ثمة أناس يمنحونك احساسا بأنهم اغنياء رغم فقرهم وبؤسهم، ويمنحونك كذلك درسا فى الحكمة وفصل الخطاب. لقينى بوجه هاش، وثغر يفتر عن بسمة رضى، وعينان يشع منهما بريق الحكمة والصدق والرضاء.. كان فى العقد السادس من عمره، يبدو ذلك من الخطوط الثلاثة الرفيعة التى سطرت جبينه العريض، والشيب الذى وخط الشعيرات القليلة التى تبقت من شعر راسه الاشعث.. القى على بالسلام وهو يدنو منى قيد ذارع ويمد الى بيده محييا.. مددت اليه بيدى ورددت عليه السلام بفتور، فى البدء ظننت انه متسول من اولئك الذين يسألون الناس الحافا، كان يتعثر فى اسماله البالية ويحمل على عاتقه ( مخلاة ) ناء به حملها حتى تدلت على ظهره الشبه محدودب، حدجنى بنظرة فاحصة قبل ان يسأل عن بيت ( فلانة).. وفلانة كما اعلم هى ساكنة جديدة وفدت الى قريتنا بحثا عن عمل بعد ان توفى عنها زوجها وترك لها جيشا جرارا من الاطفال القصر، دللته على الطريق المؤدى الى بيتها، كنت فى غاية الاندهاش وانا اقوم بارشاده، احس بدهشتى التى ارتسمت على تقاطيع وجهى بيد انه لم يعلق بشيء.. شكرنى فى حبور ثم انصرف لا يلوى على شيء ميمما وجهه شطر بيت الارملة. تتبعته وانا اقتفى اثره دون ان يشعر بى، وقف على عتبة الدار وهو يدق على الباب بعصاة كانت فى يده، قلت فى نفسى وقد ذهبت بى الظنون مذاهب شتى، ماذا يريد هذا المتسول من امرأة ارملة تعيش مع عيالها الذين لم يبلغوا الحلم بعد؟ كنت اقف بعيدا متواريا خلف جذع شجرة بحيث لا يستطيع رؤيتى.. لم تمض دقائق حتى فتح الباب وخرجت منه صبيه حلوة لم يتجاوز عمرها العاشرة، دار بينهما حوار لم يستمر طويلا، غادرت بعده الصبية الى الداخل وغابت لبضع ثوانى لتظهر فى هذه المرة أمرأة يبدو انها الارملة المعنية، القت عليه بالتحية، ورأيتها تتحدث معه وعلى وجهها الجميل تبدو سور الاضطراب والاستغراب، لم اكن اسمع ما يدور بينهما من حديث، ولكننى حدست بانها الحت عليه فى الدخول، بيد انه رفض متعللا باشياء لم اسمعها لانقلها هنا. بعد ان فرغا من حديثهما ادخل يده فى جيبه واخرج منه مظروفا سلمه للارملة مع ( المخلاة) ثم ودعها وانصرف. قلت له؛ لقد تتبعتك وشاهدت كل ما جرى، ارجو ان تصدقنى القول، ما هى قصتك. أنشأ يقول وهو يتفرس فى وجهى؛ هذه الارملة زوجة زميلى وصديقى، عملنا انا وزوجها قرابة العشرين عاما فى مهنة الاسكافى، كنا كتوأم سيامى، لا ترانا الا معا، ولا يفرقنا سوى النوم.. رحل صديقى ولم يترك لهذه الارملة شروى نقير، وقد عاهدت نفسى ان اقاسمها كل ما يجود به على عملى، ومنذ شهر علمت انها جاءت الى قريتكم هذه، ولم اكن لاتأخر عنها كل هذه المدة، ولكن توعكت قليلا فتوقفت عن العمل، والآن وقد بلغت العافية فها انا استأنف ما عاهدت به نفسى. قلت وقد ابهرنى موقفه؛ فى البدء ظننتك متسولا.. رد على وبسمة عريضة ترتسم على فمه؛ يجب ان لا تحكم على الناس بمظاهرها، واردف وعيناه تومضان ببريق الحكمة؛ الانسان بجوهره لا بمظهره. مددت اليه بيد وودعته بحرارة فى هذه المرة وانا احس بصغار امام موقفه النبيل. تركنى وانصرف وبعد عدة خطوات التفت الى وهو يصيح؛ اياك والاحكام المسبقة. [email protected]