مكث في الشام يراقب فوارق تنمو وتكبر بين رجال الحكم، وإستغلال بني أمية لقرابتهم بعثمان بن عفان رضي الله عنه ذلك الرجل الحيي الذي تستحي منه الملائكة، ولكن لا يستحي من الطلبات فوق طاقته أولئك الذين لم يموتوا وفارقهم الذين إختشوا. وكان على رأسهم معاوية بن أبى سفيان، و مروان بن الحكم الذي قيل إنه كان يأخذ نصف خراج أفريقية لوحده وبين عموم المسلمين، خصوصا بعد أن تدفقت الأموال بعد الفتح من مصر وبلاد الفرس، فآثْرت نخبة من المسلمين وبقى كثيرون على حالهم بل و إفتقر جدا كثير من الناس حتى إنهم صاروا ممن لا يجدون قوت يومهم. ويتذكر أبا ذرّ حديثه مع رسول الله حين سأله: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفئ؟) فقال قلت: "إذًا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق بك". فقال: (أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني). يصبر على قول الصدق والحق ولكن لا يشهر مهنده لأن سيفه هو لسان صدقه. ولعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يريد لأباذر أن يكون من المشاركين في الفتنة الكبرى. فأشهر أبو ذر سيفه ليثور للفقراء فالتفوا حوله، كان يسعى طول الوقت لجذب الأنظار إليهم. تحولت كلماته إلى شعارات تتردد فى تجمعاتهم. وكان أبو ذر يقول: "عجبت لمن لا يجد القوت فى بيته كيف لا يخرج شاهرا سيفه على الناس." فهذا ليس تحريض ولكن حثهم على عدم الركون وشئ من قبيل ما كان يقوله الفاروق عمر رضي الله عنه: "إذا رأيتم فينا إعوجاجا فقومونا بسيوفكم". فأثارت هذا الشعار حفيظة سكان القصور واعتبروها تهديدا، فأرسلوا له العطايا والأموال، لكنه لم يركن وانتصر للفقراء من جديد، فقال أبو ذر: "لا حاجة لى فى دنياكم." ثم زادهم فقال: "إذا سافر الفقر إلى مكانٍ ما قال الكفر خذنى معك.". فالفقر يتبعه كفر. فهو يخاف على الدين لأن الجوع كافر. فكان أبو ذر يحمل الكبار مسؤولية أن يفقد الفقراء دنياهم ودينهم. فأرسل معاوية إلى عثمان رسالة يقول فيها "إن أبا ذر قد أفسد الناس فى الشام". فطلب إليه أن يقابله ويناقشه. دخل أبو ذر على معاوية قائلا: أذكّرك بقول الله: ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)) [التوبة: 34]. قال معاوية: نزلت فى أهل الكتاب. رد بخبث ودهاء ويقول نزلت في أهل الكتاب، كالذين لا يعلمون الحكمة من قصص بني إسرائيل الكثيرة المذكورة في القرآن هي لتذكرتنا نحن لكي لا نقع فيها وليس للتسلية والتقريع على أهل الكتاب. فهذا القرآن نزل علينا نحن المسلمون. لم يكن أبا ذر رجل ثائر وجياش فقط بل عالم. فقد سأل الإمام علي عنه فقال: ذلك رجل وعى علما عجز عنه الناس ثم أوكأ عليه فلم يخرج منه شيئا. وقيل إنه كان يوازي عبد الله بن مسعود في العلم. لذلك رد عليه أبو ذر حاسما: نزلت فيهم وفينا. وأبو ذر كان لا يهدأ له بالا ما فتئ يناطح الطغاة ويناصر الفقراء ليسترد لهم حقوقهم و يصرخ في وجه معاوية: أغنيت الغني، وأفقرت الفقير. في إشارة واضحة لفساد سياسته. وكان يتحدث في كل مجلس و زواية وركن و زنقة زنقة ويقول: وبشر الكانزين بمكاوٍ من نار، ((والذين يكنزون الذهب والفضة..)). وكان معاوية يخطب الجمعة ويقول: المال مال الله وهبنا أياه ونحن نضعه حيث يشاء. ومرة قال لهم: إن هذا المال مالنا، والفئ فيئنا، فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه. فقام واحد من الناس فقال له: لا والله بل المال مالنا والفيئ فيئنا، فمن منعنا إياه حاكمناه إلى الله بسيوفنا. فعرف معاوية بفطنة أن هذا من أثر أبو ذر. فحاول أن يعطوه مالا فرفض وقال: إن كان هذا من مالنا أخذناه ولا حاجة لي بما غيره. فأرسلوا له بألف دينار وقالوا له هذا نصيب من مالك، فلم يصبح لليوم الثاني إلا وهو منفقها كلها في سبيل الله على الفقراء والمساكين. كيف لا وهو قدوته رسول الله الذي لا يكنز بالحلال لا درهم ولا دينار. ويواصل أبا ذر ثورته وتحريضه: وبشر الكانزين بمكاوٍ من نار، ((والذين...)). ثم يذهب به مع الفاتحين لفتح قبرص ويرجع ليواصل ثورته وتحريضه: وبشر الكانزين بمكاوٍ من نار، ((والذين...)). وهدد بالفقر والقتل ولكن هذا هو أبو ذر، لا ترغبه بدر حاضرة ولا ترهبه أو تفزعه سيوف شاهرة و لا يستطيع كائن من كان أن يغمز قناة ثباته وصموده وصبره. فمنع منه الرزق ولم يبالي ولم يثنه ذلك بالسكوت وقال لهم: والله إن الفقر لأحب إلى من الغنى، وإن باطن الأرض أحب إلى من ظاهرها. فيوقن معاوية أنه لا منفذ للهروب من مواجهة هذا الرجل إلا بإقناع عثمان رضي الله عنه بثنيه و إبعاده عن هنا. فأرسل يجدد الشكوى لعثمان، ليرسل الأخير لأبي ذر لمقابلته بنفسه. وعند مشارف المدينة رأى أبا ذر بلوغ البناء سلعا فتذكر كلام الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار". ودخل على عثمان والذي كان يعلم أن أبا ذر رجل صدوق و وفي لمبادءه ورأيه. تحدثوا حتى إرتفعت أصواتهما، ثم خرج أبو ذر على الناس مبتسما، فسألوه: ما لك ولأمير المؤمنين؟، فقال: سامع مطيع، متذكرا كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (...إصبر حتى تلقاني). إصبر على الحق والمطالبة به وأشهر سيف الصدق دون أن ترق الدماء. و لولا وصية النبى بالسمع والصبر وعدم شهر السيف ربما تغير الأمر. وفى المدينة وجد أبو ذر صدى لدعوته الثورية، فالتف حوله الفقراء من جديد، وشعر بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه. [email protected]