بسم الله الرحمن الرحيم بالطبع فإن البضاعة الرائجة في سوق الكتابة هذين اليومين هي الاعتداء على أطباء ، وأجهزة وآليات حوادث مستشفى أم درمان من قبل مجموعة من أهل ذلك الشاب ، الذي تعرض لطعنات قاتلة من جهة ليست محل بحث الآن، وذلك بسبب شبهة تقاعس قد نُسبت للأطباء عند اسعافه ، ومن ثم توفي لرحمة مولاه فاستشاط المرافقون غضباً ، وحطموا كل ما وقع بأيديهم ولم تسلم امرأة بريئة من اعتدائهم ، فأسلمت الروح الى بارئها بعد نزع جهاز الأكسجين من جهازها التنفسي . هذه هي الرواية المتداولة عبر الصحف وأجهزة التواصل ، وقد اهريقت أحبار اسفيرية وورقية معتبرة ، حاكية وناقدة لسلوك الأطباء وسلوك أهل المرحوم المعتدين ولم يسلم ثوب الحكومة من ( الرش ) . شخصي - شبه الضعيف - لا يود أن يشجب أو يدين أو يبرر سلوكاً معيناً لأبطال هذه الحادثة المؤسفة ذات الدلالات العميقة ، ولكن ، فقط ينتهز الفرصة طالباً – القراء الكرام – الموافقة له بسرد تجربة من نوع آخر مع هذه الفئة المهمة في المجتمع ، والتي حدثت إبان عمله مع آخرين في مكافحة النهب المسلخ بدارفور في ثمانينات القرن العشرين ، وهي على سبيل الذكرى والتاريخ فقط . في العام 1988م تم نقلي وبعض الزملاء للعمل في إقليم دارفور، وكان حظي أن أُنقل رئيساً لشرطة زالنجي من قبل القائد الشرطي الرقم الفريق شرطة الطيب عبدالرحمن مختار، الذي كان مديراً لشرطة جنوب دارفور برتبة العقيد شرطة . زمانئذٍ كان الإقليم ملتهباً أمنياً وكانت حميات النهب المسلح في أوج قمتها الحرارية ، إضافة الى الفوضى الضاربة أطنابها بالحدود التشادية السودانية ، التي كانت مسرحاً للقتال بين المتنافسين على سلطة الحكم في دولة شاد ، والذين كانوا يديرون معاركهم داخل السودان أحياناً ، الشئ الذي أدى إلى انتشار السلاح بين المواطنين السودانيين ، وبالتحديد بين بعض بطون القبائل العربية من جهة وقبيلة الفور من جهة أخرى ، فيما يعرف هذا النزاع تاريخياً ب ( مشكلة العرب والفور ) . الحكومة أعلنت وقتها حالة الطوارئ باقليم دارفور ، ومعنى ذلك سريان قانون الطوارئ لعلاج الأحداث بجانب القوانين السارية الأخرى . في أحد الأيام تم ابلاغنا بأن ثمة اشتباك قبلي تدور دوائره في منطقة اسمها ( فاطنة كًرَل ) بضواحي زالنجي ، بين بعض العرب ومليشيات الفور وأن هناك بعض الضحايا من القتلى والمصابين ، علاوة على عمليات نهب للماشية من قبل أناس يرجح أنهم من قبيلة البديات التشادية . حركنا قوة مشتركة من الجيش والشرطة لتغطية وعلاج الحادث . لم يمر طويل وقتٍ حتى أحضر بعض الأهالي مصابيهم لمستشفى زالنجي ، وهم يعانون كسوراً في العظام وجروجاً وإصابات مختلفة جراء الجبخانة والسلاح الأبيض . وقتها لم يك هنالك ولا طبيب واحد بالمستشفى وعندما سألنا عنهم لم نجد من يفيدنا بمكانهم . بحثنا عنهم في كل مكان ولم نجدهم وأخيراً علمنا من السيد عبدالله يحيى مدير مشروع جبل مرة للتنمية الريفية ، بأنهم ذهبوا لمنطقة قولو وجلدو بجبل مرة برفقة الموظف يعقوب مسؤول التنمية الريفية بالمشروع ، لزيارة منطقة الجبل للوقوف على ظاهرة إصابة سكان هذه المنطقة بالغدة الدرقية ، وذلك بسبب اتعدام مادة اليود في المياه . بتنا في حالة لا نحسد عليها ، فالمصابون ينزفون ويتألمون ويستغيثون ، والمستشفى ليس بها إلا المرحوم المساعد الطبي علي جبَّاي عليه رحمة الله وبعض الممرضين . المهم تمت الاستعانة ببعض البصراء لجبر الكسور واصلاحها، وقام المساعد الطبي بعمل المقدور عليه من تضميد للجروح . المستشفى بها طبيبان أصلاً وهما الأخ الكريم الدكتور محمد صالح وهو من أبناء الزغاوة والدكتور جمال وهو من حلفا الجديدة ( حلفاوي ) ، وقد غادرا المنطقة دون اخطارنا كلجنة أمن والبلد في حالة طوارئ ، ولذا لابد من إجراء رسمي وقانوني لمصلحة المواطن الذي من حقه تلقي اسعاف وعلاج سريع ، مع اجراء آخر يمنع تكرار مغادرة الأطباء لدائرة الاختصاص إلا للشديد القوي . المهم قمت بنوجيه النقيب شرطة نبيل فتح الله ( لواء الآن ) بالمرابطة مع قوة شرطية بالكيلو (5) خارج زالنجي ، ومن ثم القبض على الطبيبين محمد صالح وجمال وموظف المشروع يعقوب واحضارهم لمقابلتي بالقسم متى حضروا من جبل مرة . بعد صلاة المغرب مباشرة تم اخطاري بأن المقبوض عليهم بالمركز تحت حراسة الشاويش المناوب ، طلبت احضارهم بالمكتب لتعنيفهم على هذا السلوك الذي هدد حياة المواطنين ، ونصحهم مع تبيان خطورة مغادرتهم المستشفى بدون اخطار مسبق ،خاصة وأن حالة الطوارئ معلنة والبلد ملتهبة بالنهب المسلح . الطبيبان رقضا الخروج من الحراسة وطالبا بمحامي لمعرفة السبب الذي تم اعتقالهما بموجبه .. ذهبت اليهما وتحدثت معهما عن سبب احضارهما للقسم ، وأخطرتهما بأن هذا إجراء روتيني وعليهم الآن مغادرة القسم فوراً لمباشرة عملهم . رفضا الخروج أيضاً . لقد أدخلانا في ورطة شديدة حيث لم نجد في القانون ما يدعم قبضنا عليهم ، اضافة الى أن الطبيبين ينتميان للحزب الشيوعي المسيطر على نقابة الأطباء . إذن لابد من مخرج من هذه الورطة . قمت على الفور باصدار توجيهات للمناوب بفتح بلاغ ضدهما تحت المادة (229) من قانون العقوبت لسنة 1983م ، وعنوانها ( السلوك باهمال ) وهي مادة تفتح لمن يكون في حوزته أو ملكيته شئ ويهمل في رعايته فيسبب الأذى للآخرين ( كهرباء ، كلب سعران ، مجنون ، بئر كاشفة ) ومن ثم اطلاق سراحهما بتعهد شخصي . تم فتح البلاغ ومن ثم التصديق بالضمانة ورغم ذلك رفضا الخروج من الحراسة إلا في حضور محامي . المهم تم اخراجهما بالقوة مع ترحيلهما الى ميز الدكاترة . عند الصباح الباكر زرنا المستشفى لتطييب الخواطر فعلمنا بمغادرة الطبيبين لزالنجي فجراً مع أول بص مغادر الى نيالا واتصلا بالنقابة واسمها ( فرعية نيالا ) ، ثم أعلنت النقابة اضراباً عن العمل فوراً مع شكوى ضدي لأكثر من ست جهات من ضمنها مدير شرطة ج دارفور العقيد الطيب عبدالرحمن ... قام سعادة المدير بارسالي استيضاحاً سريعاً عبر الراديو فحواه ( وضح الأسباب التي قمت بموجبها باعتقال أطباء مستشفى زالنجي مع الأسباب التي أدت لمغادرتهما المستشفى وتركه خالياً على أن يأتيني ردك فور استلام هذا الاستيضاح ) .. قمت بالرد على الاستيضاح شارحاً حال المصابين من حادث النهب المسلح ومغادرة الطبيبين المنطقة دون اخطار ، وأفدته بأننا قمنا باستدعائهم لتوجيه النصح لهم فقط بموجب المادة 13 (و) من قانون الشرطة ، وهي خاصة بواجبات الشرطي وهي بالنص ( توعية الجمهور ) وأضفت : وكما يعلم سيادتكم بأن كلمة الجمهور تعني ( أي شخص ) سواءكان الشخص الطبيعي أو كان شخصية اعتبارية أو مجموعة من الأشخاص حسب تعريف القانون الجنائي لسنة 1983م وهي تشمل عمال الشحن والتفريغ وسكان قرية المجذومين بزالنجي والأطباء . تم استدعائي فوراً للرئاسة بنيالا وعند وصولي عند العاشرة صباحاً دخلت مكتب السيد المدير العقيد الطيب عبدالرحمن ، فوجدت حوالي خمسة من نقابة أطباء فرعية نيالا بجانب الطبيبين ، وقد قابلوني ببرود ملحوظ وسلام فاتر . تم تداول المشكلة بالشرح والنقاش والمداولة وقد تدخل الرجل القامة سعادة الفريق الطيب عبدالرحمن وبحكمته المعروفة قام باجراءات الصلح بيننا ، مرجعاً الأسباب والدواعي للحالة الأمنية المتدهورة في الاقليم والتي تتطلب تكاتف الجميع وتعاونهم .. بعد المصالحة ووعْدهم برفع الاضراب وانهائه ، قام رئيس النقابة الفرعية بتوجيه اللوم لي قائلاً : والله نحن ما زعلانين من اعتقال زملائنا الأطباء وبس !!. لكن يا أخي كيف تقول كلمة شخص تشمل سكان قرية المجزومين بزالنجي ونقابة عمال الشحن والتفريغ والأطباء !! لماذا لم تذكر ضباط الشرطة !؟ أجبت عليه بأن كلمة الأطباء وردت في آخر كلمة من الصفحة ، ولولا ذلك لذكرت ضباط الشرطة ، فضحكنا جميعاً وانتهى الأمر عند هذا الحد، حيث رجع الطبيبان معي بعربة الشرطة إلى مقر عملهما بمستشفى زالنجي ، وظللنا جميعاً نؤدي واجباتنا نحو الجمهور بكل أريحية ومحبة وتفاهم حتى غادرنا تلكم الديار الطيبة.. يا ترى أين أخواننا دكتور محمد صالح ودكتور جمال اللذين لم نرهما منذ ذلك التاريخ !!!؟ .. أرجو أن أقول أن العلاقة بين الأطباء والجمهور هي مثل العلاقة بين الشرطة والجمهور ، تحتاج للصبر والتحمل من جميع الأطراف مع التسامح وكفى . ( نأسف للإطالة [email protected]