الشباب الذى اضاف اضافة ثورية بالغة الخطورة ، هو الذى كان طفلا عندما جاءت كارثة الانقاذ ، أو ولد خلال السبع وعشرين عاما القاحلة الماحلة من حكمها . هؤلاء الشباب ربما لايدرون ما الذى أوصل هذه الطغمة الى الحكم والتحكم غير المسبوق فى شئون البلاد والعباد .هذا التاريخ القريب شديد الاهمية لوصول الشعب السودانى الى الحرية وللمحافظة عليها . السبب الرئيس هو الهجمة الشرسة على الديموقراطية من قبل جماعات التخلف وعلى راسهم الاخوان المسلمين بمختلف تسمياتهم الحربائية طوال سنوات مابعد الاستقلال . ولنبدا السرد من الثلاث سنوات الانتقالية مابين الفترة الاستعمارية والاستقلال – 1953- 1956 ، وهى الفترة التى وضع فيها ماظل يعرف بالدستور المؤقت . هذا الدستور كانت واضحة فيه معالم الديموقراطية البريطانية ، مع تعديل يلائم الوضع فى السودان ، برغم انه يخالف مبدأً رئيسا من ديموقراطية وستمنستر ، الا وهو مبدأ صوت واحد لكل فرد . حيث اقترح الدستور جعل دوائر للخريجين ، يترشحون لها ويصوتون فيها دون غيرهم . فأصبح للخريج صوتان : واحد فى الدوائر الجغرافية وآخر فى دوائر الخريجين . وكان المنطق وراء ذلك هو معرفة واضعى الاقتراح بالوضع فى السودان وقتها ، الذى مازالت القبلية والطائفية الى جانب النسبة العالية من الامية تشكل عائقا امام الاختيار الواعى لممثلى الشعب . غير ان هذه المسألة ، فى تقديرى ، كانت هى الخميرة التى أدت الى ماحدث للديموقراطية الوليدة . وحقيقة الامر ان التمايز بين ممثلى التخلف والتقدم قد بدأ قبل تفعيل ذلك المبدأ الانتخابى ، وذلك فى الخلاف الذى عبر عنه بشعار " تحرير لا تعمير " من قبل الفئة الاولى والطرح المخالف من قبل الفئة الثانية ، الذى يقول بان التعمير هو الذى يحافظ على التحرير . وقد وضح ذلك الاختلاف فى المعركة حول المعونة الامريكية . هذه المعركة كاد اليسار ان يكسبها من خلال عمل جماهيرى وبرلمانى ، مماجعل حكومة السيد عبدالله خليل تلجأ الى الجيش لاستلام الحكم لتفادى السقوط لها وللمعونة. فاذا عدنا الى موضوع دوائر الحريجين فاننا نجد انه فى الانتخابات التى استخدم فيها هذا المبدأ بعد ثورة اكتوبر، استطاع الحزب الشيوعى ان يحصل على (11) دائرة من مجموع الدوائر ال (15 ) المخصصة لتلك الدوائر.هؤلاء النواب الاشاوس أصبحوا " شوكة حوت " فى حلق الحكومة ، فكان لابد من ايجاد مخرج . واجتمعت شياطين الانس والجن لتأليف المسرحية واخراجها ثم تنفيذها على مسرح السياسة السودانية ! بدأت الرواية بحديث الطالب المدسوس فى ندوة اتحاد المعلمين ، التى كان واضحا من اشخاص ادارتها المنتمين الى الجماعة انها مقدمة المسرحية ، الذى اساء فيه الى المقدسات الاسلامية . وبم ان المسرح كان معدا تماما لبقية الرواية ، فقد اندلعت المظاهرات الداعية الى حل الحزب الشيوعى وطرد نوابه من البرلمان . ولتقصير القصة ، تم التصويت فى البرلمان واتخذ القرار المعد سلفا . دافع الحزب واصدقاؤه عن دوره ورفع قضية دستورية ضد القرار وكسبها ، كما هو متوقع فى عهد ديموقراطى . غير ان السيد رئيس الوزراء ، الصادق المهدى، رفض الالتزام بتنفيذ حكم المحكمة الدستورية مماأدى الى استقالة رئيسها ، دون ان يحرك ذلك ساكنا فى الحكومة ولا المعارضة ! نزعت الشوكة من حلق الحكومة ، بينما دخل الحزب الشيوعى الى باطن الارض . كان لابد ان يكون لهذا الخرق الكبير لمبدأ فصل السلطات كأحد أهم مبادئ الديموقراطية اثره على مجمل الحياة السياسية فى البلاد ، وقد كان . فمن ناحية اصبحت سابقة لمن يأتى من الحكومات ، ومن ناحية أخرى بدأت المؤسسات الحزبية فى المعارضة تبحث عن اساليب أخرى للوصول للسلطة ، بما ان الوسيلة الديموقراطية قد اغلقت ، الا اذا اريد لهذه الاحزاب ان تصبح جمعيات خيرية لايهمها الوصول للسلطة ! ومن هنا بدأت كل الاحزاب السياسية ، واليسارية على وجه الخصوص تبحث عن موطأ قدم داخل القوات المسلحة . فى الحزب الشيوعى بدأ الخلاف حول الفكر الانقلابى . عدد من اعضاء اللجنة المركزية ومن اعضاء الحزب ، مدفوعين ربما بما آل اليه حال الحزب بعد المد الكبير الذى حدث بعد ثورة اكتوبر ،ومن آثاره طرد نواب الخريجين ، كانوا يرون ضرورة تكثيف العمل داخل القوات المسلحة ولا يرفضون مبدا الانقلاب كوسيلة فى الوصول الى السلطة . من جانب آخر كانت اغلبية اللجنة المركزية والكوادر الرئيسية فى الحزب ترفض الفكر الانقلابى ، وتقول ان تدخل الجيش لايبرره الا ان يكون سندا لثورة شعبية . استمر الصراع داخل الحزب حول الموقف من الانقلابات الى ان بدا الضباط الوطنيون فى الجيش الاعداد للانقلاب ، بينما ظل الامر فى الحزب منقسما لدرجة ان عبد الخالق رفض ما عرضه عليه نميرى ، رئيس المجموعة الانقلابية، من المشاركة . تم الانقلاب فى صبيحة الخامس والعشرين من مايو لسنة 1969، أى بعد سنوات قليلة من حادثة طرد النواب ، ووصل الخلاف قمته داخل اللجنة المركزية ، لدرجة اننا ظللنا ننتظر رأى الحزب حتى منتصف نهار ذلك اليوم . وأخيراً جاء رأى الحزب الذى كان يعبر عن أمر قد وقع ،ملخصه : ان الذى حدث هو انقلاب ، باعتبار ان الحركة الجماهيرية فى حالة جذر . ولكن الانقلاب يطرح برنامج الحزب فى جملته ، كما ان قيادة الانقلاب قد اشركت عدد من الضباط الشيوعيين والديموقراطيين فى مجلسى الثورة والوزراء . بهذا سيكون انتحارا سياسا الوقوف ضده . ومن ناحية أخرى سيكون من الممكن تطوير الانقلاب الى ثورة بشروط ، أهمها ان يظل الحزب مستقلا عن السلطة ليستطيع التعبير عن رأيه بحرية فيما ستتخذه من اجراءات . كان اصحاب الراى الآخر فى الحزب يعلقون على ذلك بسخرية تقول : حدث انقلاب والحزب يعمل فى اسوأ الظروف والمحاصرة ، بينما الانقلاب يطرح كامل برنامج الحزب ، فماذا يريد عبدالخالق والذين معه أكثر من هذا ؟! نواصل فى الحلقة القادمة ماتم من صراع داخل الحزب وبينه وبين سلطة مايو حول العديد من الامور التى اثبتت فى نهاية الامر صحة موقف الحزب الذى بقى بعد الانقسام الشهير .