أول من أمس (الاثنين) نشرت صحيفتنا (التغيير) خبراً مفجعاً، علته صورة لعقرب ضخمة تمتلئ تجاويفها بالسم الأسود الزعاف، ومؤدى الخبر أن عدد الأطفال ضحايا لدغات العقارب في بلدة ساري بدارفور ارتفع إلى تسعة، وبالأمس (الثلاثاء) زادتنا الغراء (الرأي العام) فجيعة، إذ نقلت لنا على لسان نائب دائرة (الفجيعة) بالمجلس التشريعي الولائي خبر ارتفاع عدد ضحايا ملدوغي العقارب الذين توفوا - وجلهم من الأطفال والنساء - إلى أربعين نفساً، وليست دارفور وحدها التي ظلت تعاني من خطر العقارب دون توفر المصل المضاد في تلك المناطق والفيافي الريفية القصية، التي تنتشر وتتكاثر فيها الهوام من عقارب وثعابين، وإنما كذلك في مناطق أخرى متفرقة من البلاد أبرزها الولاية الشمالية التي سجلت أحداثاً تدمي القلب، ومن كثرة ما فجع الناس الموت المجاني (السمبلة)، وإن لم يكن الموت لمجرد لدغة عقرب هو الموت المجاني، فما هو إذن، نقول من كثرة هذه المجانية في الموت حتى استحقت بلادنا دون غيرها أن توصف بأنها البلاد التي يموت بلدغات العقارب أطفالها.. من أكثر تراجيديات موت الأطفال بلدغات العقارب التي ظلت عالقة بذهني، حكاية تلك اليافعة الصغيرة التي لا يتعدى عمرها السنوات الست، كانت تعيش مع أسرتها في ناحية من نواحي الولاية الشمالية، لدغتها عقرب مع حلول المساء، أسرع بها أهلها إلى المشفى، استقبل الحالة الطبيب الموجود وأسعفها بالموجود من إسعافات أولية بقسم الحوادث وأدخلها عنبر الأطفال، ليتسلم حالتها عند العاشرة ليلاً طبيب آخر وجدها تعاني غاية المعاناة، إذ كانت في حاجة إلى دواء آخر لم يتوفر بالمستشفى، بذل الطبيب كل ما في وسعه لإنقاذ الصغيرة، ولكن هيهات مع هذا التردي في الخدمات العلاجية، حتى صديقه الصيدلي الذي استغاث به بعد منتصف الليل لم يجد عنده هذه الجرعة من الدواء الذي ينقذ حياة الطفلة، فجأة وبعد تفاقم حالة الصبية بدأت تهضرب وتهذي قائلة (يمة أمسكيني... كضابة ماكي ماسكاني)، وكان هذا آخر ما نطقته وودعت به هذه الدنيا الفانية، فأي مأساة هذه وأي فجيعة، هل أتى علينا زمان الفجيعة والمأساة على قول شاعرنا المرحوم محمد سعد دياب الذي جعل عبارة (ويأتي زمان الفجيعة والمأساة) عنواناً لإحدى قصائده التي يقول في أحد مقاطعها (زمان الانكسار أتى، زمان الانهيار أتى، فلملم جرحك الزخّار وأدفع فادح الثمن)، وهل هناك فجيعة ومأساة أفدح من أن يروح هؤلاء اليفع الصغار البريئون هكذا بكل بساطة لانعدام جرعة دواء لا تساوي شيئاً، إنها والله المأساة في أبلغ وأوضح صورها، أن يموت الكبار والصغار من أهل بلدي من الفقراء ومحدودي الدخل - وما أكثرهم - بسبب ضيق ذات اليد وعدم الحصول على الدواء، بينما مترفوها وأثرياؤها - وما أقلهم - لا يطيقون صبراً مع أقل وعكة، فيهربون من البلاد إلى حيث توجد أرقى المستشفيات في بلاد العرب والعجم... حرام والله حرام... اللهم الطف بالسواد الأعظم من عبادك في السودان واستر فقرهم بالعافية... [email protected]