في الحادي والعشرين من مارس 2015،غادرت روحه السمحة مكانها الذي اعتلته، وهو يقارب السبعين مما مضى من العمر. هي سجادة طواها صاحب الوقت جلّت قدرته. يكتنز اللطائف التي لا نعرف كُنهها، مثل النسيم يأخذها عند الميعاد، لا تتقدم ساعته ولا تتأخر. سبحانك اللهُم باسط الرزق ومُسخر الأرواح، تتفرق بإرادتك على الكائنات، لتجمعها لديك آخر المطاف. (2) إن الصحبّة في الله، لا تنقضي بالبرهة التي ييسرها مولانا، فقد أوجدنا في الزمان معاً. نشترك صلة الرحم في الأم والأب. وأبان لنا المولى أن أكرمنا هو أتقانا. وهو الذي يعرف البواطن، وترك لنا أمر الظواهر، لندلف بنعيم التقوى إلى الدواخل. وكم أكرمنا ربنا، حين يسر لنا صحبة الأخيار من عُبّاده. هو من الأقرباء الذين منهم تعلمنا، وهي صحبة طيبة، أدام المولى رباطها إلى منتهى الآجال. (3) انقضت سيرة "خَضِر" مثل أرتال من الأجيال التي تعيش فتوة شبابها، وفي عزّ العنفوان، اختار هو مكاناً عزيزاً في مدارج التقوى والصلاح وحسن المُعاملة. سيرة طيبة، تُغسل الحياة التي نعرفها بمسك الهداية النقي. لم يدخل بيتاً إلا أشاع فرحاً وسكينة وطمأنينة فيه. زيارته تكون من بعد الغروب دائماً، كالمسك يعضُد النسيم، يتباريان ويختلطان. يسألك برقة عن حالك ويترفق السؤال. خليط من العاطفة الجارفة، تسري في العظام. صلة الرحم عنده طقس، يتسرّى بها. يلبس جلبابه الأبيض ويعتمر عمامته، وينعم على مجالس الأسر حيثما تيسر له، يوزع محبته التي اعتاد كالعطر على الناس.تلمح على وجهه سماحة أهل التصوّف، فمعهم سار الطريق كله، في صُحبة أهل الأسرة "الدندراوية". (4) كتب الصحافي المصري عبده مغربي: التصوف منهج غالب في جنوب صعيد مصر، وتشعُب الطرق الصوفية، يضفي تنوعاَ في صورة وشكل أتباعها، فمن "الشاذلية" اتباع الإمام أبو الحسن الشاذلي، إلى "الرفاعية" اتباع السيد أحمد الرفاعي، إلى "الدسوقية" اتباع السيد إبراهيم الدسوقي، إلى "الأحمدية" اتباع السيد البدوي، وغيرها من الجماعات الصوفية. تراهم يختلفون في مظهرهم باختلاف مشربهم الصوفي السُني. وهذا جعلني أنظر ل "الدندراوية" على أنهم ليسوا أكثر من مجرد "طريقة صوفية " مثل بقية "الطرق الصوفية" حتى فاجأتني الصدفة قبل أيام، بمستشرقة إنجليزية، تزور مصر حالياً، التقيتها في رحاب الإمام الحسين بمنطقة الأزهر بالقاهرة الفاطمية، وحكت لي كلاماً جديداً عن "الأسرة الدندراوية" ومنهجهم الفكري الذي ترى أنه تجسيدٌ للإسلام الحضاري، الذي كان يجب أن يلقى الرعاية من الدول العربية والإسلامية كبديل متطور عن كل "الجماعات الإسلامية "التي ترى أنها أساءت للدين الإسلامي، واستغربتْ كثيراً، كيف لا يتم تدريس "الوثيقة البيضاء" في الأزهر الشريف. سألتها: وما هي "الوثيقة البيضاء؟." قالت: "دستور الأسرة الدندراوية". قلت، وهل لهم دستور؟ قالت: ولهم إمارة أيضاً، إمارة لها اتباع ينتشرون في إنجلترا، وأفغانستان، وباكستان، وماليزيا، واليمن، ولبنان وسوريا، والمغرب، وتونس، والسودان، وغيرها من البلدان، ثم أخرجت لي كتاباَ من القطع المتوسط عنوانه " الوثيقة البيضاء " عدد صفحاته 1043 ، مكون من 4 فصول ، الأول تمهيد وتعريف بمنهج "الأسرة الدندراوية " والثاني "الإصلاح والمصلحون" والثالث "توصيف الأداء" والرابع "التأسيس والأساس". ويشرح في مجمله منهج الأسرة الدندراوية " التكوين والكيان"، ولشدة ما رأيته من استنكار عند المستشرقة "جوانا" من أننا قصّرنا في حق ديننا الإسلامي كون أننا كإعلاميين وصحافيين، لا نلقي الضوء على مثل هذه الجماعات، التي تعطي صورة رائعة عن الإسلام، فيما ننشط كثيراً بتسليط الضوء علي الجماعات المتطرفة التي تقدم النموذج الأسوأ عن الإسلام. أثارني حديثها حتي بحثت عن الكتاب، واشتريت نسخة منه. (5) انتمى الشيخ "خَضِر" للطريقة الدندراوية منذ سبعينات القرن الماضي. رقّت بصيرته وهدأته نفسه في عالم ديني سُني وسطي. كان يسافر في مواسم الأعياد إلى "دندرة" في مصر بالقطار، وسط مجموعة من رفاق الطريق، يستهدون بالعُشرة الطيبة، وهم يسافرون لمصر ويدخلونها آمنين. لعله يسلك ذات الطريق الذي سلكه "جده الأول الشيخ "محمد مُجلي"، قادماً من اليمن وعابراً الأراضي السودانية عند بداية السلطنة الزرقاء، أيام " عمارة دُنقس" و"عبد الله جمّاع"، وترك هناك ابنه الشيخ "يعقوب مُجلي" في الأراضي السودانية، وذهب لمصر واستوطن "زرنيخ". وبعد مضي أكثر من ثلاثة قرون، جاء سليل أسرته "إبراهيم الشقليني" باحثاً عن سلالة جده الشيخ " يعقوب مُجلي " في السودان. استوطن "الفتيحاب" في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وصاهر أهلها، وتفرعت شجرة السُلالة دوحةً ظليلة إلى يومنا هذا. (6) تلك نفائس الأقرباء الذين يسر المولى من كريم لُطفه أن نلتقيهم، ونتصادق، رغم اختلاف السن. وما العُمر إلا مكرمة من الله عزّ وجل، لن نستطع أن نفي صاحب الوقت بعض فضله ولو عبدناه الدهر كله. به يتيسر أمرنا وبه نحتمي تحت بسطة سلطانه، وفي أنفسنا نتفكر في الخلق. كان أنسه حين تجده جالساً على سجادته، مُمسكاً مسبحته، ما ترطب لسانه إلا بذكرك ربي، وفكره دوحة محبة، لا يزيغ بصره عنك إلا وبصيرته إليك ترنو. ربنا ومولانا لك نرفع أكفنا أن تسكنه مسكن أحبائك الذين اصطفيت. فقد ادّخر عمره لعبادتك بقدر ما شهدنا. أسهم في ذكرك، قلباً راضياً بمحبتك. ربنا تلطف بأسرته وارزقهم من حيث لا يحتسبون، فأنت أرحم الراحمين. +++= عبد الله الشقليني 23 مارس2015 [email protected]