سُكتُم بُكتُم    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    إسرائيل والدعم السريع.. أوجه شبه وقواسم مشتركة    السودان شهد 6 آلاف معركة.. و17 ألف مدني فقدوا حياتهم    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سور الصين العظيم.. قصة قصيرة بقلم : فرانز كافكا
نشر في الراكوبة يوم 08 - 06 - 2014

كان العمل لإنشاء سور الصين العظيم قد انتهى في أقصى ركنه الشمالي بعد أن كان قد امتد علي طول قطاعين من الجنوب الشرقي والجنوب الغربي ليلتحما بعده في ذلك الركن. وكان أسلوب الإنشاء المتقطع قد طُبق على مستوى أصغر من ِقبل كلا جيشي البناء العظيمين، الشرقي و الغربي. وكان العمل يتم كما يلي :
يتم تشكيل فرقة من حوالي العشرون عاملاً يناط بها إنجاز جزء من السور بطول خمسمائة يارده، بينما تكون مجموعة مماثلة منهمكه في بناء طول مماثل من السور ليقابل الجزء الأول. وعند انتهاء عمل الوصلة فإن البناء لن يبدء مرة أخرى حيث انتهت هذه الياردات الألف، وبدلاً من ذلك فإن مجموعتي العمل تلك تنقلان لتبدآ البناء في منطقة أخرى. ومن البديهي أنه وبهذه الطريقة لا بد وأن تبقى ثغرات كبيرة لا يتم إغلاقها إلاّ تدريجياً وجزءاً بعد جزء ، بل وإن بعضها لم يتم ذلك فيها نهائياً، إلاّ بعد الإعلان الرسمي لانتهاء بناء السور. وفي الواقع، يقال أن هناك فجوات لم يتم إغلاقها إطلاقاً ، وربما كانت هذه أسطورة من الأساطير التي أثارها بناء السور والتي لا يمكن التحقق منها بواسطة فرد من الأفراد يحكُم على ذلك رأي العين وخاصة لو أُخذ طول السور في الإعتبار. ورب قائل، بعد نظرة أولى، أنه كان من الأجدى ، في جميع الأحوال، لو أن بناء السور
تم بطريقة متصلة ، علي الأقل في ما بين الجزئين الرئيسيين، أولم يكن الهدف من بناء السور كما كان معلوماً ومعلناً بصفة شاملة هو أن يكون حماية لنا من شعوب الشمال؟ فكيف إذن يمكن لسور أن يحمي إن لم يكن صرحاً متصلاً ؟ أوليس لمثل هذا السور أن يعجز عن الحماية إضافة على أن ما يوجد منه نفسه يبقى معرضاً لخطر مستمر، فكتل السور القائمة في المناطق المهجورة يمكن تدميرها بسهوله، وخاصة أن تلك القبائل التي أقلقتها عمليات التشييد كانت تتنقل وتبدل مواقع مخيماتها بصورة مذهلة كأسراب الجراد تماماً،ً وعلى هذا فإنه من الممكن أنه كان لديها نظرة عامه عن تقدم البناء أفضل مما كان لدينا نحن البناؤون. ومع ذلك فإنه من المحتمل أنه لم يكن هناك طريقة أخرى لإنجاز البناء . ولفهم ذلك علينا الأخذ بالأعتبارات التالية: كان على السور أن يكون حماية لقرون طويلة و بناءاً على ذلك فإن أكثر التصميمات دقة في البناء ، وتطبيق كل فنون المعمار في كل العصور وعند حميع الشعوب مع الإحساس المتواصل بالمسؤولية لدى كل بنّاء ، كل هذه كانت لوازم مسبقة لا يمكن الإستغناء عنها من أجل هذا العمل. صحيح أنه قد استُخدم عمال بالأجر اليومي من بين الجهله من العامة، رجال ونساء وأطفال، أدوا أعمالهم مقابل أجر في مهمات ذات طبيعة يدوية صرفة ولكن الإشراف كان يتطلب، حتى على العمال الذين يعملون لأربعة أيام، خبيراً ضليعاً في فن البناء، رجلاً يمكنه الإحساس بكل فؤاده والنفاذ فيما يتضمنه العمل، وكلما كانت المهمة أرقى كلما كانت المسؤلية أكثر ثقلاً كذلك. ومن الناحية العملية فإنه كان من اللازم الحصول على مثل هؤلاء الرجال، حتى وإن لم يكونوا بنفس الوفرة التي كان يمكن لأعمال البناء أن تمتصها بالرغم من أعدادهم الكبيرة. وأما بالنسبة للعمل فإنه لم يُباشر فيه بدون روية، فقبل خمسون عاماً من وضع الحجر الأول رُسِّم فن المعمار، وفن البناء منه خاصة، كأهم فرع من فروع المعرفة على كل امتداد ذلك الجزء من الصين الذي كان على السور أن يحيط به. وأما سائر الفنون الأخرى فإنها لم تحز على الإعتراف بها إلاّ فيما كان منها ذي علاقة بفن المعمار. وإنني ما زلت أتذكر جيداً حين كنا أطفالاً صغاراً، ونحن لا نكاد نثق بأننا نقف على أقدامنا، في حديقة معلمنا حين أخذنا في بناء ما يشبه السور من الرمل بناءاً على أمر منه، ثم أن المعلم استند بكامل طوله عليه وهو يثبت مئزره فانهار السور طبعاً مما أدى بالمعلم لتوبيخنا بلهجة شديدة على عملنا الردئ فأخذنا،والدموع تملأ عيوننا، نعدوا في شتى الإتجاهات نحو أباءنا.
كنت ذو طالع سعيد في ما يتعلق بنجاحي في الإختبار النهائي بالمدرسة الصغرى وأنا في العشرين من عمري في ذات الوقت الذي بدأ فيه إنشاء السور. أقول ذو حظ سعيد لأن كثيرين من الذين نالوا أعلى الدرجات العلمية الممكنه قبلي ، لم يجدوا شيئاً يفعلونه سنة إثرأخرى فأخذوا يهيمون على وجوههم على غير هدي وهم يحملون في رؤسهم تصاميم معمارية رائعة وغرقوا في غياهب اليأس بالألوف. غير أن الذين استُخدِم منهم للعمل في بناء السور كملاحظين في نهاية الأمر، وبالرغم من أن هذا ربما كان من أقل الأعمال رتبة، فإنهم كانوا حقاً أكفاء لأداء مهامهم. كانوا بنائين دائمي التفكير في بناء السور، رجال أحسوا بأنهم جزء من السور منذ وضع أول حجر أساس على الأرض. ومن الطبيعي أن بناؤن من هذا الطراز لم تكن لديهم الرغبة في انجاز عملهم على الوجه الأكمل فحسب، بل أنه لم يكن لديهم من الصبرمايكفي لرؤية السور قائماً تام الكمال. وأما عمال اليومية فلم يكن لديهم نفاذ الصبر هذا لأنه لم يكونوا ليرون سوى أجورهم. وأما كبار المشرفين والمشرفون المتوسطي الرتبة فإنه كان لهم مما يرونه من التقدم المتعدد الجوانب للسور ما كان يُبْقي معنوياتهم مرتفعه. وكان لا بد من اتخاذ إجراءات أخرى لتشجيع المشرفين ذوي الرتب الدنيا، والذين كان من الواضح أنهم متفوقون ثقافياً على مهماتهم التافهة تفوقاً كبيراً. ومثالاً على ذلك فإنه لم يكن لينتظر منهم أن يضعوا الحجر فوق الحجر لشهور وربما لسنوات بلا انقطاع، في مناطق جبلية مهجورة وعلى بعد مئات الأميال من مواطنهم، أسرى للقنوط الملازم لمثل هذا العمل الشاق والذي لن ينتهي حتي في حياة أطول الناس عمراً ، كل هذا كان يمكن أن يقذف بهم إلى مهاوي اليأس ويجعلهم، علاوة على ذلك، أقل قدرة على العمل. ولقد اعتُمِد نظام العمل المتقطع في البناء لعين هذا السبب ، فخمسمائة ياردة يمكن إنجازها في حوالي خمسة سنوات وفيها يكون المشرفون،على كل حال وحتماً، مستنفَذي القوى وفاقدو كل إيمان بأنفسهم وبالسور وبالعالم أيضاً. وعليه فإنه وأثناء الإحتفالات المقامه بمناسبة إتمام الألف يارده وتكريمهم فإنهم يرسلون بعيداً... بعيداً جداً حيث يمرون أثناء رحلتهم بقطاعات من السور تم بناءها، تقف شامخة هنا وهناك، ويمرون أثناء ذلك بمقر القيادة العليا حيث تقدم لهم أنواط الشرف ويرون ابتهاجات جيوش العمال الجديدة التي تمر بهم قادمة من أعماق الوطن، ويرون كذلك الغابات وهي تُقطَّع لاستعمالها دعامات للسور والجبال تكحت وتُحول إلي حجارة فيه، ويستمعون للأناشيد تُؤدَّى في المقامات المقدسة حيث يصلي الأتقياء من أجل بناء السور، فكان كل هذا يخفف من حدة نفاذ صبرهم.
وفي مواطنهم ،حيث هدوء الحياة، يريحون أنفسهم هناك لبعض الوقت فتتجدد قواهم. ولقد كان الإصغاء والتصديق المتواضع الذي تقابل به تقاريرهم، ،والإيمان الذي كان يكنّه مواطنيهم البسطاء المسالمين بحتمية إتمام السور يملأ قلوبهم بالحبور ، وكالأطفال المفعمين بالرجاء الأبدي يودعون ذوييهم والرغبة في مزيد من سور الأمة قد أصبح هاجساً لا يقاوم، فيبدأون رحلتهم مبكرين أكثر مما يلزمهم فتصاحبهم نصف القرية لمسافات بعيدة، وجماعات من الناس على كل الطرقات تلوح الألوية والأعلام. ولم يكن ليلاحظوا قبلاً كم هي بلادهم ثرية وجميلة وجديرة بالحب. كل مواطن كان أخاً من أجله يُبنى السور لحمايته وهذا الأخ، بدوره، سيكون مديناً له بالشكر طيلة حياته. الإتحاد !الإتحاد! حلقة من الأخوة ..تياراً من الدم لم يعد محصوراً ضمن دورة ضيقة لجسم واحد بل يتدفق عذوبة ليعود أبداً من خلال الاعماق اللانهائيه للصين. وهكذا إذن يمكن فهم نظام البناء المتقطع . غير أنه كانت توجد هناك أسباب أخرى بنفس الدرجة من الأهمية ، ويجب ألاّ ينظر باستغراب لتوقفي عند هذه المسألة لوقت طويل لأنها أهم مشكلة في كامل عملية تشييد السور مهما بدت وكأنها ليست كذلك عند النظرة الأولى. وإذا كان علي أن أنقل أفكار ذلك العصر وأجعلها قابلة للفهم فإنه لن يكون بمقدوري الغوص في ذات هذه المسألة بما فيه الكفاية.
إذن يجب أن يقال أنه في تلك الأيام كان من النادر تحقيق أي شئ أقل شأناً من عملية تشييد برج بابللالرغم من أن الإستحسان الإلهي ، طبقاً للإعتبار الإنساني ، كان مخالفاً أشد المخالفة لذلك العمل. أقول هذا لأنه في الفترة المبكرة من البناء أخرج أحد المثقفين كتاباً تطرق فيه لمقارنة تعالج الموضوع كاملاً. وفي هذا الكتاب حاول المؤلف إثبات أن برج بابل فشل في الوصول لهدفه ليس للأسباب التي قُدمت بدون استثناء ، أو لأنه في سياق الأسباب المعترف بها لم يتضمن أهمها كلها. وكانت براهينه مستمدة ليس فقط من التقارير والوثائق المكتوبة ، بل أنه أجرى بحوثاً ميدانية فاكتشف أن البرج قد سقط ، وكان من المحتم أن يسقط ، نظراً لهشاشة أساسه. وفي ما يتصل بهذا فإن عصرنا على كل حال متفوق تفوقاً عظيماً على العصر القديم، وتقريباً فإن كل رجل متعلم في عصرنا هوفي نفس الوقت بناءًا محترفًا معصومًا في ما يخص وضع الأساسات. وعلى كل حال فإن هذا لم يكن ما يسعى مثقفنا للبرهنة عليه ، بل أن ما كان يؤكده بالحجة، هو أن السور العظيم فقط هو الذي يمكن أن يزود ، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية، الأساس المأمون لبرج بابل الجديد. إذن السور أولاً ثم البرج بعده. ولذا كان كتاب مثقفنا هذا في يد كل إنسان في ذلك الوقت، ولكنني اعترف أنني حتى يومنا هذا لم استطع أن أرى كيف تصور الكاتبُ ذلك البرجَ. كيف يمكن للسور الذي لم يشكل حتى ولو دائرة ، بل ربع أو نصف دائرة، كيف إذن يمكن له أن يزود برجاً بالأساسات. من الواضح أن هذا غير ممكن إلاّ إذا قُصد بذلك تحميله معنىً روحياً. وإذا كانت الحالة هي هذه فِلم إذن ُيْنشأ هذا السور المادي الملموس في كل الأحوال والذي كان ثمرة عمل العديد من البشر بطول حياتهم؟ ولماذا ، أيضاً، كانت هناك في الكتاب مخططات للبرج، بالرغم من أنه يجب الإعتراف هنا بأنها كانت مبهمة، ومقترحات مفصلة لتعبئة طاقات الشعب من أجل هذا العمل الجديد، الهائل.
كانت هناك في ذلك العصر أفكار جامحة في أذهان الناس - ولم يكن كتاب مثقفنا هذا سوى مثال لأحداها- ربما وبكل بساطة لأن الناس كانوا يريدون ضم قواهم لأقصى ما في استطاعتهم من مدى لإنجاز هدف فريد. إن الطبيعة الإنسانية، المتغيره جوهرياً وغير المستقرة كالغبار تماما،ً لا يمكنها أن تحتمل الكبح ، فإن ألزمت نفسها فإنها سرعان ما تبدأ في تمزيق وثاقها بجنون بل وتمزق كل شئ إرباً، السور والوثاق وحتى ذاتها.
وهناك احتمال أن ذات هذه الإعتبارات والتي كانت تعمل ضد بناء السور على الإطلاق لم تكن غائبة من حسبان القيادة العليا عند الأخذ بنظام البناء المتقطع ونحن – وعندما أقول نحن فإنني أتحدث باسم الكثيرين من الناس- نحن أنفسنا لم نكن نعلم حتى أنعمنا النظر في مراسيم القيادة العليا واكتشفنا أنه بدون هذه القيادة لم يكن ليكفي ما تعلمناه من كتبنا أو حتى من إدراكنا الإنساني لإنجاز المهمات المتواضعة التي أنيطت بنا في إطار الكل العظيم.
وفي مكتب القيادة - الذي لا يعلم أحد ممن سألتهم في ذلك الوقت أوالآن أين يكون أو حتى من يجلس فيه – في ذلك المكتب من الممكن للواحد منا أن يثق أن كل الرغبات الإنسانية تتعاقب في دائرة، بينما تتعاقب الأهداف والإنجازات في دائرة معاكسة. ومن خلال النافذه تنعكس العوالم الإلهية الرائعة وتسقط على أيدي القادة و هم يتقصون مخططاتهم. ومن هنا فإن المراقب الفطن لا بد وأن يعتقد أن القيادة، إن كانت تريد ذلك بحق، فإنه كان بإمكانها التغلب على الصعوبات التي حالت دون الأخذ بنظام البناء المستمر. وعليه فإنه لم يبقى إذن سوى الوصول إلى نتيجة تذهب إلى القول بأن القيادة قد اختارت نظام التشييد المتقطع هذا بصفة متعمدة. ولكن هذا نظام مجهد وبالتالي غير ملائم، مما يجعل النتيجة المتبقية هي أن القيادة إنما أرادت شيئاً غير ملائماً. نتيجة غريبة ! وإنها حقاً كذلك. غير أن هناك الشئ الكثير مما يقال لدعم صحتها ، وربما كان مناقشة ذلك الآن مأموناً، ولكنه في تلك الأيام كان الكثيرون من الناس، ومن بينهم أفضلهم، يعيشون وفق حكمة سرية تقول : " حاول أن تفهم مراسيم القيادة العليا، ولكن لمدىً معين ، وبعدها تجنب الذهاب في تأملاتك إلى أبعد من ذلك. حكمة بليغة، تم تطويرها إلى حكمة أخرى تنص على تجنب المزيد من التأمل ولكن ليس لأن ذلك قد يكون ضاراً ، فليس هناك ما يؤكدأنه قد يكون كذلك، إضافة على أن ما هو ضار أو غير ضار ليس له دخل بالمسألة، وبدلاً من ذلك تأمل النهر في فصل الربيع وهو يرتفع وينمو ويصبح أكثر قوة ويغذي بوفرة أكبر، تلك التربة الممتدة على شاطئيه وهو يحافظ على مساره حتى يصل البحر حيث يُسْتقبل بترحاب كبير لكونه حليفاً يُعْتدُّ به. وإلى هذا الحد يمكنك أن تتابع تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا. وبعد هذا فإن النهر يفيض على شطئانه ويفقد مساره وشكله ويبطئ من سرعة تياره ويحاول تجاهل مصيره بخلق بحور صغيره في الأرض الداخلية فيدمر الحقول، ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يبقي على نفسه طويلاً في توسعه الجديد وعليه بدلاً من ذلك أن يجري عائداً إلى ما بين شاطئيه مرة أخرى ، بل وسوف يجف بائساً في فصل الصيف الذي يلي هذا الفصل. وإلى هنا لا يمكنك متابعة تأملاتك عن مراسيم القيادة العليا.
والآن وبالرغم من أن هذه الحكمة كان لها شأن وقوة غير عاديين خلال بناء السور فإنه في ما يتصل بمقالتي هذه ذات علاقة محدودة. إن مبحثي هذا تاريخي محض، ولم تعد موجودة تلك الومضات المضيئة من تلك السحابة الرعدية التي اختفت منذ وقت طويل، وعليه فإنني ربما أجازف في البحث عن تفسير لنظام البناء المتقطع الذي قد يذهب لأبعد مما كان يرضي الناس في ذلك الوقت، علماً بأن الحدود التي تَضْرِبها علي طاقتي في التفكير ضيقة بما فيه الكفاية بينما اتساع الأرض المطلوب تجاوزها غير محدود.
ضد من كان السور العظيم يقف سداً؟ ضد شعوب الشمال. إنني من جنوب شرق الصين، ولا يوجد هناك شعب شمالي يهددنا. نقرأ عنهم في كتب الأقدمين. والفظائع التي ارتكبوها طبقاً لطبائعهم تجعلنا نتنهد في تعريشاتنا الهادئة. وتمثلات الفنان الصادقة تظهر لنا وجوههم الملعونة بأفواههم الفاغرة ذات الأسنان المدببة، وعيونهم نصف المغلقة وكأنها تبحث عن الضحية التي ستمزقها أسنانهم وتلتهمها. وعندما يجمح أطفالنا فإننا نريهم هذه الصور وفي الحال يقذفون بأنفسهم على أذرعنا وعيونهم تقطر دموعاً. وأكثر من هذا فإننا لا نعرف شيئاً كثيراً عن أولئك الشماليين ولم تقع عيوننا عليهم وإن لزِمنا قرانا فإننا لن نراهم أبداً حتى لو اتجهوا يقصدوننا على ظهور جيادهم المتوحشه- فالمسافة شاسعه ولن تتيح لهم أن يدركونا فتنتهي رحلتهم هباءاً منثوراً.
لماذا إذن، إذا كان الأمر كذلك، تركنا مواطننا والنهر بجسوره ، وأمهاتنا ، وأباءنا، وزوجاتنا الدامعات وأطفالنا الذين يحتاجون لعنايتنا وغادرنا إلى مدينة بعيدة للتدرب هناك بينما ترحل أفكارنا لمسافات أبعد حيث السور في الشمال. لماذا؟ سؤال يطرح على القيادة . إن قادتنا يعرفوننا، وهم في خضم همومهم العملاقة يعرفون عنا وعن اهتماماتنا الصغيرة فيستحسنون أو يستهجنون صلوات المساء التي يتلوها الأب وهو بين أفراد عائلته. وإذا ما سمح لي أن أعبر عن مثل هذه الأفكار بشأن القيادة العليا فإنني سوف أقول أنها قد وُجِدت منذ زمن قديم ولم تعقد إجتماعاً ، فلنقل، مثل تلك الإجتماعات التي يعقدها الماندرين (الموظفون الكبار في امبراطورية الصين القديم:المترجم) حيث يدعون للإجتماع على عجل لمناقشة حلم جميل حلمه أحدهم ، وينفض الإجتماع بمثل السرعة التي عقد بها لتدق الطبول التي تُخرِج الناس من أسِرّتهم في نفس الليلة لتنفيذ ما تقرر حتى لو كان حفلة إضاءه تقام على شرف أحد الآلهة الذي قد يكون أظهر فضلاً كبيراً لوجهائهم ، ليسوقهم في اليوم التالي إلى ركن مظلم وهو يهوي بضربات الهراوة عليهم وقبل أن تخمد أضواء الألعاب النارية تقريباً. ومن الأحرى بي أن أقول أن القيادة العليا قد ُوُجِدت منذ الأزل وكذلك قرار بناء السور. غير مدركين هم، شعوب الشمال الغافلون ، الذين يظنون أنهم تسببوا في بناءه وغير مدرك هو ذلك الإمبراطور الذي ظن أنه أصدر القرار ببناءه. ولكننا نحن ، بناة السور ندرك أن الأمر لم يكن كذلك ولكننا نمسك عن التفوه به.
وفي أثناء ومنذ بدء بناء السور أشغلت نفسي وحصرياً تقريباً، بدراسة علم الأجناس المقارن – وهناك مسائل محددة يمكن البحث فيها حتى النخاع- وكأنها هي الطريقة الوحيدة – واكتشفت أننا نحن الصينيين نمتلك مؤسسات شعبية وسياسية فريدة في وضوحها وأخرى فريدة في غموضها. والرغبة في تقصي هذه الظواهر، والأخيرة منها بوجه خاص، أثارت وما زالت تثير اهتمامي ، وبناء السور نفسه يتعلق جوهرياً بهذه المسائل.
وأما أعظم مؤسساتنا الأكثر غموضاً فهي الإمبراطورية ذاتها. ومن الطبيعي أن يكون هناك في بيكنج وفي البلاط الإمبراطوري بعض الوضوح في هذا الموضوع مع أن ذلك أكثر ما يكون وهماً منه حقيقة. ويزعم أساتذة القانون السياسي والتاريخ في المدارس العليا أنهم يملكون المعرفة الدقيقة عن هذه الأمور وأنهم قادرون على نقل معرفتهم هذه إلى تلامذتهم- ومن المتوقع أنه كلما أخذنا في الهبوط درجات إلى المدارس الأقل رتبة كلما وجدنا أن يقين الأساتذة و طلبتهم في علمهم يتسرب من بين أيديهم لنرى السطحية تناطح الجبال علواً حتى تبلغ عنان السماء وتتخذ لها محوراً من المفاهيم القليلة التي غرست في أذهان الناس لقرون....مفاهيم ، رغم أنها لم تفقد شيئاً من حقيقتها الأزلية فإنه تبقى إلى الأبد غير مرئية في هذا الضباب من الإرتباك. ويبقى إن هذا السؤال بالضبط ، والخاص بالإمبراطورية، هو في اعتقادي الذي يجب أن يوجه للشعب ليجيب عليه. أوليس الشعب هو السند النهائي للإمبراطورية!؟ وهنا علي أن أعترف بأنني إنما أتحدث عن مسقط رأسي فقط . وباستثناء آلهة الطبيعة وطقوسها على مدى العام بكامله بتناوباتها الجميله الغنية ، فإننا لا نفكر إلاّ في الإمبراطور، ولكن، ليس الإمبراطور الحالي؛ وكان حرياً بنا أن نفكر فيه لو كنا نعلم من يكون أو لو كنا نعلم أي شيئ محدد عنه. هذا حق – وهو الفضول الوحيد الذي يملؤنا-إننا نحاول دائماً الحصول على المعلومات عن هذا الموضوع ، ولكن ، وحتى لو بدا الأمر غريباً ، فإنه من المستحيل إكتشاف أي شيئ سواء من الحُجّاج، مع أنهم تجولوا داخل الكثير من بلادنا، أو حتى من الملاّحين الذين أبحروا ليس على أنهرِنا الصغيرة فحسب بل وحتى على الأنهار المقدسة. صحيح أن الواحد منّا يسمع الكثير جداً ولكن ليس من المستطاع جمع أي شيئ محدد.
إن وطننا أرض شاسعة جداً وليس بمقدور أية أسطورة أن تفي حقها في ذلك بل إن السموات ذاتها بالكاد أن تكون ممتدة عليها ، وبيكينج نفسها ليست إلاّ نقطة عليه والقصر الإمبراطوري أقل من نقطة . والإمبراطور بما هو كذلك، أقوى وأعلى سلطة من بين رتب الدنيا؛ إننا نقبل هذا ولكن الإمبراطور الحالي رجل مثلنا، ومثلنا أيضا يضطجع علي سرير بحجم مبالغ فيه وربما كان من الممكن أن ذلك السرير جد ضيق وقصير، ومثلنا أيضاً يستلقي أحياناً وعندما يكون مرهقاً جداً فإنه يتثائب بفمه الرقيق القَطْع. ولكن كيف يمكننا أن نعرف أي شئ عن ذلك – ونحن على بعد آلاف الأميال جنوباً وعند حدود مرتفعات التبت ؟ وإضافة علي ذلك فإن أية أنباء حتى إن وصلتنا فإنها لن تصل إلاّ متأخرة جداً لدرجة أنه عند وصولها تكون قد أصبحت باليه قبل ذلك بزمن طويل. والإمبراطور محاط دائماً بحاشية من النبلاء الغامضون الأذكياء الخبثاء - الضغينة في قناع من الخدم والأصدقاء- وكان هؤلاء يشكلون وزناً معاكساً للسلطة الإمبراطورية ويعملون دائماً على إطاحة الحاكم من موقعه باستعمال السهام المسمومة. والإمبراطورية خالدة لا تموت ولكن الإمبراطور يترنح ويهوي من عرشه ، نعم، سلالات ملكية بكاملها تغرق في نهاية الأمر وتلفظ أنفاسها الأخيرة في حشرجة موت واحدة. وأما أفراد الشعب فإنهم لن يعرفوا عن هذه الصراعات والشدائد وكأنهم بلغوا متأخرين ،كغرباء في مدينة، يقفون في نهاية طريق جانبي يخنقه الإزدحام وهم يقضمون بسلام الطعام الذي أتوا به معهم بينما، بعيداً في المقدمة، في ساحة السوق، قلب المدينة، يجري إعدام حاكمهم.
وهناك اسطورة تصف هذا الموقف جيداً. وتمضي الأسطورة هكذا: إن الإمبراطور قد أرسل إليك رسالة أيها المواطن المتواضع، أيها الظل الحقير الذي يرتعد فرقاً وهو في أبعد الأبعاد من الشمس الإمبراطورية. إن الإمبراطور قد أرسل وهو على فراش موته رسالة إليك وحدك. أمر الرسول أن يركع بجانب السرير ثم همس بالرسالة له. ولقد كانت الرسالة من الأهمية بمكان أنه أمر الرسول أن يعيد همس الرسالة في أذنه، ثم بإيماءة من رأسه أكد صحتها. نعم ، أمام مشاهدي وفاته المجتمعون- كانت قدأزيلت كل الجدران العائقة – وعلى الدرجات المفتوحة الفسيحة العالية، وقف في حلقة، أمراء الإمبراطورية العظماء- وأمام كل هؤلاء تسلّم الرسول الرسالة فبدأ رحلته مباشرة . كان رجلاً قوياً لا يكِلّ، يدفع بيده اليمنى تارة وباليسرى تارة أخرى ، ويشق طريقه بين الحشد ، فإذا ما قابلته مقاومة ما فإنه يشير إلى صدره حيث يلمع رمز الشمس ، فيُسهّل له بأكثر مما لو كان لرجل آخر. ولكن الحشود كبيرة وأعدادها لا نهاية له. لو استطاع الوصول للحقول المفتوحة فما كان أسرعه في الطيران، وفي الحال ، وبدون شك كنت لترحب أنت بطرقات قبضته على بابك. ولكنه بدلاً من ذلك فإنه يبدد طاقته بلا طائل.....ما زال يشق طريقه في الغرف الداخلية ..ولن يستطيع أبداً الوصول إلى آخرها ...وإذا وُفق في ذلك فلا فائدة ترجى من ذلك، فهناك الساحات التي يجب ان يعبرها وبعدها هناك القصر الخارجي الثاني ، ومرة أخرى هناك الدرجات والساحات ثم قصر آخر....وهكذا لآلاف الأعوام . وإذا نجح أخيراً في الإندفاع والنفاذ من أقصى البوابات الخارجية – وهذا لن يحدث أبداً ...أبداً- فإن العاصمه الإمبراطورية سوف تبسط نفسها أمامه... مركز العالم محشوة بنفاياتها لدرجة الإنفجار ولا أحد يستطيع شق طريقه من هنا حتى لو كان يحمل رسالة من رجل ميت.
وهكذا، وبمثل هذا القنوط والرجاء، يتعلق شعبنا بالإمبراطور. إن شعبنا لا يعرف أي إمبراطور يحكمه وهناك شكوك حتى في ما يخص اسم الأسرة الملكية. وفي المدرسة يُدرّس الكثير عن هذه الأسرات مع تواريخ تعاقبها ولكن الشك الشامل المحيط بهذه المسألة كبير جداً بحيث يجر كثيرين من المثقفين للخوض فيه. وفي قريتنا يُظَنُّ في الأباطره الذين ماتوا منذ زمن طويل وكانهم ما زالوا منصبين على عروشهم حتى أن أحد الذين لم يعودوا أحياء إلا في الأغاني قُرِأ له مؤخراً بلاغ من على المذبح بواسطة أحد الكهنة. معارك قديمة أصبحت تاريخاً منذ زمن طويل هي جديدة في حسباننا ورُب جار لأحدهم، أخذ بعدها يعدو والبهجة تعلو وجهه، لينقل تلك الأخبار. وأزواج الإمبراطور المدللات المتعجرفات يغويهن أفراد الحاشيه الماكرون ويلهبهن الجشع وتسيطر عليهن شهواتهن الجامحة فيرتكبن رذائلهن مرة بعد المرة. وكلما أوغلن في الزمن كلما كانت الألوان التي يطوين فيه أعمالهن أكثر توهجاً ، وبصرخة جزع عالية تسمع قريتنا في نهاية الأمر كيف أن إمبراطورة ما شربت دماء زوجها في فصل جفاف طويل قبل آلآف السنين.
هكذا إذن يتعامل أفراد شعبنا مع الأباطرة الراحلين، ويخلطون بين من يحكم الآن وأولئك الذين رحلوا. وإذا حدث مرة، مرة واحدة في حياة رجل ما، أن أتى أحد رسميي الإمبراطورية أثناء جولة له في الأقاليم وتصادف أن نزل في قريتنا ثم أذاع بعض البلاغات باسم الدولة ،وفحص قوائم الضرائب ، وفتش مدارس الأطفال، وسأل الكاهن عن أعمالنا وشؤننا ، وبعد ذلك وقبل أن يصعد على كرسي محفته فإنه يلخص انطباعاته ويسهب في النصح على القرية المحتشدة أمامه، ثم تمر ابتسامة على كل وجه ، ويختلسون النظرات فيما بينهم، وينحنون على أطفالهم حتى يتجنبوا انتباهة الموظف الإمبراطوري لهم، ثم يأخذون في التفكير، ويسألون أنفسهم لماذا يتكلم عن رجل ميت هكذا وكأنه ما زال حياً؟. إن عاهله الذي يتحدث عنه قد مات منذ زمن طويل والأسرة قد امحت وبادت ولا بد أن هذا الموظف الرسمي يهزء بنا، ولكننا سوف نعالج هذا وكأننا لم نتنبه له حتى لا نكدره ، ولكنه لن يكون لنا طاعة إلا لحاكمنا الحالي، لأن فعل خلاف ذلك جريمة.
ومن خلف محفة الموظف الرسمي المغادرة، يقوم بجبروته كحاكم للقرية ، رمز يُبجّل عَرَضاً، يقوم من جرة حفظ رماد الموتى التي تفتتت وأصبحت غباراً.
وبالمثل فإن شعبنا قليل التأثر بالثورات الداخلية والحروب المعاصرة ، وإنني لأتذكر تلك الحادثة في صباي عندما اندلعت الثورة في الإقليم المجاورلنا- مع أنه بعيد عنا أيضاً بشكل ما. لم أعد أتذكر ما الذي تسبب في تلك الثورة، ولم يعد ذلك الآن مهماً . فمسببات الثورة موجودة هناك في أي وقت والناس هناك قابلون للإثارة. وعلى أية حال وفي يوم من الأيام جاء متسول إلى دار أبي وهو يحمل معه ورقة نشرها الثوار حين مروره بذلك الإقليم . ولقد تصادف أن كان ذلك اليوم يوم عيد وكانت غرف منزلنا مكتظة بالضيوف فأخذ القسيس الذي كان يتوسط الجمع بدراسة الورقة، وفجأة أخذ الكل في الضحك وفي خضم هذا الإرتباك تمزقت الورقة وطُرد المتسول، الذي كان قد أخذ، على كل حال ، ما يكفيه من الصدقات قبل ذلك ، تلاحقه الضربات. وتفرق الضيوف للإستمتاع بذلك اليوم الجميل. لماذا؟ لقد كانت لهجة ذلك الإقليم المجاور تختلف عن لهجتنا في بعض مظاهرها الجوهرية وهذا الإختلاف يحدث أيضاً في جزء معين من اسلوب كتابة الكلمات بما كان يمثل لدينا مظهراً عتيقاً ، فلم يكد القسيس يكمل قراءة صفحتين فقط حتى كنا قد توصلنا لقرارنا. إن التاريخ القديم قدّم خبر أن الأحزان القديمة قد بَرُأت منذ زمن طويل. ومع أن بشاعة الحياة – أو هكذا يبدو لي عند التذكر- في الوقت الحاضر قدمت لنا كلمات ذلك المتسول بشكل لا يمكن نقضه، فإننا أخذنا نضحك ونهز رؤوسنا ثم رفضنا مواصلة الإصغاء. إن شعبنا مصاب بهاجس نفي الحاضر.
وإذا كان هناك من يستنتج أنه في الحقيقة ليس لدينا إمبراطور، فإنه لن يكون بعيداً عن إصابة الحقيقة. ومرة تلو الأخرى فإنه يجب تكرار: أنه ربما لا يوجد هناك شعب أكثر ولاءاً للإمبراطور من شعبنا في الجنوب. ولكن الإمبراطور لم يستمد الفائده من ولائنا لصالحه. وحقاً، فإن التنين المقدس يقف على ذلك العمود الصغير في أطراف قريتنا وهومنذ بداية ذاكرة الإنسان يزفر أنفاسه النارية من في اتجاه بيكينج رمزاً للولاء- ولكن بيكينج ذاتها أكثر غربة للناس في قريتنا من العالم الآخر. هل يعقل أن تكون هناك قرية تصطف بيوتها جنباً بجنب وتغطي مساحات تعادل كل الحقول التي يراها أحدنا من فوق تلالنا ولمسافات أبعد كثيرا . وهل يمكن أن يكون هناك أناس مكدسون في هذه البيوت وبينها ليلاً ونهاراً. ؟ إننا نجد تصوير ذلك أكثر عسراً من تصوير أن بيكينج وإمبراطورها كائن واحد، قل، سحابة تمر تحت الشمس على مدار الدهور.
والآن فإن اعتناق مثل هذه الآراء إجمالاً إنما هو فوز بحياة حرة وغير مختنقه بشكل عام، وهي بأي حال من الأحوال ليست لا أخلاقية. ولم أكد أجد في رحلاتي مثل هذه الأخلاقيات النقية التي تتمتع بها قريتي ومسقط رأسي مع أنها لم تتعرض لأي قانون عصري ولا تنكب إلأ على المواعظ والتحذيرات التي تصل إلينا من أقدم العصور.
إنني أتجنب وأحذر التعميم فلا أؤكد أن الحال هي كذلك في العشرة آلاف قرية في إقليمنا وأقل من ذلك تأكيداً هو مايخص كل الخمسمائة إقليم في الصين. ومع ذلك فإنه ربما كان علي المجازفة بالقول بناءاَ على كل الذي كتب عن هذا الموضوع وقرأته، وبناءاً على ملاحظاتي أقول أن بناء السور خاصة بما أتاحه من وفرة في المادة الإنسانية قد قدمت سانحة لإنسان يتمتع بالمعقولية لمسح وتقصي روح كل الأقاليم – وبناءاً على كل ذلك يمكنني أن أجازف وأؤكدأن الموقف السائد تجاه الإمبراطور يُظهر شيئاً متناسقاً وشاملاً شمولاً أساسياً مع ذلك السائد في قريتنا . وهنا لا أريد أن أصور هذا الموقف وكأنه فضيلة . وعلى العكس من ذلك فإنني أرى أن مسؤلية ذلك تقع على عاتق أقدم إمبراطورية على وجه الأرض وهي التي لم تنجح بعد في تطوير، أو أهملت تطوير، مؤسسة الإمبراطورية بحيث تكتسب دقة تتيح لها العمل والإمتداد مباشرة وبدون توقف حتى أقصى حدود الأرض ، وعلى كل حال هناك أيضاً شيئ من الضعف في العقيدة والقدرة على التخيل عند الشعب مما يمنعهم من انتشال الإمبراطورية من وهدة الركود في بيكينج وضمها إلى صدورهم بكل حقائق حياتها الواضحة، وهي لا تريد شيئاً أفضل من تلك اللمسة والتي من بعدها تقضي أجلها. وهكذا إذن فإن هذا الموقف ليس من الفضيلة في شيئ . والأكثر من هذا جدارة بالملاحظة هو أن هذا الضعف كان يجب أن يبدو وكأنه أحد المؤثرات العظمى التي توحد شعبنا، وحقاً، فإن الواحد منا إن أراد أن يذهب هذا المذهب ويعبرعنه لقال أن هذا هو الأرضيه التي نعيش في كنفها . وإذا ما تهيئنا لتعيين عيب أساسي هنا فإن ذلك يعني ليس ضمائرنا فحسب ولكن ما هو أكثر سوءاً وأعني بذلك إرتعاش أقدامنا. ولهذا السبب فإنني لن أمضي أبعد من ذلك في هذه المرحلة من بحثي في هذه المسألة في هذا الوقت.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.