(1) من بنى معجزة التاريخ التي اسمها الهرم الأكبر قبل خمسة ألاف عام، لن يعجزه إكمال إبداعه الفني ليبني أبو الهول. . من شقّ قناة تصل بين بحرين شامخين الأحمر والأبيض، قبل نحو قرن كامل ونصف القرن، لن يعجز في الزمن الحالي، عن مواصلة صنع المعجزات والإمساك بأقداره التاريخية . ذلكم هو شعب مصر . لكن يواجه إعجابنا بصروح التاريخ المصري، تمعنّنا فيمن أنجز، وفيمن كسر الحجارة، شذّبها وهندسها لبناء تمثال "أبي الهول". لكي يكتمل عجبنا علينا أن نتبيّن من حمل تلك الحجارة وشقّ الصخر، حجراً حجراً وارتفع به لبناء أهرامات الجيزة، متراً بعد متر، حتى بلغت نحو العشرين متراً إلى عنان السماء. لنا أن نسأل التاريخ أيّ تضحيات تحملتها تلك الجموع من البشر التي أنجزت هذه الشوامخ، شواهد على طريق الخلود. . ؟ (2) يقول التاريخ محفوراً على الصخر، أن "خوفو" و "منقرع" و"خفرع" بنوا وشيدوا وأبدعوا. غير أننا في كتاب التاريخ هذا، لا نعرف قصة آلاف البشر من أبناء النيل، الذين بذلوا أرواحهم لتنفيذ أجندة الخلود التي رسمها فراعنة ذلك الزمان القديم. لا نعرف أسماء المهندسين العباقرة، ولا أسماء رؤساء العمال أو أولئك الحفارين الذين حملوا المنحوت من الحجارة على أكتافهم وظهورهم، برهق قاتل، ومعاناة مهلكة. لا نعرف أسماء من قضوا نحبهم تحت تلك الأبنية الشامخة، ولا نعرف عن الآلاف وربما الملايين التي ذهبت أرواحهم، من أجل أجندات الخلود الفرعونية. لكن يظل إعجابنا بما أنجز التاريخ. . ثم شقّ المصريون قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، حلماً ترجع أصوله إلى محاولات فراعين مصر القديمة، أهلكوا أعداداً مهولة من البشر لتحقيقه، ثم تعثرت عبر التاريخ تلك الجهود. أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، قبل الخديوي سعيد حاكم مصر فكرة شقّ القناة، ومضى بعون المهندسين الفرنسيين في إنجازها، على مدى زمني قارب السنوات العشر. (3) في الصخر كما في الكتب، يغفل التاريخ أحياناً عن ذكر تفاصيل تلك التكلفة العالية لحفر تلك القناة، وتجري الإشارة إلى الإبداع البشري في ربط الشرق بحضاراته العريقة، والغرب بطفراته ونهضته العلمية، بشريان أحدث تحوّلاً في تاريخ التواصل بين الأمم والحضارات. أما الثمن الباهظ، فلا يُذكر كثيرا. يقال إن مليوناً من العمال والفلاحين المصريين، أجبروا تحت حكم الخديويين سعيد وإسماعيل باشا أواسط القرن التاسع عشر، لحفر تلك القناة ، وأن مئات بل آلاف من البشر، لقوا حتفهم جرّاء عمليات الهندسة البدائية في تلكم السنوات، أو اهلكتهم العلل والأمراض الفتاكة خلال تلك المغامرة الحضارية غير المسبوقة. تشير التقارير الطبية المحفوظة في مكتبة بلدية الإسكندرية، حسبما يورد موقع "ويكيبيديا" على الانترنت، أن أكثر الأمراض انتشاراً بين العمال الذين حفروا قناة السويس في تلك السنوات، هي النزلات الشعبية والأمراض الصدرية وحالات الإسهال والدوسنتاريا وأمراض الكبد والجدري والسل. ولاحقاً جاء وباء الكوليرا ليقضي على الآلاف. لم تجد الشركة التي تدير العمليات عدداً كافياً من الرجال لرفع جثث الموتى ودفنها في صحراء مصر. من ماتوا في ذلك الانجاز، تجاوز عددهم المائة وعشرين ألفا من البشر. لم تصل البشرية وقتذاك إلى إدانة مثل هذه التجاوزات في تسخير الإنسان لإنجاز مثل هذه المشروعات. (4) وهكذا فإن الإنجاز الباهر في حفر القناة عام 1869م، تخفّت وراءه مأساة بشرية مروّعة. ولكن لم تكن تلك هيَ نهاية القصة، بل ان مصر غرقت في الديون، إذ لم يكن اقتصادها من القوة لتحمّل تكلفة شقّ قناة، فجرى رهنها لبريطانيا. أيّ ثمن باهظ دفعت مصر من أجل إنجاز ذلك الرابط في كتاب الجغرافيا الذي يصل حضارات الغرب والشرق في كتاب التاريخ..! إن فكرة شقّ قناة السويس الجديدة الذي أنجز هذا العام، وقد تكلف ثمانية مليارات من الدولارات الأمريكية، هي فكرة لتوسيع شريان التواصل الحضاري الراهن بين الأمم والحضارات. وإن ذلك لهدف سامي بلا شك. غير أن أثمان المنجزات التاريخية عادة ما تكون مكلفة وعبثية. إن كان لفراعنة مصر ولع بالخلود، فقد هلكت من أجل ذلك ملايين الأرواح، وأهدرت موارد وامكانيات لا تحصى.. (5) حين نسمع عن عجائب الدنيا السبع في سنوات القرن العشرين، يتملكنا الزهو لمنجزات شامخة مبهرة، مثل برج بيزا المائل واهرامات مصر وسور الصين العظيم، فلا نكاد نتبيّن تلك التكلفة العالية لعبثية تلك المنجزات، ولا باهظ "الثمن البشري" المدفوع مقدماً. تدهشنا قدرة الصينيين في بناء سور على ظهور الجبال الممتدّة بطول القارة الآسيوية، ولكن لن يتاح لنا لأول وهلة، تصوّر تلك الخسائر ولا تلك التضحيات التي كانت وراء ذلك الإنجاز، الذي لا نرى له ما يبرره في القرن الماثل.. حين نسمع عن مشروع توسعة قناة السويس، وتلك الحفريات التي جرت في المساحات الترابية، أو تلك التي في المساحات المائية، يعجب الواحد أيّما إعجاب بقدرات البشر وقدرات العلم والتقنيات، في تذليل المهمات العسيرة، وتحقيق المستحيلات. لكن حين يطلب رئيس مصر اختصار مدة الإنجاز لعام واحد، بدل الأعوام الثلاثة التي حدّدها المهندسون من واقع الدراسات الهندسية والقدرات الفنية المتاحة، فإن الذاكرة تعود بنا إلى التاريخ الموغل في القدم، حين أجبر الفراعنة شعب مصر بناء العجائب الماثلة . إن في ذلك الاختصار شدّة غير مبررة، وفي فرضها قهراً فوق الطاقات، وخصماً لازماً على امكانيات متناقصة. . (6) مالَ مصر يحمّلها التاريخُ قديمه وجديده، تحقيق منجزات تتصل بأجندات السياسة وتقلباتها وتعقيداتها، وتتجاوز في كل ذلك، القدرات المحدودة والامكانيات الشحيحة..؟ لكأنّ الظرف الذي تعيشه مصر، يتطلب قسراً في الإرادة، وإجباراً على الإنجاز، بما يتجاوز الواقع المادي والبشري. من محاسن التقدم العلمي، أن التضحيات الحالية المتعلقة بتوسعة قناة السويس عام 2015، لن تكون بمستوى التضحيات التي شهدتها مصر الفرعونية قبل خمسة ألاف عام، بل ولم تشهدها حتى مصر الخديوية التي افتتحت قناة السويس أول مرة في عام 1869م.. إن الظرف الذي تعيشه مصر يتشابك مع تداعيات الربيع السياسي الذي أسميناه "الربيع العربي"، وهو تحوّل يعدّ في الواقع الماثل، ناقص الهوية، بلا بوصلة واضحة. لقد دفعت مصر في الأعوام الأخيرة ثمناً باهظاً، لشق قناة سياسية تكمّل "ربيعها" الناقص، وتؤمّن دولتها "العميقة"، تلك التي يرجع حفرها إلى عهود "خوفو" و"منقرع" و"خفرع".. +++ [email protected] الخرطوم- 8 أغسطس 2015