بسم الله الرحمن الرحيم والصلاةُ والسلام على خاتمِ النبيين سيدنا ومولانا محمد صلواتُ ربِّي وسلامهُ عليهِ إلى يومِ يبعثون. قالَ تباركَ وتعالى: "تباركَ الذِّي بيدهِ الملكُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قدير الذي خلقَ الموتَ والحياةَ ليبلُوكم أيُّكُم أحسنُ عملاً وهوَ العزيُز الغفور" الملك 1-2 وقال تبارك وتعالى: "إن الذين قالوا ربُنا اللهُ ثم استقاموا تتنزَّلُ عليهم الملائكةُ الاَّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشِروا بالجنةِ التي كُنتم توعَدون. نَحنُ أولياؤُكُم في الحياةِ الدنيا وفي الآخرة ولكُم فيها ما تشتهي أنفُسُكم ولكُم فيها ما تدَّعون. نُزلاً من غفورٍ رحيم" سورة فُصِّلت 30-31 ما كُنتُ أحسبُني أقِفُ يوماً هذا الموقفَ الحزين تأبيناً لصديقٍ من أصدقاءِ العُمر رحلَ عنَّا فجأة وأنسلَّ من عالمِنا كما ينسَّلُ ضوءُ الفجرِ من ظُلمةِ الليل. ولكن حين طُلِب مني أن أقولَ كلمات ٍعن محمدٍ جعلهُ الله تعالى محموداً عنده كما جعلهُ محموداً بينَ الناسِ ما كان لي أن أتوانى في ذلك علِّني أُوفيهِ بعضاً من حقِّه وشيئاً يسيراً من أفضالهِ عليَّ وهي كثيرة ليسَ هذا مُقام ُسردِها. كانَ من فضلِ اللهِ سبحانهُ وتعالى عليَّ أن جمعنِّي بمحمدٍ قبل ما يُقارب أربعينَ عاماً. وطِوالَ مسيرتِنا في دروبِ الحياة هذه جمعتني بهِ أكثر من وشيِّجة وربطتني بهِ أكثر من آصرة. فقد أتينا كِلانا إلى فرنسا ونحنُ بعدُ في مُقتبلِ العُمرِ مبتعثينَ من جامعةِ الخرطوم العتيدة. وكنتُ قد سبقتُهُ إلى جامعةِ ليون وأتى هوَّ بعدي بسنوات وذهبَ إلى بيزانسون. أتى محمد طلباً لمعرفةٍ يتزودُ بها وينتفع منها لينفعَ غيره. أختارَ التدريسَ في بداية أمره، فكانت تلك الرابطةُ الأولى بينَنا التي توسَّعت لاحقاً وشَملت مجالات أُخرى. جمعنَا حبُ الأدبِ العربي والفرنسي والإنجليزي والعالمي وحبُ اللغاتِ والتاريخِ والتراث، ثُمَّ الترجمةَ عملاً وتدريساً وبحثاً، وفوق ذلك وقبله حبُ السودان ِوأهلِه. وازدادت هذهِ العلاقاتُ قوةً ومتانةً على مرِ السنوات وتوطَّدت ِالوشائجُ التي ربطتنا بأخوةٍ كرام آخرين منهم من مضى إلى ربهِ راضياً مرضياً بإذنه تعالى ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلاً. وتجاورنا في كريتي أولَ عهدي بباريس في بداية التسعينات، فتقوَّت علاقتُنا برابطةٍ أسرِّيةٍ ازدادت مع الأيامِ رُسوخاً. ولا أحسبُ أنَّ اختياراتَ مُحمدٍ المهنية كانت اعتباطاً، بل أظنُّها كانت، ربما من حيثُ لا يدري، توافقُ طبعهَ وشخصهُ ودوافِعُهُ العميقة، فالتدريسُ، على سبيلِ المثال، هو في جوهرهِ الحقُ رسالةً قبل أن يكون مِهنة. وهو يعني أن يكونَ الإنسانُ في خدمةِ الآخرينَ، فيُكرِّس وقتهُ وجُهدهُ ما استطاعَ إلى ذلكِ سبيلاً لنشر المعرفةِ والحقيقة. وتلكَ صفة من صفاتِ محمدٍ التي يعرفهُا كُلُّ من عاشره ُوداناه. غير أنَّه عندما غيَّر مسارهُ المِهني اختارَ الترجمة، وهي مهنة تُوافِقُ طبعهُ أيضاً، فهي تقتَضي الأمانةَ والتجردَ والدِّقةَ والصبرَ والتواضع، وهي فوَق ذلك َوقبلَ ذلكَ جِسر يربِط بين الثقافاتِ والحضاراتِ ربطاً يتجاوز حدودَ العصبِّياتِ جميعاً نُشداناً للتواصلِ بين الناس، وهي واسطة من وسائطِ السلامِ والوئام بين بني البشر، وتلك كُلُّها صفات كانت تتجلَّى في محمد قولاً وفعلاً. فقد كان صبوراً على المكارهِ ودقيقاً في عملهِ وأميناً عفيفَ اليدِ واللسان. وفي المنعطفِ الأخيرِ من حياتِه المِهنية، انشغل في اليونسكو بأمرِ الثقافاتِ وحوارِ الحضارات مواصلةً لذلك السعي الدؤوب لبناءِ جُسورِ التفاهُمِ والتواصلِ بين الناس، درءً للنزاعاتِ ومساهمةً في إحلالِ السلامِ والأمنِ في عالمِنا المُضَّطربِ هذا. وأحسب أنه وجد ذاته العميقة في هذا العمل الإنساني، فانكب عليه وبذل فيه عصارة جُهدهِ وجُل وقتهِ حتى أنجزهُ على أفضلِ وجهٍ قبُيلَ وفاته. لا نُزكِّي على الله أحداً ولكنَّ الله يُزكِّي إليهِ من يشاء ما كانَ محمد نبياً ولا رسولاً، بل كان بشراً يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق ويفعلُ ما يفعلُ الناس. ولكِّنه كانَ إنساناً بكلِ معنى هذهِ الكلمة. ولعلَّهُ أدركَ المعنى العميقَ لاستخلافِ اللهُ الإنسانَ في الأرضِ فسعى، ما وسعهُ السعيُ، إلى الوفاءِ بحقِ هذا الاستخلاف الربَّاني ومن أركانِه عِمارةُ الأرضِ بما ينفعُ الناسَ وحُسنُ الفِعلِ والقولِ، فكانَ بسيطاً، وودوداً، طيَّبَ المعشرِ، ليَّن القول، دائمَ التبسُّم، قلًّما رأيتُه ُعابساً أو غاضباً، وكان مُسامِّحاً يلتمِسُ للناسِ الأعذار، ومُحِّباً للخيرِ لا يحمِلُ فيما أعلم ضغينةً لأحد. كان خيراً يمشِّي على قدمَين. وكان بَراً بوالديهِ وأهلهِ وشديدَ التعلُّقِ بوالدته التي ذهبَ لتقبُّلِ العزاءِ فيها، فلقِيَ ربه ُسبحانه وتعالى وهو في الطريقِ إليها. ولعلّ الله سُبحانه وتعالى أراد بحكمتهِ العظيمة التي تُخفى علينا أن يُعجِّلَ لهُ بلقائها في دارِ الخلودِ لقاءً لا فِراقَ بعده، وأن يجعلَ وفاتهُ في بِرِّه ِبوالدته، فنسألُ الله تباركَ وتعالى أن يجمعُهُما في الفردوس الأعلى. وقُبيلَ سفرهِ الأخير، أتاهُ الكثيرونَ مُعزِّينَ في والدتهِ ومُودِّعينَ لهُ في سفره، فكانَ ذلكَ، دونَ أن نَدري، وداعَنا الأخيرَ له. نسألُ الله تبارك وتعالى أن يُحسِن وِفادتُهُ ويُنزِلهُ المُنزلَ المُقرَّب عندهُ ويجعلُهُ من أوليائهِ الصالحينَ الذين قال فيهم جلَّ من قائل: "ألا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خوفُ عليهم ولا هُم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقوُّن. لهُمُ البُشرى في الحياةِ الدُنيا وفي الآخرة لا تبديلَ لكلماتِ الله ذلكَ هوَّ الفوزُ العظيم" سورة يونس 62-64 ونسألُ الله تعالى أن يباركُ في زوجهِ وذريتهِ وأهلهِ، وأن يربِط على قلوبِهِم برباطِ الصبرِ والإيمان، وأن يجعَلّهُم خيرَ خلفٍ لخيرِ سَلف حتى تتواصلَ هذه السيرةُ العطِّرة، وأن يرزُقنا جميعاً وأهلَهُ وأصدقاءهُ ومعارفَهُ الكثيرينَ حُسنَ العزاءِ فيه ويربط على قلوبِنا بِرباط الصبرِ واليقين. وصلِّي اللهُّم على رسولكِ الكريم الذي ما عِرفَ قدرَهُ غيُركَ يا عظيم وأجعل برحمتكِ التي وسِعت السماواتِ والأرضَ محمداً من رفقائهِ في جنةِ الفردوس وما ذلك عليك تباركتَ وتعاليتَ بعزيز. والسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ تعالى وبركاتُه يوسف الياس [email protected]