الحديث عن ضرورة وحتمية التطوير الالكتروني للعملية التعليمية ليس ترفا ً بأي حال من الأحوال ولا يمكن أن ينظر إليه في أي لحظة باعتباره نموذجاً للمقولة المشهورة (الناس في شنو والحسانية في شنو؟). أسوق هذه المقدمة ردا استباقيا على من ينظر إلى هذا العنوان نظرة المتطلب كتابة ً عن قضايا وموضوعات أخرى في هذه الظرفية السودانية الحرجة. وفي حقيقة الأمر فإن هذه الضرورة تنسجم ولا تتعارض مع أي من المشكلات والكوارث الأخرى التي تأخذ بتلابيب أوضاع النظام التعليمي (وغير النظام التعليمي) المزرية والمخزية نتيجة سياسات وإفرازات قرابة ثلاثين سنة من الجحيم والتيه والظلام والتدمير الممنهج لكل شيء جميل في بلادنا. لا يتناسى هذا المقال أن هناك مدارس سودانية "حكومية" كثيرة يفترش طلابها وتلاميذها الأرض تماما ويلتحفون – بالضبط - العراء والسماء والغبار في هذا اليوم الدراسي من العام 16 بعد الألفية الثانية وأن هناك مدارس "خاصة" تمارس على طلابها وتلاميذها كل شيء عدا ما تفرضه الأخلاق الانسانية المجردة والنظم والأعراف التربوية المحضة. ولا ينسى أن هناك مشكلة عميقة ظلت تلازم المنهج الدراسي نفسه منذ فجر التسعينات وصلت ذروتها في وجود خريجين من جامعاتنا الكبرى والعريقة لا يجيدون المهارات الحسابية واللغوية البسيطة والأساسية التي يفترض أنهم اكتسبوها في سنوات دراستهم الابتدائية الأولى. الحديث هنا لا يستفيض عن الجمع والضرب والطرح والقسمة والإملاء والقراءة الطلقة بقدر ما هو يشير إلى مهارات "أسبق" من ذلك كله تتعلق بكتابة الأعداد وقراءتها بشكل صحيح ورسم الحروف وتهجئتها منفصلة أو متصلة. لا ينسى هذا المقال ولا يتناسى أيا ً من نواحي هذه الصورة الممعنة في الحزن والقتامة ولكن كل ذلك لا يعني أن اللحظة غير مناسبة للحديث عن ضرورة الإسراع الآن بإقرار وتنفيذ "لكترة" / حوسبة / سيبرة شاملة وفعلية للعملية التعليمية لحاقا ً بإيقاع العصر الذي لا ينتظر أحدا و "رحمة" بمعلمينا وتلاميذنا أن لا تصيبهم (فوق أرتال ما يعانونه أصلا ً) غربة "أهل الكهف" عن رصفائهم في العالم المتحضر من حولنا، غربة تجعلهم غير مؤهلين لمواصلة لتدريس أو الدراسة في أي من دول الجوار إن داعي الداعي. ولا شك أن إيقاع هذه السنوات يفرز مليون داعي للانتقال للدول الأخرى سواء للمعلمين أو للطلاب ولا شك سيداتي آنساتي سادتي أنكم لاحظتم أن الإعلانات الأخيرة عن حاجة لمعلمين في دول الخليج وغيرها تشترط على المعلم المتقدم إجادة استخدام أدوات ووسائل تعليمية الكترونية معينة. أما عن الطلاب والتلاميذ فحدث ولا حرج. يشكو معظم المعنيين من أولياء الأمور والمعلمين وأصحاب الشأن من رداءة الخط اليدوي لنسبة عالية من التلاميذ في أي فصل دراسي اختياري. إن هذه الظاهرة المؤلمة لها نسب شرعي بكل تأكيد في المشكلة العويصة التي لازمت مقرراتنا زهاء ربع قرن أو يزيد والتي سبق أن أشرنا إليها ولكنها تنتسب أيضا إلى حقيقة مفادها أن البيئة الحياتية لهؤلاء التلاميذ (المبتلين بضيق أفق كل القائمين على تطوير نظامهم التعليمي تقريبا) تختلف اختلافا هائلا عن البيئة الحياتية التي كانت فيها وسائل الكراسة الورقية والكتاب الورقي سائدة ومهيمنة قبل أربعين أو خمسين عاما أو أكثر أو أقل. لأجل ذلك يشبه فرض الكتابة على الكراسة الورقية اليوم أن يفرض على تلاميذ السبعينات والستينات أن يكتبوا على ألواح الخشب المستخدمة في الخلاوي أو على أوراق البردي التي استخدمت في أزمنة غابرة وسحيقة ! لأن أطفال السبعينات والستينات تعودوا على استخدام "الورق" في الكتابة والقراءة في حياتهم اليومية بمثل ما تعود أطفال اليوم على الكتابة والقراءة في وسائط أخرى كالكمبيوتر والآيباد والهاتف الذكي وغيرها. إذن ، سيداتي آنساتي سادتي، فإن الحلول تتلاقى وتتقاطع في ضرورة الإسراع باللكترة والحوسبة والسيبرة التي تحدثنا عنها والتي لن تكلف – بكل تأكيد – أكثر مما يهدر بعيدا عنها وأكثر مما ينشأ عن خسائر محسوبة وغير محسوبة نتيجة لهذا الابتعاد الأثيم المجرم في حق وطننا وأجيالنا القادمة. ولا أقل من "فرض" أو "إباحة" تلخيص الدروس وحل الواجبات على الوسائط الالكترونية بالنسبة للطلاب مثل الآيباد أو الهاتف الذكي أو الميني لابتوب وإرسال هذه الملخصات والواجبات للمعلم أو التقني المختص في المدرسة عبر الايميل أو الواتساب أو حتى فيسبوك! أما بالنسبة للمعلمين وعرض دروسهم فإن أنظمة السبورة التفاعلية التي شرعت الجهات الحكومية بالفعل على تعميمها على المدارس النموذجية تحتاج إلى مزيد من الاهتمام والتنظيم والتقنين لتشمل بشكل إلزامي كل المدارس الحكومية والخاصة حتى لا يتخلف معلمونا على الأقل عن دورهم التاريخي المشهود في قيادة العملية التعليمية في الإقليم بأكمله. المحزن أن بعض ضعاف النفوس ممن تحركهم الدوافع الأنانية الكسولة والضيقة من مسئولين ومعلمين ومعنيين يتعمدون الآن الآن (وبحرص وكنكشة يحسدهم عليها عتاة الحكام الفاسدين القتلة) تعطيل هذه الخطوة الجبارة شديدة الوجوب شديدة الإمكان. لكن الأمل معقود على شرفاء المعلمين والخبراء وذوي الشأن ولا سيما الهميمون الشجعان في لجنة المعلمين والوطنيون الاستراتيجيون من المنشغلين والمستثمرين في التعليم الخاص والالكتروني في صد هذه المقاومة الجبانة ودحرها بمشروعات وبرامج طموحة تحقق المطلوب في أقل مدى زمني ممكن والله المستعان وهو الهادي سواء السبيل [email protected]