تولستوي مغادرا موسكو حينما فضل التشرد على حياة الشهرة مع الفارق الكبير في العطاء بينه وبين تولستوي هو يتقاطع معه في النهاية الأليمة ذاتها ، وقع الحافر على الحافر. والمفارقة ان تولستوي غادر حياة الدفء والمال والشهرة بمحض إرادته واختار حياة التشرد ، صاحب الحرب والسلام عندما اختار ذلك وضع نصا لا زال الكرملين يضعه بمتحفه بقاعته الرئيسة كمفخرة للأدب الروسي كتب الروائي العجوز وهو بعمر 82عاما (1828 – 1910م) لزوجته: أشكرك على ثمانية وأربعين عاما من الحياة،وإني لا أفعل شيئا كبيرا، فقط ما يفعله الناس بعمري.. يذهبون بصمت ولا يعودون أبدا. .. توكأ عصاه وسار حتى أخذته الطرق لمحطة قطار نائية متجلّدة، حيث تجمدت رئتاه ومات. . ولولا ان بهنس حسب ما أكده أصدقاؤه أصيب بحالة نفسية لشككت انه أراد النهاية نفسها ربما إعجابا بعظماء! غير ان الحقيقة غير ذلك، الرجل توفى بردا وجوعا رغما عنه وكشف عورتنا كمجتمع قبل الدولة، والله لا اعرف هذا الشاب ولكني اعرف قبيلته! ومشاكلها! قبيلة المبدعين، ليست القبيلة الجهوية التي انحدرنا إليها يا رعاك الله، إنهم الرسامون والنحاتون والموسيقيون ممن يضيفون لحياتنا ألقا ومعنى فبغير أناملهم لا نشعر بسحر القمر ولا بجمال ضوء الصباح ولا بروعة جروف النيل ولا بقيمة النخيل والنيل، الأمم المتحضرة تحتفل بيوم للنحت من الرمال من النحاتين، وبأيام للرسامين وتسهر مع الموسيقيين وتقيم مسابقات السباحة الرياضية على أنهارها ، متى نقيم مهرجان لسباق الهجن والخيول لكل قبائل دارفور بالعاصمة بدل الاقتتال العبثي. بهنس، لا اعرفه ولكني حزنت عليه جدا ، كيف يحدث ذلك وفي زماننا هذا كثر الطعام وتنوعت أصنافه و يترك الكثيرون ثلاث أرباع الموائد ويقومون عنها ، لن أتحدث عن الملحق الثقافي للسفارة بالقاهرة فهو بالتأكيد يهمه زيارة عائلته وأطفاله بنهاية الأسبوع الى شرم الشيخ والغردقة ومشغول ببناء منزله بشارع الستين المعمورة. بربك كيف مددت يدك لتناول أطفالك طعام العشاء في ذلك اليوم البارد. بهنس أسرته الصغيرة أيضا قصرت في حقه فالمبدع والضعيف من الأسرة لا يترك هكذا، يعالج ، نتسامح عن أخطائه، نعفو، ما الذي جرى للسودانيين حتى داخل الأسرة الصغيرة، انه الإرهاق الاقتصادي من الدولة للناس هو الذي أدى الى هذه التداعيات. لقد فجعت قلبي يا بهنس وأنا لا أعرفك ولكن رأيت المشردين مثل كثيرين، نعم وأنا طالب جامعي مطلع التسعينات وكان جلهم ولا زالوا من مناطق الحرب من إخوتنا من جنوب السودان وللهروب من مساعدتهم ولتلافي تأنيب الضمير يسميهم المجتمع و الناس بالشماسة ، عند بيوت الأفراح مقابل بعض الأعمال يعطوهم بعض الطعام عددهم الآن بآخر إحصائية لولاية الخرطوم 2600 مشرد ، لو ان حول الخرطوم تحول الى مزارع منتجة وسندسا اخضرا يمكن ان تبنى لهم منازل صغيرة مرفقة بالمزارع ويتعلموا قيادة التراتكورات والحاصدات ويكون لهم مرتبا ويتناولون ثلاث وجبات كاملة من يقرع الجرس. كانوا من الجنوبيين ، الآن ذهب الجنوبيون مع مشرديهم كطير رهو غريب سافر عشية ، لم يذرف الكثيرون الدموع عليهم بل ذبح الطيب مصطفى وسعد احمد سعد ثورا اسودا ابتهاجا، لا اعتقد أنهما الطيب وسعدا يزرفان دمعة على مثل بهنس! لقد سطوا على حياتنا بليل و قتلوا كل قيم الجمال فيها، شعارهم الموت للمبدعين بتهجيرهم و طمسهم ومنع التلفزيون عنهم و الجلد للنساء حتى ليهيأ لك انه بدل ان يحمل لهن السعد يحمل لهن الجلد ثم الجلد، مسرح امدرمان القومي الوحيد الذي وجدوه قبل ربع قرن لا زال وحيدا تتناوش مريديه موجات الحر والغبار ، لا تنتظروا من فكرهم ان يبني مسارح مغلقة مكيفة مجهزة .أبدا ذلك لن يكون. حينما نذهب الى إجازاتنا بالسودان، من يقرعون زجاج السيارة يطلبون الصدقات سواء من كبار السن الطاعنين او الأطفال المشردين الآن هم من الزيداب والعبدلاب والحسانية والفور ومن جبال النوبة ومن أهلنا من كردفان من كل أنحاء ما تبقى من السودان، زمان كانوا من الجنوبيين ربما كانت الحرب حاجزا نفسيا للمساعدة وربما العنصرية ، الآن ما الذي يمنع المجتمع من المبادرة بصورة جادة للأخذ بيد الضعيف.ويأوي المشردين. من سوء حظ بهنس انه لجأ الى القاهرة مهاجرا وللأسف هي المنطقة الرخوة في خيارات الهجرة للسودانيين ، والغريب انه ذهب قبلها الى ألمانيا وفرنسا وأقام معارضا فكيف لم يتسنى له التفكير بتطوير نفسه هناك في إحدى المعاهد او الجامعات الغربية، لكان اغتنى ماديا واشبع نهمه الفني والمادي واشبع جوعه بدل سؤال اللئام بمطعمي الخرطوم والسودان بالقاهرة ، عيب كبير أن لا تطعم سودانيا يسألك الطعام وأنت في مطعم ، يا الهي ...ما الذي جرى لمشاعر هؤلاء الناس هناك وفيهم التجار والمقتدرون والسائحون ، في بلدان الخليج حيث نعمل لن تجد بفضل خير هذه البلدان سودانيا جائعا ، ربما مفلسا نعم ولكن جائعا لا، إذن القاهرة كانت خيارا سيئا ويقيم الكثيرون في أحياء فقيرة وبائسة وعلى الدولة ان تسأل نفسها ما الذي اجبر هؤلاء الناس وبلادهم ليست فقيرة على تلك الحياة البائسة. بهنس حتى وان كان يتعاطي شيئا لا سمح الله كما قد يتبادر الى ذهن الكثيرين فالأولى ان يعالج المبدع وغير المبدع ، قدم د. عمر محمود خالد ود مامون حميدة مئات الحلقات أسبوعيا عن امراض النساء والعقم وغيرها وهذا لا شك هام ولكن الا يبادران بحلقات عن ضرورة إنشاء مركز لمعالجة المدمنين للخمور والمخدرات ويقودون مبادرة مجتمعية للأخذ بيد الضعفاء والضحايا . نعود لفتح الباب للنقاش و شخصي يحمل ماجستير من كلية تطبيقية حتى لا تكون شهادتي لقبيلة المبدعين مجروحة والجدل هو قديم بجامعة الخرطوم حول أيهما يقدم للإنسانية أفضل أصحاب الحرف من مهندسين وأطباء ومحاسبين ام أصحاب العلوم الإنسانية الإبداعية، وفي الختام ألا يستحق خريجي الكليات النظرية الإنسانية الإبداعية وهي كليات الفنون الجميلة والموسيقى والمسرح نظرة اشمل بحيث يتم الالتحاق بها بالموهبة وبالمعاينات واختبارات القدرات قبل المجموع وان تهيأ لهم البيئة المناسبة واخذ أعداد مناسبة وكثير من التركيز الإعلامي عليهم وعلى أعمالهم ودعم المجتمع لهم بدل الموت غرباء و جوعا. طارق عبد الهادي [email protected]