كثيرا ما يشتط الخلاف عند بعض الناس ويعظم في أنفسهم حتى يجعل الاختلافات في الفقه أمرا عظيما يقول بسببها في حق المخالف كلاما لا يجوز ولا ينبغي لعاقل أن يقوله. فمن بديهيات العلم أن الاختلافات الفقهية أمور اجتهادية تختلف فيها الرؤى والأفهام ومآخذ الأدلة، ومن المستحيل أن يتفق جميع الناس في تفاصيل الفقه والأحكام ولذلك اشتهرت القاعدة الفقهية "اجتهاد الحاكم يرفع الخلاف". ورفع الخلاف هنا عملي لا نظري، أي أن اجتهاد الحاكم هو الذي يعمل به في المحاكم ومؤسسات الدولة، وهذا لا يمنع من الاختلاف الفقهي بين الفقهاء والمجتهدين، إذ الكل مكلف بما أداه إليه اجتهاده لا اجتهاد الآخرين. ولا يمكن بحال من الأحوال صب الناس في قالب واحد يصدر عن فهم واحد ورأي واحد، فهذه جهالة تليق بالرعاع والسفهاء ولا مدخل إليها عند العقلاء والفضلاء فضلا عن العلماء. ولربما ذهبت الحدة ببعضهم –في الخلاف في الأمور الفقهية -إلى نسيان أفضال الناس ومكانتهم والاشتداد عليهم في الألفاظ والأفعال. والنفس البشرية أسيرة الغضب والتعصب، وهذا عند العقلاء من نزغات الشيطان التي يستعيذون منها ويراجعون أنفسهم. ولا يسلم من ذلك أحد. حتى أنه يروى بعض ذلك عن كبار العلماء الثقات. فقد روي أن الإمام مالكا سئل عن ابن اسحاق صاحب السيرة المشهور، فقال: "هذا دجال الدجاجلة". وابن اسحاق هو نفسه من قال عنه الشافعي منصفا: "الناس عيال على مالك في الفقه، وعيال على ابن اسحاق في السير". ويروى عنه في حق علماء أهل العراق أنه قال: "لا تصدقوا أهل العراق ولا تكذبوهم، سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب!"، وقد كان في هذا يعرض بأبي حنيفة وأصحابه. لكنه كشأن العلماء إنما يقولها في لحظات الحدة ولا يمنعه ذلك من الاعتراف بفضلهم ومكانتهم العلمية. والإمام مالك نفسه وهو إمام أهل المدينة وعالم الدنيا لم يسلم من لحظات الحدة تلك، فقد سئل الإمام ابن أبي ذئب وهو من كبار علماء المدينةالمنورة عن قوله فيمن لا يأخذ بحديث "خيار المجلس"- ونصه "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"، والمقصود أن لكليهما حق التراجع عن صفقة البيع ما لم يفارقا مجلسهما.. سئل ابن أبي ذئب عن قوله فيمن لا يأخذ بهذا الحديث، فقال: "أرى أن يستتاب فإن أخذ به وإلا ضربت عنقه!"، وهو هنا يعرض بالإمام مالك، والمعروف عنه أنه يروي هذا الحديث في الموطأ ولا يأخذ به، لأنه ليس عليه عمل أهل المدينة، ومعروف أن مذهب الإمام مالك في الأصول أن نقل أهل المدينة يعتبر تواترا في نقل السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن العهد كان قريبا، والناس أبناء الصحابة والعمل عندهم موافق للمعمول به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في رأي مالك – والحق معه – أقوى من أحاديث الآحاد، فلا يصلح في معارضة سنة هذا مستند نقلها أن يقال: "حدثني فلان عن فلان .. ". فلا كلام مالك أزرى بعلم ابن اسحاق، ولا كلام ابن أبي ذئب أنقص من قدر مالك، فقد أجمع أهل العلم على فضلهما وقدرهما. هذا أمر العلماء، وأما السفهاء، فلا يلتفت في هذا السياق إلى كلامهم أحد، فإن كثيرا منهم ينطق عن مرض نفسي قوامه الغل والحسد لأهل العلم والإيمان. وبعضهم ينجر من سفهه وراء أمثال هؤلاء، حتى رمى بعض الحمقى بيت الإمام الطبري بالحجارة لما أشاعه عنه من لم يعقل عنه العلم – لضعف عقله وقلة علمه – من تهم بالتشيع والرفض، وما نقموا عليه في ذلك إلا أنه ألف كتاب "اختلاف علماء الأمصار" ولم يذكر فيه أقوال أحمد مع الأئمة الثلاثة الباقين، فلما سئل عن ذلك قال: "هذا محدث وليس فقيها"، فأثار ذلك غيظ عوام الحنابلة عليه، فتناسوا علمه وفضله ورموه بما ليس فيه. وأبشع هؤلاء الحمقى – الذين لا يطيقون الخلاف الفقهي – منزعا، أولائك الذين ينسون أن "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، المسلمون عامة المسلمين، فما بالك بالعلماء وأهل الفضل. فيبالغون في تضخيم الخلاف الفقهي حتى يصل بهم الأمر إلى تفسيق وتبديع وتكفير من "يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلا" وهو في ذلك يؤمن "بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره". بل وفي تكفير من نذر عمره لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله تعالى. وأقدم الأمثلة على أصحاب هذا المنزع الخوارج، الذين كفروا الصحابة واستحلوا دماءهم، لا لشيء سوى لمخالتفهم إياهم بعض أفهامهم في الفقه! وما أمر داعش – وهم النسخة المتجددة من أولائك الخوارج العراقيين والنجديين – في هذا ببعيد عنا. فانظر هداك الله، كم كفروا وكم قتلوا من العلماء. استذكرت هذه المعاني وقد استفزني بعض مرضى النفوس ممن لهم نصيب وافر مما ذكرت، فما أن تداعى إلى اسماعنا الخبر الأليم بوفاة علم من أعلام المجاهدة والمصابرة لنصرة هذا الدين، والعمل على تحكيم كتاب الله وشرعته في العالمين، أحد العلماء الكبار العاملين المجتهدين، أحد الربانيين الذين هم "من جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسية والتدبير" كما وصفهم الإمام الطبري، ألا وهو العلامة الشيخ حسن عبد الله الترابي، المفكر الإسلامي المعروف، والأب الروحي للاسلاميين في السودان، وأحد رموزهم الأكثر شهرة في العالم، في الفكر والفقه والأصول والتفسير وأنواع شتى من العلوم من تراث الشرق والغرب وفلسفات العرب والعجم. هو الحافظ لكتاب الله، المذكر به من يخاف وعيد، أمضى عمره البالغ 84 عاما في صبر ومصابرة متنقلا بين السجون، صابرا معارضا، وشاكرا حاكما، وناصحا أمينا لإخوانه من المسلمين، شهد له أصدقاؤه وأعداؤه بعلو الهمة، وجلد العزيمة، وسداد الرأي، وقوة الشكيمة، والتبحر في العلوم، والحنكة في السياسة، مع تواضع وإقدام وحسن معاشرة وخلق، وكريم ضيافة وحسن معشر، وثقة في الله وتوكل عليه. وقع خبر موته الأليم – وكل هالك إلا وجهه تعالى – على المخلصين من العلماء والعاملين وأصحاب الفضل والدين والكرام من عامة الناس والمسلمين وقع الصاعقة، فنعاه العلماء (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)، وبكاه أهل الجهاد والمرابطة (حركة حماس وخالد مشعل)، وعزى المسلمين فيه قيادات الحركات الاسلامية (الاخوان المسلمون، وحركة النهضة وغيرهما)، ورموز السلم والثورة (من أمثال توكل كرمان) وتقاطر أهل البلاد إلى جنازته حشودا، أهل السياسة وأهل الفكر وأهل الفضل وأهل العمل، الرؤساء والوزراء وأهل الأحزاب والعلماء وعامة المسلمين، يبكونه بحرقة، ويحتسبون الله في فقده، وحق لهم، فإنه والله فقد جلل. وبينما نحن فيه من ذكر محاسن الفقيد وتذاكر فضله وسؤال الله أن يخلف الله المسلمين فيه خيرا، أبي ضعاف النفوس – من بقية الخوارج ومرضى القلوب – إلا ذكر الخلاف في تفاصيل الفقهيات، وتعظيم الصغائر، وتصغير الكبائر، في محاولة بائسة للحط من قدر العلاّمة يرحمه الله، ملأ صدورهم الحسد، واشتط ببعضهم الغيظ، فانطلقوا يذكرون بعض ما خالفوه فيه من مسائل الفقه، يعظمونها ويصورون للناس أن من خالفهم فيها فاسق وضال وكافر. ألا ليت شعري فما هذا إلا الضلال! لا أدري من المراد من مثل هذا؟! أهو موافقتهم في كل رأي فقهي رأوه؟! أهو جبر للأمة على رأي واحد؟! فما بال الصحابة لم يتفقوا على رأي؟! ومال أئمة التابعين لم يتفقوا على رأي؟! ومال أئمة المذاهب لم يتفقوا على رأي؟! فلله درّ التجاني يوسف بشير، لما تعرض لمثل هذا الموقف من حساده من طلاب المعهد العلمي، فقال في ذلك: لا زلت أكبر في النفوس وأغتدى وأروح بين بخ ويا مرحى به والمجد أجدر بالشباب وإنما للناس موجدة على أصحابه حتى رميت ولست أول كوكب نفس الزمان عليه فضل شهابه قالوا وأوجفت النفوس وأرجفت وهاج وماج قسور غابه كفر ابن يوسف من شقي واعتدى وبغى ولست بعابئ أو آبه قالوا اقتلوه! بل احرقوه! بل انسفوا للريح ناجس عظمه وإهابه! ولو أن فوق الموت من متلمس للمرء مد إليّ من أسبابه قالوا: أنكر الترابي عذاب القبر. قلت: وأقر بالعذاب والثواب البرزخي، مستدلا بقوله تعالى: (لنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ). ومسألة أن عذاب القبر بالروح أو الجسد مسألة قديمة مختلف فيها، يعلم ذلك كل من اطلع على كتب العلم، ولكل مجتهد أجر أصاب أو أخطأ. وقد قال ابن القيم رحمه الله بفناء النار، فما لكم لم تقيموا عليه الدنيا. قالوا: أنكر أن شهادة الرجل تساوي شهادة امرأتين. قلت: أين وجدتم ذلك في كتاب الله؟! قال تعالى في آية الدين: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر احداهما الآخرى). ومن رأي الترابي: أن معناها أنه إن لم تضل الأولى فلا حاجة للأخرى، وذلك أن النساء لا يعالجن المعاملات المالية عادة، فتستشهد امرأتان عند كتابة الدين، وأما عند الأداء أمام القاضي فإذا تبين له بالقرائن أن احداهن ضابطة فشهادتها تكفي ولا حاجة للأخرى. أما قول زيد وعبيد فهو اجتهاد. قالوا: أباح الترابي الغناء. قلت: هذا مذهب أهل المدينة، ومذهب كثير من العلماء في القديم والحديث، ولهم في ذلك حجج وأدلة، ودونكم كتب العلم فراجعوها! قالوا: أباح زواج المسلمة من الكتابي. قلت: فأين وجدتم حرمة ذلك؟ فإن القرآن يفرق بين المشركين وأهل الكتاب، مثل قوله تعالى: (لم يكن اللذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) وقوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) وغيرها من الآيات. وهذا التفريق معروف عند أهل العلم. فمن رأي الترابي أن الاستدلال على الحرمة بقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) ليس فيه دليل على حرمة زواج المسلمة بالكتابي. وقد استدل بعض الناس بقوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)، وهي آيات نازلة في سياق صلح الحديبة تحدث عن المشركين وليس عن أهل الكتاب. ولكم أن تصوبوا اجتهاد الشيخ أو تخطئوه، لكنه في النهاية اجتهادكم في مقابل اجتهاده. قالوا: أجاز الترابي إمامة المرأة للرجال في الصلاة. قلت: وقال مثل قوله الإمام الطبري وأشهب من أصحاب مالك والأمام الثوري، لأنه لم يرد دليل يمنع ذلك، مع ورود حديث في السنة (أن النبي جعل لام ورقة رضي الله عنها مؤذنا وأمرها أن تؤم أهل دارها). والدار هنا المنزل والمنازل المحيطة وليست البيت. قالوا: أنكر الترابي نزول المسيح. قلت: قد قال بمثل قوله علماء في القديم والحديث، والخلاف هنا أصولي، ينبنى على الموقف من قبول روايات الآحاد عن النبي إذا خالفت القرآن، فإن كثيرا من العلماء يعتبر ذلك حجة قاطعة بعدم صحة نسبتها إلى النبي وإن كانت صحيح السند. وفي القرآن: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي). وفيه على لسان عيسى عليه السلام: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم). وفيه: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين) فإذا كان خاتم النبيين فلا نبي بعده، فلا مكان لنزول نبي بعده!. فإن خالفتم هذا الأصل وقلتم: نرى تقديم روايات الآحاد على القرآن، قلنا: هذا اجتهادكم، ولكل إنسان اجتهاده! قالوا: أنكر الترابي رجم الزاني. قلت: هذا أمر فيه خلاف قديم! وقد سأل الناس الصحابي ابن أبي أوفى: (أرجم رسول الله قبل نزول سورة النور أم بعدها؟ قال: لا أدري!)، والسؤال مشعر بالخلاف، وبأن الصدر الأول مختلفون في مكان رجم النبي للزناة أهو اقداء بحكم من قبلنا، وهو الرجم عند اليهود، كما ورد ذلك في رواية أن النبي سألهم عن هذا الحكم، ثم أمر به. ثم نسخ ذلك بآيات سورة النور التي فيها الجلد ولا تفريق فيها بين محصن وغير محصن. أم أن السورة تتحدث عن غير المتزوجين والرجم جاء بعدها في السنة لبيان حكم المتزوجين. ومن رأي الترابي: أن القرآن حسم أن المتزوجين داخلون في الآية، وإذا دخلوا في الآية فلا مكان لنسخ ذلك بالسنة على مذهب كثير من علماء الأصول، وذلك أن الآية بينت في سياق حكم اثبات الزنا أن من وجد امرأته تزني أنه لا يشترط له أن يأتي بأربعة شهداء كما هو الأصل، واكتفت في حقه بتشريع الملاعنة، وهذا يدل على الأزواج والزوجات داخلون في حكم آية النور. ومن رأيه أيضا: أن آية سورة النساء التي نصت على أن حكم ملك اليمين المتزوجات إذا زنين نصف ما على الحرائر من العذاب حاسمة في أن حكم المتزوجات من الحرائر الجلد، لأن الرجم لا ينصّف. فإن قلتم اجتهاد عمر بن الخطاب على غير هذا، واجتهاد فلان وفلان، وشهرة هذا القول قد انتشرت، قلنا: يبقى اجتهادا، ولكل اجتهاده! قالوا: أنكر الترابي علامات الساعة. قالت: هذه أيضا مسألة فقه لا عقيدة، إذ تفاصيل علم العقائد تحسب في الفقه، وإنما العقيدة هي أركان الإيمان التي لا يسوغ الخلاف فيها، وهذه من الأمور التي فيها خلافات كثيرة بين العلماء في قبول أخبارها وعدمها، وجمهور العلماء على أن حديث الآحاد يفيد العلم لا العمل، أي أنه يثبت به الفقه، ولا يلزم الاعتقاد بالعقيدة بالاعتماد عليه. إذ هو في النهاية نقل رجال يجوز عليهم الخطأ والوهم والنسيان. ومن رأي الترابي أن القرآن حاسم في أن الساعة تأتي بغتة. قال تعالى: (لا تأتيكم إلا بغتة). وهذا طبعا يتعارض مع وجود علامات تدل على وقتها، وإنما المذكور في القرآن أن لها أشراطا (فقد جاء أشراطها). والشرط ما لم يتحقق لا يحدث المشروط، ولكن تحققه لا يدل على وقت وقوعه. وذلك مثل قوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). وأخبار الآحاد في أشراط الساعة فيها خلافات كثيرة بين العلماء في تصحيح الآثار وتضعيفها. قالوا: قال الترابي إن الحور العين هن المؤمنات من نساء الدنيا. قلت: فهل عندكم دليل على غير هذا؟ ونعني بالدليل كلام الله وكلام رسوله، أما قال فلان من السلف وفلان من الخلف وقالت بنو اسرائيل فلا يصلح أدلة، ولا يساق إلا استئناسا بعد الدليل. وعند الترابي أنه لم يرد في القرآن ذكر لكائنات جديدة تسمى "الحور العين". وإنما فيه: (وحور عين) وهو وصف لنساء الجنة: الحوراء شديدة بياض العين شديدة سوادها، والعيناء واسعة العين، كما هو معلوم في اللغة، وهذا وصف للنساء المؤمنات إذا دخلن الجنة وأعيد خلق أجسادهن شبابا (إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا). والوعد بالجمال ثوابا في الجنة يستشعره الرجال بفطرتهم في النساء، وتقدره النساء في أنفسهن. فهو ثواب للمؤمنين والمؤمنات. فإن قالوا: فإنا نرى غير هذا القول، وأنهم خلق جديد. قلنا: لكل اجتهاده، ولا يلزمكم قوله، ولا يلزمه قولكم! قالوا: الترابي أنكر أن تكون حواء قد خلقت من ضلع آدم. قلت: قد قال تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا). فمن قول الترابي: أن هذا دليل على أن النفس الواحدة ليست آدم، إذ أن زوجها تغشاها. والقرآن لا يعارض بروايات الآحاد. على ما أسلفناه من مذهبه الأصولي – وهو منهج لكثير من العلماء في القديم والحديث. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (خلقت المرأة من ضلع أعوج فإن أنت ذهبت تقيمه كسرته) فظاهر أنه تمثيل لاعوجاج في طباع النساء لا يقوّم بالقوة. وليس لهذا علاقة بخلق آدم عليه السلام ولا حواء. قالوا: الترابي أنكر الحجاب. قلت: بئس ما قالوا. افتروا عليه. إنما قال إن غطاء الرأس يسمى في اللغة خمارا. (وليضربن بخمرهن على جيوبهن). أي على النساء أن يغطين بالخمار فتحة الصدر وهي الجيب في اللغة. وأما الحجاب فهو ستار يوضع في المنزل لتفريق مكان النساء عن الرجال. (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب). أما بعد: فالمتتبع لهذا السرد يتوهم أن الشيخ حسن الترابي رحمه الله تعالى كان مولعا بالمخالفة والفتاوى الشاذة، وهو وهم ناشيء عن تعمد القوم تعداد ما يظنونه أخطاء لديه – وجلّ من لا يخطئ – وإنّ كل ما حصروه في الحقيقة بضع اجتهادات جمعوها من اجتهاد ستين سنة. ملأها الشيخ علما واجتهادا في شتى ضروب الحياة، في الاقتصاد، والسياسة، والمجتمع، والأسرة، والأحوال الخاصة والعامة، لا سيما في مستجدات العصر التي أعيت غيره من العلماء ممن لم يمارس السياسة ويختلط بالشأن العام ويتبحر في الفلسفات المعاصرة. فإن المطلع على كتب الشيخ حسن الترابي وتفسيره يجد علما جما وبحرا زاخرا لا ساحل له. وفضلا في العلم والاجتهاد. وما هذه المسائل التي أوردوها من مسائل الفقه التي خالفوه فيها إلا نتيجة طبيعية للاجتهاد. فالمجتهد يوافق الجمهور ويخالفهم أحيانا. وربما أتي بآراء واجتهادات لم يأت بها أحد قبله من العلماء. وقد عدد ابن حزم رحمه الله تعالى من اجتهادات الأئمة الأربعة والتابعين كثيرا من المسائل التي لم يسبقهم إليها أحد من العلماء في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام". وأما الشيخ الترابي فقد تعرض رحمه الله إلى حملات شديدة تعظم من شأن بعض الاجتهادات التي خالف فيها ما ألفه هؤلاء القوم أو ارتضوه لأنفسهم بالتقليد في الغالب، وبالاجتهاد في حالات بعضهم. وأُخرجت كثير من اجتهاداته وأقواله عن سياقها، وأُخرجت عن معانيها ومقاصدها ومراميها. وهذا أمر ليس بجديد، لا سيما بالنسبة لفقيه عاش تقلبات السياسة، وفيها من موافقة الحاكم ومخالفته الكثير من المواقف. فإن فرصة الجهال والحساد مهتبلة عند غضب الحاكم على العالم. فقد اتهم ابن رشد وهو قاضي قضاة قرطبة وابن قاضي قضاة قرطبة ابن قاضي قضاة قرطبة، أعني ابن رشد الحفيد صاحب السفر العظيم "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، قلت اتهم ابن رشد لما غضب عليه الحاكم وجمع له من أسماهم العلماء بأنه كافر فاسق مبتدع خارج عن الشرع، بل واتهموه بأنه يهودي الأصل، ونفوه إلى قرية لليهود إمعانا في إذلاله. ثم لما صفى أمر علاقته مع الحاكم، عاد علماء البلاط ونفوا عنه التهم التي اتهموه بها وأعادوه إلى بلاط الحكم والقضاء مكرما. وابن حزم، إمام علماء الظاهرية، كان وزيرا ابن وزير. مؤيدا لملك بني أمية بالأندلس، فما دالت دولتهم إلى بني العباس، فُسّق وبُدِّع وأحرقت كتبه بالأندلس وأرسلت الأوامر السلطانية مذيلة بأحكام فقهاء السلطان بإحراق كتبه في المغرب، ثم ما زال يُخرَج من مدينة إلى مدينة – يطرده منها العامة الذين حرضهم المتفقهون - حتى انتهى به الحال في قرية مهملة يملكها قضى فيها بقية حياته وهو الذي ملأ الدنيا بالعلم وبأنواع التصانيف في مذاهب العلماء والصحابة والأصول. قال ابن رشد عن محنته: (وأشد ما وقع لي فيها، أني دخلت المسجد للصلاة، فثار علي العامة فأخرجوني من المسجد). وهذا بفعل التحريض المدعوم من السلطة وخصوم السياسة وحسد المتفقهين. ولقد مات ابن تيمية في السجن بتحريض من المتفقهين ذوي الحظوة عند السلطان لأنه أبى التراجع عن فتاوى أفتاها، أهمها فتوى "أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة"، وذلك أنه أداه اجتهاده إلى قول مهجور من عصر الصحابة، فأخذ به وأفتى، رغم مخالفة رأيه في هذا لعمر بن الخطاب، واشتهار القول الآخر، لدرجة أن تهمته كانت مخالفة الإجماع. والإجماع لو أنصفوا أصل عليه كثير من الخلافات، في ماهيته وكيفيته وحجيته ودلالته وشروطه. إن العقلاء والعلماء والفضلاء من الناس ينظرون في سيرة الإنسان كاملة، ثم يحكمون لها أو عليها، ويغمرون السيئة في بحر الحسنات، ويهملون الحسنة - العارضة – في سوء السيرة الدالة على فساد الطوية. كل ابن آدم خطاء، ومن غلبت عليه الحسنات فهو الممدوح، ومن غلبت عليه الأخرى فهو هو. والشيخ حسن الترابي أجمع الناس أنه أفنى حياته – شبابه وهرمه – في خدمة شرع الله، ورفع كلمة الله، وشرح كتاب الله، وإقامة السنة، وإماته البدعة، وجمع كلمة المسلمين، ونصرة المستضعفين، والتدبير لإفساد كيد الكافرين. مع ما شهد له به فضلاء علماء عصره وكبارهم من التبحر في علوم الدين، وحسن نظره فيها. اقرأ إن شئت كتابه "الإيمان" لتعرف معنى الإخلاص وامتلاء القلب بمعاني اليقين وارتباطه بالله. إقرأ إن شئت كتابه "الصلاة عماد الدين" لتحس بالخشوع في الصلاة وتتدبر معاني التبتل والخشية والخضوع فيها، وتشعر بصدق خشوع الكاتب وغوصه في معاني اليقين التي لا يستشعرها إلا الخاشعون. إقرأ إن شئت كتابه "تجديد أصول الفقه" لتعلم عمق البحوث الأصولية والعلمية التي يكابدها العلماء في تعرف الدليل والوصول إلى مراد الله تعالى فيما بين أيدينا من أحداث الدنيا المستجدة والمتقادمة. إقرأ إن شئت كتابه "السياسة والحكم" لتتعلم الدين والدنيا والسياسة وتنهل من بحر عالم غرف من كل العلوم في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والادارة واستفاد من كل تجارب البشرية وأحاط بأصول السياسة الشرعية وصب كل ذلك في قالب من لغة رصينة. إقرأ إن شئت تفسيره للقرآن "التفسير التوحيدي" وهو كتاب ضخم، فسر فيه كتاب الله تعالى، وأَبْهج قلبك بما ينفتح له من نور كتاب الله تعالى، تغوص فيه مع المؤلف في ترابط آي السور، وتنوع تفاصيلها مع وحدة الموضوع في كل سورة، واتساق سياق الآي كل مع التي قبلها والتي تليها، معاني تتنزل في أول السور، تفصل ببيان المعاني التفصيلية، وتوضح بقصص الامم والرسل لأخذ العبرة وضرب المثال في المعنى المراد، والخلاصة إلى أحكام فيها من حكم الله المشفوع ببيان العبرة من القصة، إلى خلاصة المعاني في أواخر السور. كل ذلك مع بيان هدي السورة وموضوعها وترتيل للمعاني التفصيلة وبيان لوجوه القراءات وما يترتب عليها من المعاني. كل ذلك بلغة رفيعة رصينة ومعاني استفادت من التراث ومن علوم العصر ومن موسوعية المؤلف الذي يتقن أربعة لغات حية قرأ بها ثقافات متعددة للأمم فأفادته رؤية متعددة الجوانب وفهما لكلام الله الذي لا تنقضى عجائبه ولا تفنى كثرة المعاني فيه لمن رامها على حسب سعة علمه وثقافته ويفتح الله فيه على من يشاء. ولست في مقام المحصيى لمؤلفاته وهي كثيرة، لكني أعجب لمن لم ير من هذا إلا بضع مسائل فقهية خالفت هواه أو اجتهاده. والمؤمن الحصيف، يحب المؤمنين، ويواليهم، ويدعوا لهم بظاهر الغيب. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا). رحم الله العلامة الشيخ حسن الترابي، وأسكنه فسيح جناته، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه. إنه سميع مجيب" فيسبوك