من كتاب "المثقف وعقدة العصاب الأيديولوجي القهري"(9) عزالدين صغيرون [email protected] حروب عادلة * " يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية ، أو ميتافيزيقيا ، بحد السيف إن لزم الأمر.. يجب أن نقاتل من أجل التنوع ، إن كان علينا أن نقاتل.. إن التماثل النمطي كئيب كآبة بيضة منحوتة. " لورنس دوريل رباعية الإسكندرية الجزء الثاني- بلتازار تعليمات سماوية بالقتل *"نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها ، ولكن المسألة أن السيد المسيح زارني في المنام ، وطلب مني أن نتصرف كأمريكيين ونذهب إلى الفلبين لكي نجعل شعبها يتمتع بالحضارة " الرئيس الأمريكي ويليام ماكينلي يخاطب شعبه عام 1898م مبررا غزو الفلبين. تصاب بالدوار وأنت تتابع العقل المصاب بداء العصاب الأيديولوجي المزمن وهو يقودك في متاهة لامتناهية بحثاً عن إجابة على السؤال : وما الحل ؟ ، وهو يضرب هائماً على وجهه في هذه المتاهة ،لا لغموض في معطيات الواقع تساعده على تشخيص وتحليل المشكل بصورة واقعية ومنطقية، ولا لنقص في المعلومات ،ولا لعته وعطب في عقله ،ولكن لأن للأيديولوجية صورة ذهنية جاهزة مسبقة في العقل المؤدلج ، تختلف عن تلك الواقعية. والواقع أن الصورة الذهنية المتوهمة تفرض رؤيتها التحليلية الخاصة التي تخدم مصالحها للمشكل ،ومن ثم تحدد مسارات الحلول لها، وبالطبع فإنها تتحاشى الحلول التي تهدد بنسفها ومحوها، وفي سبيل ذلك يلجأ العقل المؤدلج، أو المصاب بداء العصاب الأيديولوجي إلى مختلف الحيل وأساليب المداورة والمناورة والالتفاف بحثاً عن مخارج آمنة من هذا المأزق، ومثل الذي يسير على الرمال المتحركة يغوص في الرمال أكثر كلما تحرك أو حاول الخروج . وما ذلك إلا لأن العقل هنا تنازل عن وظيفته النقدية وموقعه الحيادي ليصبح هو نفسه جزءً من المشكلة التي يحاول البحث عن علاج لها. هذا التخبط والارتباك كشف عن نفسه دفعة واحدة في حلقة حوارية بقناة الجزيرة خصصت لمناقشة موضوع "السودان بعد الانفصال" ، حيث قال رداً على سؤال مقدم الحلقة الحبيب الغريبي الذي سأله قائلاً " قلت مرة، إن أكثر ما يقلقنا إذا لم يتحرك القادرون على إصلاح الأمور هو أن يتأرجح أمر البلاد بين السيناريو الليبي والسيناريو الصومالي، يعني ما المطلوب كوصفة إصلاح؟ ولماذا يعني اخترت السيناريوهين وبين البينين ؟ " . (34) فرد صاحبنا "أنا أرى أن الحكومة طبعا على خطأ، لكن أيضا أرى أنه المعارضة المسلحة على خطأ ،يعني نحن في ردة الآن، يعني لو قلنا نحن وصلنا بعد اتفاقية السلام الشامل إلى مرحلة أصبحنا فيها أقرب إلى السيناريو المصري، بمعنى أن هناك توجه نحو توحد السودانيين حول برنامج لا أعتقد أن كثيرين يختلفوا عليه، أنه السودان لا يصلحه إلا نظام ديمقراطي تعددي يقبل بالآخر ويكون منفتح وشفاف، ويختار فيه الشعب ممثليه، فهذا الأمر يحتاج إلى أن يكون الأجندة السودانية وأجندة السودانيين موحدة إلى حد كبير، ما حدث في مصر وتونس وإلى حد ما اليمن أيضا أن كل قوى المعارضة أصبحت أو حتى القوى التي كانت تدعم النظام، الأنظمة السابقة، كلها اعترفت بأن هذا النظام ديكتاتوري " (35). فهو – أولاً – يفترض تطابقاً وتماثلاً بين تجارب اجتماعية وسياسية لا وجود له إلا في ذهنه ،وهو نوع من المقارنات يفرضها المنطق الأيديولوجي، وقد تحدثنا من قبل عن الفوارق بين التجارب الثورية وطبيعة القوى الاجتماعية والسياسية ودورها في السودان مقارنة بمثيلاتها في مصر. ثم هو يفترض – ثانياً – إمكانية التوصل إلى حل سلمي وعادل لمشاكل السودان تشارك فيه، وتكون جزء منه النخبة التي انقلبت على خيارات الشعب السوداني كله قبل أكثر من عقدين واستولت على السلطة منفردة خلالها مطلقة اليد ، علماً بأنه سمع بأذنيه بعض قادة هذا النظام بدءً من رئيس حزبه يقولون بأنهم استولوا على السلطة بالبندقية ،وعلى من يريد أن ينتزعها منهم أن يلجأ للبندقية ،وحتى إذا لم يسمع من يقول ذلك منهم ،فإنه يعرف بأن هذه الطغمة لم تفاوض سلمياً إلا من حملوا السلاح في وجهها، لذا فإنه حين يقول بأن المعارضة المسلحة تتقاسم وزر الأزمة مع السلطة فإنه في أحسن الأحوال يكيل بمكيالين ،أو يصر على أن يرى وجها واحد للصورة ليبني عليه حكمه، أو كأنه يبحث عن مبرر لتسلط هذه "الجماعة". نتفق معه في ضعف المعارضة الحزبية الشمالية سواء اتفقنا مع ضيف الحلقة الآخر الحاج وراق الذي أرجعها إلى قمع الحكومة العنيف، وإفسادها الحياة السياسية بالتجسس والرشاوى، أو اتفقنا مع الأفندي الذي يقول ساخراً بأن " لم تحدث انتفاضة في الخرطوم لأن المعارضة مشغولة بالتعبئة في واشنطن"، ومبدياً دهشته بأن المعارضة حتى الآن في السودان، مع إنه في أحزاب كثيرة وهي لها مكاتبها وصحفها ووجودها في الميدان، لم تستطع أن تحشد ألف متظاهر في قلب العاصمة، ناهيك أن تأتي بعشرات الآلاف، فإذن الإشكالية ليست أن المعارضة مقهورة أكثر من اللازم، بالعكس، ربما تكون مستوعبة أكثر من اللازم ولا تجد حافز للتحرك لأنه قد يكون حتى إذا حكمت ربما كانت ستتناول وهذا يفسر ما ذكرته من أن بعضهم استقطب في الإطار الحاكم، فالمطلوب الآن في نظري أن هو أن يتحرك المفكرون والسودانيون " (36) لوضع صيغة لإنقاذ السودان من جحيم منقذيه!. ثالثة الأثافي في تحليل الأفندي – إذا وصفناه تجاوزاً بهذا – انه يطرح حله على النحو التالي "لو قلنا نحن وصلنا بعد اتفاقية السلام الشامل إلى مرحلة أصبحنا فيها أقرب إلى السيناريو المصري، بمعنى أن هناك توجه نحو توحد السودانيين حول برنامج لا أعتقد أن كثيرين يختلفوا عليه، أنه السودان لا يصلحه إلا نظام ديمقراطي تعددي يقبل بالآخر ،ويكون منفتح وشفاف، ويختار فيه الشعب ممثليه، فهذا الأمر يحتاج إلى أن يكون الأجندة السودانية وأجندة السودانيين موحدة إلى حد كبير" (37) . إلى هنا وللمرة الألف تجد نفسك متفقاً مع هذه الرؤية وهكذا حل، ولكنه لا يلبث أن يضع لك العقدة على المنشار بشرط ينسف تماماً هذا الحل وهذه الرؤية، فهو يشترط لنجاح هذا الحل أن "يقبل بالآخرين كمان، يعني الإسلاميون لا يزالوا رغم ما يقال عنهم أنهم ما يزالوا أكبر قوة في، أو قوة يعني لا يمكن إقصاؤها يعني، يجب أن نتوحد" (38). كيف يمكن أن يعقل هذا ؟ . كيف يمكن أن تكون الأقلية السياسية – حسب آخر انتخابات ديمقراطية – التي اغتصبت السلطة بإنقلاب عسكري وتحكمت في السودان وعاثت فيه فساداً وإفساداً ومزقته إلى بلدين، وهو قاب قوسين أو أدنى لأن يكون أربعة بلدان، وقتلت وارتكبت مجازر جماعية واغتصبت وعذبت وشردت، كيف يمكن أن تكون جزء من حل المشكلة ،التي لتعاستها لا يوجد حل لها إلا باستئصالهم من جسد الحياة السياسية السودانية ؟ . !! . وكيف تكون الأحزاب المعارضة لها – وهي مستوعبة كما قال في نظام الأقلية الإسلاموية – شريكة لها في حل المشكل السوداني المزمن ؟ ! . ولكنه لا يستطيع أن يتصور حلاً لمشكلة السودان لا تكون هذه الجماعة جزء منه ومشاركة فيه ،بل وواضعة ومنفذة له واقعياً ..! يريد الدكتور الفاضل ل (أم جنقر) أن تأكل خريفين !! (39) . يقول لك هذا ، رغم أن التجربة التاريخية لأكثر من ستين عاماً ،منذ دولة المهدية ،وأكثر من ضعف هذه المدة ، قبلها ،منذ دولة سنار ،أثبتت فشل النظام السوداني ،بتعاقده الاجتماعي والسياسي المجحف ، والمفروض فرضاً على الأغلبية ، وغير المصرح به ، وغير المعلن عن تحقيق الوحدة والاستقرار والأمن لهذا الوطن الذي ظل "مؤقتاً " وافتراضياً إلى اليوم ! . ويقول ذلك رغم أن الحيثيات التي أوردها بنفسه تؤكد بأن بداية الحل ، أو قل أن الإطار العام لحل المشكلة السودانية ، ينبغي أن يكون، ليس هو إسقاط نظام الإنقاذ ومعارضته الحزبية فقط، بل وتفكيك "النظام السوداني" الذي ظل قائما منذ ممالك وسلطنات سنار والفور وتقلي والمسبعات برمته. أولا لأن المشاكل التي يعانيها السودان اليوم لم تجيء مع الاسلامويين تحديدا وإنما هي متوارثة قديمة ، وبالتالي فان حلها لا يكمن في حل هذه الحكومة ، سواء بقي البشير في الحكم أم قادته خطواته إلى لاهاي، وسواءً تحقق ونجح مخطط القوى الإسلاموية والمحافظة في حلم الإئتلاف الكبير أم لم يتحقق .وبالتالي ليس الحل هو إعادة إنتاج نفس النظام كل مرة ، وبعد كل ثورة ، لتظل "أُم جِنْقِّر " تأكل خريفاً تلو خريف متحدية قوانين الطبيعة التي ضبطت ايقاع دورة حياتها بأكل خريف واحد لا يزيد . لقد أكلت "أرضة " التجارب التاريخية عصا موسى النظام السوداني الميت "مِن زمان " !! . "شوفو حاجة تاني " . عزالدين صغيرون [email protected] هوامش * صالح بشير : صحيفة الحياة اللندنية ، بتاريخ ( 28/12/2008م ) . (1) عبد الوهاب أفندي ، مستقبل السودان بين سيناريو مصر – تونس وسينريو الصومال . http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=8290 تأريخ الطباعة : 2011 20 February (2) عبد الوهاب الأفندي ، نفسه. (3) نفسه. (4) ، (5) ، (6) : نفسه. (7) عبد الوهاب الأفندي ، مستقبل السودان بين سيناريو مصر – تونس وسيناريو الصومال . http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=8290 تأريخ الطباعة 20 February 2011 at 7:50am (8) سابق (9) عبد الوهاب الأفندي ، مطالب التغيير والإصلاح في السودان : أمام النظام أيام لا أسابيع حتى يحسم أو يحزم . http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=8347 تأريخ الطباعة 04 March 2011 at 8:47pm (10) عبد الوهاب الأفندي ، هل فات أوان الاصلاح في السودان ودقت ساعة الثورة؟. http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=8396 تأريخ الطباعة 24 March 2011 at 6:09am (11) السابق . Abdulwehab El-Affendi(1991) Turabis Revolution: Islam And(12) Power in Sudan.Grey seal, London P.148 نقلا عن : د . فرانسيس دينق ، صراع الرؤى : نزاع الهويات في السودان ، ترجمة د. عوض حسن محمد أحمد ، مركز الدراسات السودانية /القاهرة ، الطبعة الأولى (1999م) ،ص(158). (13) صلاح سالم "مفهوم الوطنية وفقه المواطَنة لدى الإسلام السياسي " صحيفة الحياة ملحق تيارات السبت 8 سبتمبر 2012 . (14) عمار أحمد آدم "الوطنية ليست من فكر وثقافة الاسلاميين " المنتدى العام للجالية السودانية الامريكية/23 April 2012 at 1:36pm http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=9243 (15) عبد الوهاب الأفندي ، هل فات أوان الإصلاح في السودان ودقت ساعة الثورة؟. http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=8396 تأريخ الطباعة 24 March 2011 at 6:09am (16) ، (17) ، (18) ، (19) ، (20) ، (21) : السابق . (22) عبد اوهاب الأفندي "هل أصبح المشروع الإسلامي عقبة أمام وحدة السودان؟" موقع سودانايل بتاريخ الجمعة , 06 آب/أغسطس 2010 . (23) د. أحمد مصطفى الحسين "رد على مقال د. عبد الوهاب الأفندي : هل أصبح المشروع الإسلامي عقبة أمام وحدة السودان ؟ "موقع سودانايل الجمعة , 13 آب/أغسطس 2010 . (24) السابق (25) نفسه. (26) نفسه. (27)عبد الوهاب الأفندي ، مستقبل السودان بين سيناريو تونس – مصر وسيناريو الصومال http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=8290 تأريخ الطباعة20 February 2011 at 7:50am (28) روبرت وورث " المثقفون العرب الذين لم يزأروا " المقالة نشرت في 30 اكتوبر 2011 ، ونشرها موقع المسبار بالعربية ،بإذن من الجريدة. رابط المقالة: http://www.nytimes.com/2011/10/30/su...f=robertfworth (29) عبد الوهاب الأفندي ، أين هي الثورة السودانية http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=8462 تأريخ الطباعة 10 April 2011 at 4:29pm (30) : السابق. (31) ، (32) ، (33) : نفسه . (34) عبد الوهاب الأفندي : هل آن أوان استقالة الحكومة السودانية؟. http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=8568 تأريخ الطباعة: 27 May 2011 at 6:12p (35) : سابق . (36) نفسه. (37) عبد الوهاب الأفندي "حكومات الفلول في وادي النيل" المنتدى العام للجالية السودانية الامريكية، تأريخ كتابة الموضوع: 09 December 2011 at 12:00pm http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=9011 (38) عزالدين صغيرون "الوضع الصحيح للعربة ليس أمام الحصان: رداً على د.حسن مكي/2" مجلة الملتقى ‘ العدد (124) ، بتاريخ أول أبريل 1995م ، الخرطوم. (39) السابق. (40) نفسه. (41) نفسه. (42) قناة الجزيرة "السودان تحديات ما بعد الانفصال" ، برنامج "في العمق" مقدم الحلقة: الحبيب الغريبي ضيفا الحلقة: الحاج علي وراق/ رئيس تحرير صحيفة حريات الإلكترونية وعبد الوهاب الأفندي/ أستاذ العلوم السياسية في جامعة ويست مينستر، تاريخ الحلقة: 12/3/2012 (43) قناة الجزيرة ، سابق. (44) قناة الجزيرة ، سابق. (45) نفسه. (46) نفسه. (47) يضرب هذا مثلاً في غرب السودان لنوع من الطيور لا تعمر أكثر من عام فالطائر منها إذا حضر خريفاً لن يمتد به العمر ليشهد خريفاً آخر، لذا يقولون "أم جنقر لا تأكل خريفين".