، وبينما هى مشغولة فى مدحى وانا منشغل بنظرات الشباب نحونا ، رأيت احدهم يترجل ويتقدم بخطوات رشيقة اوجستنى خيفة ، ولكنى تظاهرة بالتماسك ، وعندما اغترب رأيته يؤشر بأصابعه نحو الاخرين بعلامة النصر ، فأندفع الجميع نحو سيارتى وقاموا بتهشيم قزاز السيارة واوسعونى والفتاة ضربا مبرحا ، جتى شعرت بأن يدى اليمنى قد انكسرت ومن شدة الالم اغمى عليا ولم افق الا بعد ثلاثة ايام بلياليها ، ووجدتنى طريح الفراش الابيض بمستشفى الشعب ، واول ما استرجعت الوعى سئلت من كان حولى عن مصير الثلاثين مليون التى كانت بدرج السيارة ، فنظر اخى نحوى بكل شفقة ، ولم ينبس ببنت شفة ، وبعد عشرة ايام تم تحرير خروجى من المشفى ، وجلست مثلها مرتين فى المنزل ، فكانت ثلاثين يوما بالتمام والكمال ، تركت فيها مشاغلى واهملت عملى الخاص ، وعندما تعافيت نهائيا من الاصابة نزلت استقصى واسئل عن احوال الفتاة ، فلم يرشدنى احد على مكانها ، ومرت الايام وتعاقبت السنوات ، وذات مساء خريفى جميل ، اشتهيت سندوتشات من محلات لذيذ بالطائف وبينما جالس اقضم طعامى واتفحص البشر من حولى ، وقعت عينى على منظر كان اخر ما توقعته فى حياتى ، فلقد رأيت الفتاة التى بسببها اصيبت بعاهة مستديمة تجالس ذات الشباب الطائش الذى حاول الفتك بناء ، وعندئذ ثارة ثائرتى وانتفضت كالاسد الجريح احاول الاخذ بثأرى من هولا الحثالة ، فتدخل رجل الشرطة الذى يحرس المطعم وفض شجارنا ، فرحلت الفتاة مسرعة وتبعها الشباب الثلاثة ، وبينما تتقاذفنى امواج الحيرة من هول المشهد ، سئلت رجل الشرطة عما اذا كان يمتلك بعض المعلومات عن هولا الشباب ، فضحك رجل الشرطة ، وقال لى : بس اوع تكون ماخد منم ماسورة ... فرديت عليه لا ابدا بس هم شباب مزعجين شويتين ... فأجاب رجل الشرطة : كلامك صاح اصلو هالة عذاب دى وعصابتها بتاعين بدع ، فسقط فى يدى ودارت بى الارض ثم لم اعى بنفسى الا وانا فى حوادث التجانى الماحى ، وبعد ان شفيت من اللوثة التى اصابتنى اقسمت بألا اساعد احد فى حياتى ابدا ابدا