من المؤسف أن نرى بلدنا في مؤخرة دول العالم في معظم المعايير الإنسانية في كل محفل. فقد إتفق المجتمع الدولي على مقاييس عالمية مختلفة لإصدار تقارير سنوية والتي كان آخرها تقرير الأممالمتحدة عن الشعوب الأكثر سعادة فى العالم لعام 2013، فجاء السودانيون فى قائمة اقل الشعوب سعادة فى العالم. ولكن ما دام الأسف إذا علمت مربطه. إسمح لي أن أستعرض معكك بعض التاريخ القريب عن جمهوريات الموز أو دول أمريكا اللاتينية التي كانت حتى عقد الثمانينيات من القرن الماضى، متذيلة دول العالم، ومتنيلة بستين نيلة، و تشبه دولتنا "دولة الكوز" وما نحن فيه. فقد أفقرتنا هذه الدولة وأذلتنا ومرضتنا مرض لا يعلم به إلا الله. كانت دول أمريكا اللاتينية مثلنا. دولا بائسة وشعوبها يائسة تئن من الفقر والمرض وترزح تحت وطأة التخلف السياسي والإقتصادي بالرغم من غناها بالموارد الطبيعية والثروات الهائلة. غالبية نظم الحكم فيها كانت عسكرية شمولية. وكانت حقوق الإنسان منتهَكة بالقوانين الديكتاتورية. فقد ظهرت حالات إختفاء لكثير من رجال ونساء سياسيين وحتى وأطفال، وتم قمع المعارضين بتعذيب وقسوة وربما تصفيتهم جسديا وقذفهم فى قلب المحيط!. ولان امريكا تسعى لمصالحها كانت واشنطن حليف رئيسي لتلك الحكومات. فقد أمدّتهم بالسلاح وأدوات التعذيب، ووفرت لهم الحماية السياسية الدولية بأن حصّنتهم في مواجهة أى محاولة للمحاسبة الدولية وإحكام السيطرة على شعوبهم. وعلى سبيل المثال قد قامت في تشيلى بمساعدة العسكر - الجنرال أوغستو بينوشيه – في قتل الرئيس المنتخب ديمقراطيا سيلفادور الليندى (1973) ليأتى نظام ديكتاتوري مجددا يحكم بالحيد والنار. وساعدت الجنرال مانويل نورييجا في بنما ليدعم مقاتلي الكونترا اليمينية التى كانت تحارب نظام الساندينستا اليسارى فى نيكاراجوا. وبعدما سقط نظام الساندينستا ورفض نورييجا التوقف عن تجارة الكوكايين ألقت القوات الأمريكية القبض عليه ووضعته فى سجن بولاية فلوريدا الأمريكية، لأنه لم تَعُد فى حاجة إليه. وبهذه السياسة كانت واشنطن تأمن الطغاة وتحصل منهم على تعهّد واضح بحماية المصالح الأمريكية ومواجهة أى محاولة لإنتشار نفوذ الإتحاد السوفيتي. وبما ان أهل السياسية كانوا يسيرون لمصالحهم كانت النتيجة تخلف الشعوب ومصيرها التردي والإنحطاط بغياب الحريات، وفقرت الدول بالنهب المصلح لثرواتها وتدمرت التنمية بتلك الحكومات التي أشبه بالعصابات. وكنتيجة حتمية إستشرى الفساد وتردت الحالة الإقتصادية وإزدادت مساحة مثلث الفقر والبطالة والتضخم حتى إن بعض الدول وقف على شفا حفرة الإفلاس. البرازيل نفسها كانت مرشحة لإشهار إفلاسها بإعلان عجزها عن سداد ديونها وذلك فى منتصف الثمانينيات. السؤال المؤكد الذي تطرحه على نفسك الآن: كيف نهضت تلك الدول أمريكا وهزمت الإستبداد والتخلف وقدمت تجربة رائدة فى التطور الديمقراطى والتنمية الاقتصادية؟، ومنها قد صعد للقمة بالفعل. فقد أصبحت البرازيل الآن ثامن أكبر اقتصاد فى العالم وعلى مقربة من أن تصبح ضمن بلدان العالم الأول. إجابة السؤوال بكلمة واحدة: الإنسان. فالإنسان هو الأساس. فأول ما يميز دول أمريكا اللاتينية هو إخلاص نخبتها لوطنها ونصرة شعبها، مما دفع دم الوطنية ليجري في عروقهم فتكون شعوب حيوية . المثقفون والمتعلمون ظلوا وفيون لقضايا التحرر الوطني من نظم الحكم المستبدة. ولقد كان لرجال الدين مهمة بارزة قاموا بها أيضا. فقد لعبوا دورا تقدميا في التنوير ووعي الشعوب لمقاومة تلك الأنظمة الديكتاتورية بكل الوسائل. فكانت هاتين الشريحتين تديران محرك التغيير بكل ثبات. وعلى سبيل المثال، قام رجال الدين الكاثوليك بتطوير المقاومة بصياغتهم نظرية ثورية أسموها (لاهوت التحرير). تلك النظرية سمحت للكنائس ولرجال الدين بلعب دور مساند للثوار المطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والإصلاح بالرغم من معارضة قيادتهم الدينية فى روما، وذلك لحصر الدين في دور العبادة وبالتالي تخدير الناس. فقد ضحى أولئك الرجال بتنازلهم عن رتبهم الدينية في سبيل مواصلة النضال والتصدى للنظم الظالمة. فقد نفذواعمليا القيم الدينية في قوالب ثورية حقيقية بالأخذ بيد الفقراء والمحتاجين والمساكين، وطبقوا أسمى قيم دينية تتحدث عن ضرورة مساعدة كل فقير محتاج، عابر سبيل، أرملة ويتيم. و جعلوا من خدمة الإنسان و الوطن ونصرة فقرائه، وتطويره وتنميته قمة التدين ومنتهى العشق الإلهى. ونكرر هنا إن رجال الدين استخدموا الدين كقوة تنوير وتثوير لا لكسب أوكغطاء لممارسة سلطة أو جنى الأصوات فى الانتخابات. وكان لهذا الإسهام أثره أيضا في توحيد ثوار دول أمريكا اللاتينية. حيث أقاموا شبكة واسعة من العلاقات عابرة الحدود الجغرافية. ثم بدأوا بالتصدى للهيمنة الأمريكية على المنطقة، ورويدا رويدا تخلصلوا من طابع (جمهوريات الموز) الذى وصمته لهم بخبث السياسة الأمريكية. و رفعوا أقصى درجات التركيز ومؤشرات التنبيه لرفع مستويات الثقافة والمعرفة والوعي لشعوبهم، فلم يعايروها بأن وعيها منخفض أو ناقص أو لا يمكن تنميته. بل إستمروا في تثقيفهم ونشر الوعي فتشكلت منظومة النضال الوطني من أجل بلدانهم، لا من أجل جماعة أو مجموعة أو حزب أو طائفة. لقد نجح إتحاد النخبة ورجال الدين في إسقاط نظم الحكم الديكتاتورية الظالمة فى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، وتهاوت تلك النظم كتهاوي قطع الدومينو. ومن بعد كنس أنقاضها ورميها في مزبلة التاريخ قامت نظم حكم شعبية، ديمقراطية تبنت عملية مصالحة وطنية شاملة لتجاوز ميراث الماضى الثقيل بالعدالة الإنتقالية. وقد إتفقوا على بناء الوطن وإرساء دولة القانون وتأسيس نظام العدالة الوطنية والديمقراطية الاجتماعية لتكون منهجا وطريقا للنهوض بالمساواة وتسليط الضؤ على إنسان الوطن في كافة المجالات من التنعم بالسلم والأمن لرفع مستوى المعيشة، والتطور التكنولوجي، والصحة، والتعليم، وغيرها. وبذلك حققت دول الموز قفزات كبرى فى شتى المجالات. فسياسيا باتت دول أمريكا اللاتينية فى الإجمال دولا ديمقراطية حديثة، واقتصاديا بدأت عملية نهضة اقتصادية حقيقية نقلت هذه الدول من حالة الفقر والتخلف إلى أول طريق النمو والإزدهار. [email protected]