دين الله واحد، و أول بيت له على الأرض كان وحيدا، و سيظل الأوحد في تلك المرتبة. ((إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين)) [آل عمران: 96]. فهذا البيت العتيق المبارك المطهر جعله الله قبلة الناس جميعا. ولكن بني إسرائيل لم يرضوا بهذا وجعلوا بيتا آخر يوازيه أسموه بيت المقدس والذي لم يرد ذكره في القرآن الكريم أساسا، وبرغم ذلك يعتقد جل المسلمين بصدقية هذه المعلومة الكاذبة. وهذا مسجد (إيلياء) ومعناه بيت الله المقدس. وهو مجرد مسجد كما كل المساجد بيوت لله. وسمى أيضا بأورشليم أي بيت الرب. فبيت المقدس ما هو إلا مسجد أقصى وبعيد من بيت الله الأصلي تعبد فيه أنبياء و صالحون متخذين بيت الله الأول كقبلة. وقد أذن أبوالأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالحج للناس لبيت واحد كرمز لوحدانية الله كما الآية في السطر الأول، و إنها القبلة الوحيدة منذ الأزل ولم تتغير كما سنكتشف ذلك لاحقا إنشاء الله. فبني إسرائيل أرادوا السيادة الدينية والتميز عن الناس ليستفردوا بالدين لأنفسهم ويجعلوه تجارة ليخدم أغراضهم الشخصية والدنيوية. فهم أهل الحق والحقيقة وحدهم، يهود فضلهم الله على العالمين فعلا بإرسال أنبياء ورسل كثر إليهم لهدايتهم، ولكنهم لم يراعوا هذا التفضيل فتكبروا. فيظنون بأنهم أولياء الله وأحباؤه الذين سيدخلهم الله الجنة دونا عن سائر خلقه، وغيرهم كفار فإلى جهنم وبئس المصير. فعمدوا على التضليل بإختلاف الرسل وبالتالي إختلاف رسالات دين الله. فرسخوا إن كل رسول له رسالة مختلفة ودين مختلف عن الآخر فيتفرق الناس ويدخلوا في صراعات ويسودوا هم. ليس ذلك فحسب، بل حتى بإدخالهم خلافات في الأديان التي تفرقت. والقرآن يكذبهم ويفضحهم ويقول لهم إن الدين واحد ((إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب)) [آل عمران: 19]. ولاحظ لكلمة "بغيا بينهم" التي تدل على تنازعهم وخلافهم. فكل سمى دين الله بإسم يروق له، وكل منهم يقول إن دينه هو الصحيح بزعم كل واحد منهم بأن مرجعيته هي الصحيحة. لذلك يقول رب العزة لهم: ((أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله)) [البقرة: 140]. ثم تقول لهم الحقيقة المدوية إن مرجعيتهم لصحة ما يدعون أساسا خاطئة: ((ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين)) [آل عمران: 67]. فمرجعية إبراهيم هي دين الله ((إن الدين عند الله الإسلام)). فدين الله الصحيح هو الإسلام لرب العالمين وليس الإسم في حد ذاته "الإسلام" كإسم يضع ليفرق ويصنف الناس، كما تود الإسرائيليات. فالمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله و لا يفرقون بين أحد من رسله لأنهم جاءوا بدين الله الواحد؛ وحتى رسول الله يقول القرآن عنه ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل))، فهو خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد غرست الإسرائيليات أول ما غرست أن إسماعيل ليس شقيق إسحق عليهما الصلاة والسلام- من نفس الأم. فإسماعيل هو إبن الجارية وإسحق ابن السيدة، وبعض الروايات الإسلامية تقول بأن الذبيح هو إسحق وليس إسماعيل. كل ذلك للإيحاء للمسلمين للشعور دوما بالدونية في قرارة أنفسهم ونسب نبيهم. وسارت هذه القصة كواحدة من قصص الخلاف بين أراء المسلمين لا يفسد للود قضية. ويجب أن لايكون هنالك خلاف أساسا في دين الله لأن هذه الفرية يحسمها القرآن العظيم. إذا قرأنا سورة الصافات بتمعن سنجد أنها تسرد ملمح عن قصة إبراهيم يوصلنا للحقيقة الفاصلة دون مزيد من الجدل والدجل. إبدأ من الآية ((وإن من شيعته لإبراهيم، إذ جاء ربه بقلب سليم،.....، فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين، وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)) [الصافات: 83-93]. تتحدث تلك الآيات عن دعوة قومه وتكسير أصنامهم ومن ثم الكيد لحرقه ثم مغادرة القرية. ثم يتواصل سرد الآيات (( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين)) [الصافات: 100-108]. ومن هنا عرفنا بأن إبراهيم هاجر ورزقه الله بغلام حليم، لم يذكر إسمه والآيات تقول إنه كان هو الذبيح. وبعدما إجتاز إبراهيم هذا البلاء المبين سيجازيه الله ويبشره بغلام آخر كما تقول الآيات التالية: ((سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين، وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين)) [الصافات: 109-113]. ليؤكد القرآن إنه رزق بإسحق بعد الحادثة لنقطع الشك بأن إسماعيل هو الذبيح. لم يحدثنا القرآن عن إمرأتين تنجبان ولدين مختلفين ولكن يحدثنا إنه ذهب إلى مكان ثاني ليخرج من القرية الظالم أهلها، التي كانت تعمل الخبائث، ودعاءه لله ليهب له من الصالحين، فأستجاب الله له برزقه بولد حليم. ويبتلى، هو و زوجته، بإمتحان في إبنهما الوحيد الذي أنجباه على كبر، ولكنهم يثبتوا ويصبروا ويجتازوا البلاء، فيجازيهم رب العزة بولد آخر بل ببشارة رؤية ولد ولدهما (حفيدهما) والذي سيكون إسمه يعقوب، مما جعل زوجته تتفاجأ وتستعجب فتقول الآية: ((وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب(71)قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب(72) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد)) [هود: 73]. فالله قد أنعم عليهما من قبل بإسماعيل وبارك لهما. ولاحظ لغة القرآن وتأدب ضيف إبراهيم -الملائكة- عند مخاطبتهم لها بتسميتها أهل البيت، فحسب عادة العرب إعتادت عدم نطق إسم المرأة. وأهل البيت هم أهل البيت العتيق، وهي إمرأة واحدة أنجبت الغلام الحليم وهو إسماعيل ثم الغلام العليم وهو إسحاق. و وصف القرآن لواحد بالحلم والآخر بالعلم فهذا إعجاز غير مسبوق. ومكث إبراهيم في أم القرى وبمعاونة إبنه الأكبر (البكر) يرفع قواعد أول بيت وضعه الله للناس ويطهره للطائفين والعاكفين والركع السجود. وتقول الروايات الإسرائيلية، التي يصدقها المسلمون، إنه ترك إسماعيل وأمه في وادي غير ذي زرع وهاجر، في تصرف لا أخلاقي ولا يصدر من إنساني عادي ناهيك عن نبي. وكيف لرجل كبير في السن أن يقوى على الهجرة. ولكنهم يريدون إيحاء التفضيل لأم إسحاق الوهمية ويرمون لزرع القدسية في مكان آخر قصي عن البلد الحرام، ليكون موازيا له في القدسية. ويجاريهم البعض مستدلا بالآية ((ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)) [إبراهيم: 38]، والتي يفهمونها بأنه تركهم وغادر غير رجعة. مع إن هذه الآية دعاء يمكن أن يقوله أي إنسان لا سيما في نهاية عمره عندما يرزق بذرية على كبر، وغير مطمئن لأن يهبه الله مزيدا من العمر لتربيتهم. فحينها سيدعو الله متمنيا منه عز وجل أن ييسر لهم الرزق والتوفيق في حياتهم. وكيف لإنسان على الكبر ولم يتبقى له كثير من العمر أن يهاجر!. فإذا إفترضنا إنه كان يعني إسماعيل وأمه فالآية التي تليها تنفي ذلك تماما وتؤكد إنه يقصد بذريته إسماعيل وإسحاق. فأقرأ: ((الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء)) [إبراهيم: 39] ويواصل إبراهيم الدعاء لنفسه أيضا ليؤكد إنه مقيم في البيت وليس مغادر له ليكون مقيما للصلاة في هذا المكان الطاهر ((رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء)) [إبراهيم: 40]. ليس ذلك فحسب، بل وعند وصيته الآية تقول ((ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [البقرة: 132]. أي تؤكد إن حين وفاته كان بحضور بنيه إسماعيل وإسحاق وحفيده يعقوب، بمكة. والآية التالية تكرر المشهد وتؤكد حفظ الحفيد للأمانة ووصية أبنائه بنفسها عند حضور أجله ((أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون)) [البقرة: 133]. فكلهم ماتوا على دين الله و أوصوا أبنائهم بالسير عليها، ولكن لا ندري أين توفى يعقوب عليه الصلاة والسلام. فهو لم يمكث بمكة بدليل إن القرآن يذكر إنه كان بالبادية ثم أتى به إبنه يوسف عليه الصلاة والسلام لمصر. والله العليم، فلربما إسحاق أو يعقوب أو كليهما غادرا مكة لينشروا دين الله في الأرض بعد وفاة إبراهيم، وتركوا عهدة البيت لإسماعيل كما أمره الله تعالى من قبل مع أبيه. فوصل إسحق ويعقوب إلى أقصى نقطة تمكنوا من الوصول إليها ليعبد الله في تلك البقعة. وحلت البركة بالمكان كله وحوله. ثم أنشأوا مسجدا لعبادة الله أسموه المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، والذي بالتأكيد قبلته تجاه أول بيت وضع للناس. ولكن بعض من هذه الذرية لم ترعى الدعوة وظلموا ولم تحافظ على الصلاة ليموتوا مسلمين كما أوصاهم نبيهم يعقوب أو كما يعرف بإسرائيل. فقد كادوا لأخيهم يوسف عليه الصلاة والسلام حسدا وغلا ويبدو إنهم بدأوا بتحريف لغة أجدادهم والتحدث بلهجة مختلفة عن لغتهم الأم بتقليب أحرفها وشقلبة الكلمات. وهذا يشبه تماما ما يتحدث به البعض بما يعرف "بالرندوق". فمثلا اللغة أسموها العبرية، وسلام ينطقونها شالوم. أو لربما إختلطت لغتهم بأهل تلك المناطق. ففي النهاية قد فرطوا في دين الله كما قال عنهم القرآن ومنهم ظالم لنفسه مبين. و على العموم فإن قلوبهم لم تكن سليمة، كقلب جدهم إبراهيم فهي مليئة بالحسد، و الحقد العميق المتجذر والذي أعماهم عن الحق والحقائق، ويضمرون بغض دفين وصاروا مجرمين يسفكون الدماء "ويقتلون الأنبياء المرسلين إليهم بغير حق"، أي ليس لديهم حق أساسا لقتلهم لأي إنسان ناهيك عن الأنبياء. فهؤلاء لن يغلبهم أن يكيدوا للبيت العتيق ليخلقوا بيتا مقدسا آخر ليقولوا إنه قبلة للناس أيضا ليكون من أكبر وهمات الإسرائيليات. *الحلقة القادمة الإثنين المقبل بإذن الله. [email protected]