حينما قامت ثورة أكتوبر عام 1964 كانت جبهة الهيئات هي الوعاء الشامل الذي لم يستثني أحدا عن المشاركة في ادارة دفة المد الثوري الشعبي الذي أفضى الى تنازل حكومة الفريق عبود بعد ان تمنّع الجيش عن ممالا ة الحكم في قمع حركة الشارع ، ورغم أن الرايات اليسارية كانت هي الأعلى عند ساحة المشهد وحتى في ملامح التشكيل الوزاري الأول بعد تنحي عبود وجماعته ، ولكّن سرعان ما تكالبت القوى الأخرى على الرفاق وأطاحت بهم ، ولم يكن وقتها من خيار أمام التيار الاسلامي الذي كان يحلق في فضاءات خفيضة بريشاته الطرية الا الاندساس وسط الكبار حتى حينما صّوت معهم رافعا أصبع نائبه الوحيد الدكتور حسن الترابي معترضا على مشروع محاكمة عسكر عبود ، ليدق أول مسمار في نعش ادعاءاته الثورية وبالتالي انشقت عصاه عندما أعلن أحد أعمدته التي قام عليها بانضمامه الى الحزب الوطني الاتحادي احتجاجا على ذلك الموقف من جبهة الميثاق الاسلامي وهو الراحل / الرشيد الطاهر بكر ! بل وأردفت جماعة الاخوان المسلمين مسمارا آخر في ديمقراطية ما بعد أكتوبر حينما فجرّت فتنة في الشارع سرعان ما تبنتها الأحزاب الكبيرة من داخل البرلمان وكسرا لقرار المحكمة الدستورية التي قضت بعدم دستورية حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه الأحد عشر على خلفية ادعاء انتساب الشاب وقتها شوقي الى كوادره و الذي اتهم بالاساءة الى الرسول الكريم وزوجاته امهات المؤمنين المحصنات ! وكان ذلك الموقف هو ما أعاد الكرة الى ملعب العسكر ولكن هذه المرة ليلعبوا في البداية بفنلات حمراء اللون ، وكانت ستة عشر عاما من تقلبات نميري من أقصي اليسار والى الوسط واليمين وهو يمخر بسفينة حكمه المشققة وسط خضم الدماء التي أسالها في كل الدروب الى أن انتهى به المطاف الى حلف أودى بنظامه بعد أن وضع يده على يد الاسلاميين الانتهازية ، التي لم تكف عن دأبها في نقض العهود مع من تتحالف معهم أو سرقتها للثورات الجاهزة ، فلم تكن تمثيلية اندماجهم في تعددية ما بعد ثورة أبريل الا تمويها لفعلتهم الشنيعة التي يدفع ثمنها شعب السودان الان ، تفتتا وحروبا وفقرا وانحرافا أخلاقيا وتعديا على المال العام وانهيارا اقتصاديا وانقطاعا عن العالم وتغربا ونزوحا و لجئوءا حتى ناحية ضعفاء الجيران ! هذا هو ديدنهم في كل مكان ، ومنذ بواكير نشأتهم فهم من أدخل الاغتيالات والعنف السياسي الى درجة التصفيه البينينة داخل جماعتهم منذ حادثة اغتيال شيخهم حسن البنا التي حامت شبهة تنفيذها أو خيانة الترتيب لها حولهم عقب اغتيالهم للنقراشي باشا رئيس حكومة الملك فاروق ولطالما تناقضت حينها مواقفهم النفعية المكشوفة وهم يراوحون مابين القصر تارة والتلمظ للسلطة تقربا من موائد الأحزاب المصرية الأخرى! ومن ثم محاولتهم التزلف فيما بعد الى ثورة يوليو ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر بعد أن رفض تملقهم اليه وهو الذي ما لبث أن قلب عليهم ظهر المجن ونكّل بهم الى أن التفوا من بعد غياب عبد الناصر حول السادات وقضوا عليه فاتحين بابا واسعا للارهاب السياسي الذي ضرب أطنابه في ربوع مصر ومن ثم باتوا يتباكون خلف القضبان واعتبروا أنفسهم ضحايا وهم في الواقع أس الجرم ! وقد تفرخت عنهم جماعات ونحل باتت تشكل خطرا ليس على الامة الاسلامية فحسب بل على الانسانية جمعاء ! لا يستطيع أحد أن يبريء ساحة كيان ما أو حزب واحد في السودان من تخريب صورة المشهد السياسي المهتزة بقوة منذ استقلال الوطن أيا كان موضعه يمينا أو وسطا أو يسارا وهو قول تقتضيه أمانة الطرح بتجرد وحيادية تامة ، بيد أنه قياسا الى سنوات حكم الاسلاميين للبلاد التي تجاوزت الثلاثين عاما اذا ما حسبنا ضمنها السنوات الأخيرة من سيطرتهم على زمام الأمور في غمرة تغييب النميري مخدرا بسحرهم الذي أخذ بقية عقله ، فان الاسلاميين في قالبهم السياسي المهيمن الان على المشهد هم من حاز قصب السبق في تدمير هذا الوطن ، بل ولا زالوا يحلمون بان يكونوا هم البديل لأنفسهم كحركة اسلامية في حالة سقوط حكمهم الهرم الحالي وربما يكونوا أكثر جاهزية لسرقة أو على الأقل عرقلة أى بوادر لبديل ديمقراطي قادم ، انطلاقا من قوة قبضتهم على مفاصل الاقتصاد والقوات المسلحة وانتشار سوس شبيحتهم الأمنيين ومليشياتهم داخل ثنايا المجتمع ، فهم كائنات لا تستطيع العيش في مياه التداول الصافية للحكم ، وان اضطروا هنا او هناك أو تظاهروا بقبول الديمقراطية من قبيل التضليل المرحلي فقط الذي يفضي الى التمكين الكامل ، اذ هم اكثر قابلية للانغماس في عكر البركة السياسية والاختباء فيه كالطفيليات والطحالب ! لذا فليست المشكلة في ازاحة نظامهم ، بل في تدبر تجنب دخولهم من نافذة البيت اذا ما طردوا من الباب ، وهذا يتطلب وعيا ثوريا حاسما لاستئصال شآفة خطرهم من جذورها بتدمير كافة مصادر قوتهم التي تمكنهم من الالتفاف على القادم في الطريق أيا كانت المسافة المتبقية لوصوله ، وليست هذه دعوة لتأصيل شريعة الفوضى في مواجهتهم حينها ، وانما بترسيخ العدالة التي تتأسس على بناء القوانين الثورية لعزلهم سياسيا واستعادة ما سرقوه واعادة ترتيب القوات المسلحة وكافة القوات النظامية والأمنية ونزع سلاح مليشياتهم المخبوءة والمرئية وتحصين دور العلم من اختراقهم للعقول الصغيرة وتفعيل كافة التحوطات باضاءات تجاه كل الزوايا تزيل ظلالهم التي قد تتربص الدوائر بمستقبل الوطن بعد دحر نظامهم الذي لن يطول عمره . وقد تكون الدروس المستقاة من واقع الحال على المدى القريب الان في بلدان الثورات التي سرقوها دانية بعد أن تدلت ثمارها مسقية بدماء الشعوب ، خير دليل على انتهازيتهم وخطرهم على الثورات ، سواء في مصر أو تونس ربما باستثناء ليبيا الى حد ما ، مستغلين جاهزيتهم المادية والتنظيمية و حاجة الناس وعوزهم ولوجا الى صناديق الاقتراع المثقوبة في بلدان لم تكتمل فيها دورة الثقافة الديمقراطية الواعية بعد وهي الخارجة لتوها من دكتاتوريات مسحت من ذاكراتها تلك المفردة، وحتى ثورة الشعب السوري باتت تتراجع أمام تخوف العالم من خطرهم بعد أن خلط تدخلهم الأوراق وان كانوا حاملين للسلاح ولهم تاثيرهم في ايلام قوة النظام السوري على الأرض، فدفع الخوف منهم كبديل سيء كثيرا من القلوب التي أوجعها طويلا حكم ال الأسد وبعثه ، لتعود مرة أخرى عن وجعها ذاك وهي تنبض حنينا الى ظلم الأسد خوفا من خطرهم وقد بانت مناظره قبل بدء تشغيل شريطهم الممل ، فهم لا يختلفون في العقلية وان تلونوا تدرجا من الانتهازية الاخوانية التي تركز على كتف المصالح الدنيوية تقطيعا بسكين النفاق الديني وانتهاء بالجهالة التنطعية التكفيرية التي تسعى لتجريد الآخرين من الحياة ، ظنا منها ان في ذلك ، طريقا يفضي بهم الى انفتاح باب الجنة في وجوههم التي أخليت لهم بترحيل كل من يعاديهم الى النار ، وهم ان كانوا لايعلمون فان قتل النفس البريئة الواحدة دون وجه حق، قد يجرد قبورهم من نور الرحمة قبل النفخ في الصور ، وحينها فالأمر لله من قبل ومن بعد ! انه المستعان .. وهو من وراء القصد .. [email protected]