صبية في شبيبتهم الأولى، روتهم البيئة التي نشأوا فيها صغاراً سمحي الطباع، يدخلون الجامعات مزهوين مملوئين حماسة وأحلاما طموحة، كورود رُويت فتفتحت أزهارها مشرئبة الى السماء لملامسة ضوء الشمس.. اسرهم من ورائهم تنظر اليهم بنشوة، في انتظار حصاد ثمار زرع تلك الأزهار.. يدخل هؤلاء الصبية الى الجامعات لأجل التسلح بالعلم والمعرفة للاسهام في نهضة مجتمعاتهم، فتقتنصهم القوى السياسية، وتحشو عقولهم البكرة بشعارات مسمومة، فتجعلهم يتسلحون بالعصى والسيخ والملوتوف عوضاً عن القلم والكراس، ثم لاحقاً يتحولون الى قتلة مأجورين لتلك القوى السياسية. فتموت تلك الطباع والخصال السمحة التي عليها تربوا، كما تموت فيهم الأحلام الوردية التي راودت مخيلتهم اول دخولهم الجامعة، ومن خلفهم تحصد أسرهم الحسرة والندم. لم يكن العنف الطلابي في الجامعات السودانية وليد اللحظة، ولكنه يتمدد يوماً عقب آخر، في ظل الاستقطاب الحاد الذي يضرب الساحة السياسية، اضافة الى تمدد ظاهرة العنف اللفظي المتبادل بين الخصوم السياسيين، والذي تتناقله وسائل الاعلام بتركيز. لقد اسهمت النعوت التي يطلقها السياسيون على خصومهم في نشوء جفوة بين التنظيمات السياسية، وفي ظل غياب الحريات التي تسمح بالتعبير عن الآراء والأفكار ومقارعة الحجة بالحجة، لجأت كثير من التنظيمات الى العنف، سيما قطاع الطلاب في الجامعات، حتى كادت ان تتحول الجامعات الى سوح للعراك والقتال، عوضاً عن التناصح الفكري. ساعد في ذلك عملية الشحن العاطفي للطلاب بشعارات براقة تجعلهم لا يترددون لحظة في المجازفة بحياتهم حماية لتلك الشعارات. خلال السنوات القريبة الماضية سقط العديد من الطلاب بالجامعات كضحايا للعنف الطلابي، ولم يزل مسلسل القتل في الجامعات متواصلاً، دون ان تتخذ السلطات اي قرارات من شأنها ان توقف تدفق حمامات الدم بالجامعات. واللافت ان قتل الطلاب بالجامعات لم يحرك تفاعل المجتمعات بصورة تؤكد رفض ظاهرة العنف الطلابي. في وقت كان مقتل طالب في العام 1964 سبباً في سقوط نظام حكم بأكمله. لم يكن مقتل محمد عوض الزين الطالب بكلية شرق النيل أوخر الأسبوع الماضي، خلال احداث العنف التي شهدتها الجامعة، بين طلاب المؤتمر الوطني وطلاب تجمع روابط دارفور المعروفين اختصاراً ب (ubf) هو الحادث الأول من نوعه خلال هذا العام، فقد سبقه في يناير الماضي في نفس الكلية حادثة مقتل الطالب الطيب صالح، كادر حزب الأمة القومي، بعد اختفاء دام اسبوعين، وجد بعدها جثة هامدة ملقاة قرب النهر بشرق النيل. وقد اعلنت السلطات انها دونت بلاغا تحت المادة 130 من القانون الجنائي في حادثة مقتل الطالب محمد عوض الزين، وكونت فرقاً للبحث والقبض علي المتهمين واتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة، في مواجهتم. فيما لم يتم التوصل حتى اليوم الى المتورطين في حادثة مقتل الطيب صالح. عطفاً على حادثتي مقتل طالبي كلية شرق النيل، هنالك قائمة طويلة من الطلاب الذين سقطوا ضحايا للعنف الطلابي بالجامعات، بيد بلاغات حوادثهم دونت ضد مجهول. بينهم محمد سليمان الطالب بكلية الاقتصاد بجامعة نيالا، والذي قتل في العام 2014، بعد اختطافه ليتم لاحقاً العثور على جثته ملقية في أطراف المدينة. كما قتل في مارس 2013 علي ابكر موسى الطالب بجامعة الخرطوم، بالرصاص الحي داخل الجامعة، وأدى مقتل علي ابكر الى تفجر موجة احتجاجات وسط طلاب الجامعة أدت الى تعليق الدراسة بها، وقد شكلت ادارة الجامعة لجنة للتحقيق في مقتل الطالب بيد انه حتى اليوم لم تظهر النتائج التي تشير الى قاتل علي ابكر. وفي ديسمبر من العام 2012 قتل أربعة من طلاب جامعة الجزيرة هم (محمد يونس نيل حامد، وعادل محمد أحمد حمادي، والصادق عبدالله يعقوب، والنعمان احمد القرشي، واعلنت يومها السلطات بولاية الجزيرة عن تشكيل لجنة للتحقيق في الحادثة، يد ان نتائج تلك اللجنة لم تعرف حتى الآن. وفي العام 2012 قتل ثلاثة طلاب بجامعة زالنجي بينهم الطالبة إخلاص يوسف آدم، في احتجاجات داخل الجامعة تزامنت مع زيارة الرئيس السابق ليوناميد جبريل باسولي لجامعة زالنجي، للمشاركة في ندوة عن إتفاق الدوحة بالجامعة. وفي فبراير 2010 قتل الطالب بالمستوى الثالث كلية التربية جامعة الخرطوم محمد موسى عبدالله بحرالدين. والشاهد ان جميع تلك الحوادث قيدت ضد مجهول. لعل الحادثة الوحيدة التي باشرت فيها السلطات تحرياتها والقت فيها القبض على عدد من الطلاب التي اشارت لهم اصابع الاتهام في باديء الأمر، هي حادثة مقتل الطالب عبد المعز حسن محمد احمد كنة، الطالب بكلية القانون جامعة النيلين، التي وقعت في فبراير 2007، خلال احداث عنف دامية وقعت بين طلاب المؤتمر الوطنى وطلاب الحركة الشعبية، شريك الحكم آنذاك. والقت السلطات يومها القبض على حوالي سبعة عشر من الطلاب المنتمين سياسياً الى الحركة الشعبية ومؤتمر الطلاب المستقلين، ابرزهم ين ماثيو وابوبكر يوسف، قبل ان يطلق سراحهم لاحقاً بعد تحريات امتدت لاكثر من ثلاثة أشهر. الشاهد ان ظاهرة انتشار السلاح الأبيض بين ايدي الطلاب في الجامعات السودانية، اصبحت لافتة للعيان، كما ان دخول الأسلحة النارية سوح الجامعات اصبح مألوفاً ايضاً، حيث شوهد في اكثر من حادثة عنف طلابي دخول اشخاص يحملون في أيديهم أسلحة نارية، مثلما حدث في احداث الجامعة الاهلية في يونيو 2005 والتي انتهت بحريق مكاتب الجامعة. وحادثة مقتل طالب النيلين، حيث شوهد رجل يطلق النار من ظهر عربة بوكس. وتشتكي الجامعات من وجود وحدات جهادية للطلاب بها، تتخذ غالباً من المساجد مقراً لها، وتعتبر هذه الوحدات مصدرا للعنف الطلابي. وفي فبراير من العام 2014 وفي اعقاب حادثة مقتل طالب جامعة الخرطوم علي ابكر موسى اصدر مدير الجامعة وقتها البروفيسور صديق حياتي قراراً بتصفية الوحدات الجهادية بالجامعة، والاستفادة من محتويات دورها في الأنشطة الأكاديمية، بالإضافة إلى تشكيل لجنة لمراجعة الإشراف على مساجد الجامعة. وتطالب التنظيمات السياسية السلطات بضرورة تحمل مسئولياتها فى التصدى لظاهرة حمل السلاح دون ترخيص، الى جانب تقديم المتورطين في احداث القتل الى المحاكمة. ويرى مراقبون ان تزايد ارتفاع ضحايا العنف الطلابي بالجامعات مؤشر خطير، لهدم العملية التعليمية، ويشير الى ان سوح الجامعات اضحت ساحة للتحارب والاقتتال عوضاً عن كونها منارة للعلم والمعرفة، الامر الذي يحتم على الجهات المعنية تدارك الوضع، وتحديد من هو المسؤول عن انتشار العنف وسط الطلاب. وعلى الجميع ان يسألوا انفسهم عما اوصل التعليم الى هذا الدرك السحيق التراجع، حتى ان عملية التعليم باتت وكأنها تدوير للجهل بطرق أكثر فاعلية، اذا كانت المحصلة من المراحل التعليمية للطالب تنتهي به حاملاً سيخة او سلاحاً نارياً ليضرب زميلاً او زميلة له دون ان يدري ان ما يفعله هذا هو قمة الجهل. وربما لا يدري بأنه وزملاؤه في هذا الصرح العلمي سيصبحون عما قريب صفوة المجتمع وقادته. [email protected]