إخوتنا فى شمال الوادى و منذ أمد بعيد و على راسهم لفيف من علماء المصريات المتعالمين و الإعلاميين الموتورين درجوا على ترديد أن الحضارة المصرية مصرية المنشأ و الجذور متاجرة باللآثار و مظاهرها الباهرة و إستحقارا لإخوانهم سود البشرة فى جنوب الوادى. تلك المتاجرة لربما تجوز على أذهان السياح الاثرياء الذين يأتون للفرجة و الفسحة و أخذ صور السيلفى ليس إلاو و قد تبدى الذعر المصرى من تغيير تلك الصورة النمطية عن جذور الحضارة المصرية عند زيارة الشيخة الموزة و رعايتها للآثار السودانية فكال لنا إخوتنافى الشمال ألوانا من السباب و الانتقاد غير العلمى, إلا أن أو لئك القوم حاولوا تسويق تلك المقولة فى عالم مختلف تماما لم يحسنوا قراءته جيدا هو أمريكا فبدا لهم من الامريكان ما لم يكونوا يحتسبون!!! شهد الساحلان الامريكيان الشرقي والغربي وبعض مدن الوسط الامريكي مؤخراً مظاهر احتجاج صاخبة استنكارا و تنديدا بتصريحات ادلي بها الدكتور زاهي حوّاس، عالم المصريات المعروف، ضمن محاضرة قدمها بمدينة فلادلفيا. وقد انعكست مظاهر الاحتجاج و تداعياتها علي المسارح الاعلامية والثقافية الامريكية، كما انعكست بصور مختلفة علي مجتمعات المهاجرين الافارقة والعرب. كان العالم المصري يخاطب جمهورا شديد الاهتمام و الاعجاب بالحضارة الفرعونية و ملوكها العظام وملكاتها الجميلات، و قد جاء ذلك الجمهور لحضور افتتاح معرض الملك توت عنخ امون الذي اقيم في عدة مدن امريكية. قال حواس: (ان توت عنخ امون لم يكن افريقيا اسوداّ، وأن الحضارة المصرية الفرعونية ليست افريقية الاصل و المنشأ). ولكأن خبير الاثار الدولي قد فتح علي نفسه بهذه الكلمات الباب الذي تأتي منه كل الرياح و الزعابيب. وقد ذهبت بعض التحليلات في هذا الصدد مذاهب قددا، المح بعضها الي ان تصريحات حواس ربما كانت تمثل موقفا مصريا رسميا مدروسا الغرض منه التعبير عن ضيق النخبة الحاكمة في مصر ومعارضتها لبرنامج "مصر القديمة نور العالم" الذي تنظمه جهات امريكية ضاربة التأثير و التمويل تتبني نظرية المنشأ الافريقي للحضارة المصرية القديمة، ويشتمل البرنامج علي عروض ضخمة ومظاهر ثقافية و محاضرات علمية في عدد من دول العالم. ردود الفعل العاصفة الرافضة لتصريحات حوّاس استندت علي تحفظات علمية وتوجسات عنصرية. من الوجهة العلمية فأن هناك جهودا واسهامات متواترة، عبر السنوات الستين المنصرمة، حمل لواءها مؤرخون وعلماء اوربيون و امريكيون و افارقة متخصصون في المصريات و الدراسات النوبية، تتبني نظرية المنشأ الافريقي للحضارة المصرية القديمة. وقد تقبلت هيئة اليونسكو طروحات هؤلاء العلماء لحد كبير حيث تبنت الهيئة الدولية عدة مؤتمرات علمية بغرض التداول حولها و تقويمها، وحثت العلماء علي استئناف مجهوداتهم باتجاه مزيد من الاضافات العلمية. التوجس العنصري الذي استبطنه في تصريحات حواس عدد من منظمات الامريكيين السود و المهاجرين الافارقة مصدره بالدرجة الاولي ان العالم المصري لم يقدم بين يدي اعلانه المفاجئ اية ادلة علمية تدحض نظريات الاصل الافريقي المستقرة و تقدم بإزائها طرحا تفسيرياً بديلا. بل و لم يحاول، مجرد محاولة، الاجابة علي الاسئلة المنطقية التي يطرحها اعلانه تلقائيا، وأبرز هذه الاسئلة المنطقية: اذا لم تكن الحضارة المصرية القديمة التي قامت في قلب افريقيا ورسخت في صعيد مصر، في مناطق اسوان عاصمة مصر القديمة وامتداداتها في عمق القارة السوداء حضارةً افريقية، و لم يكن توت عنخ امون ورصفائه افارقة، وبما ان الثابت تاريخيا ان العرب لم يدخلوا مصر الا سنة 641 فمن اذن كان بناة تلك الحضارة و من اين جاءوا؟ والحال كذلك فقد بدا العالم المصري و كأنه يقول للامريكيين: صحيح انه ليست لدي نظرية تفسيرية مقابلة ادفع بها النظريات القائمة، وصحيح انني لا اعرف ما هي الاصول العرقية للمصريين القدماء، و لكنني اعرف شيئا واحدا وهو انه لا يمكن و لا يُعقل ان يكون سود افريقيا هم سدنة تلك الحضارة و أعمدتها.! الافتقار الشديد للروح العلمية والتثبُّت المنهجي في تصريحات حواس، فضلا عن الملمح العنصري الذي تلَمّسه بين ثناياها الامريكيون سوداً و بيضا، في بلد شديد الحساسية بحكم خلفيته التاريخيه و تكوينه الديموغرافي، اضعف بلا شك من مصداقية العالم المصري الكبير و خصم من رصيده العلمي والاخلاقي. و لكنه مع ذلك بعث الي الحياة من جديد قضية كان الجدل حولها قد خفت وانحسر. و لسود الولاياتالمتحدة و منظماتهم مع حواس قصص ربما كان العالم المصري الكبير يفضل اغفالها وتجاوزها. ومن ذلك المظاهرات الهادرة التي قادتها في شوارع لوس انجلوس قبل سنوات منظمات الامريكيين الافارقة، احتجاجا علي الصور الدعائية لمعرض سابق لتوت عنخ امون، وفيها يظهر الملك الشاب بلون ابيض، وقد اضطر حواس في ذلك الوقت للانحناء امام العاصفة واستبدال الصور باخري يظهر فيها آمون بلونه الاسود الذي عرف به منذ ان اكتشف البريطاني هاوارد كارتر مقبرته و مومياءه عام 1922. و يبدو ان ما بين حواس، الذي قضي شطرا كبيرا من حياته في الولاياتالمتحدة، وبين الامريكيين الافارقة لم يكن عامرا حتي علي الصعيد الشخصي، فقد كتب هو نفسه مؤخرا في احدي اليوميات العربية: (و قد كان بعض الامريكان يرسلون لي خطابات تهديد دون ان يوقعوها باسمائهم و يلقونها اسفل باب مكتبي، ومن ضمن هذه الكتابات: ليس معني ان هناك سيدة امريكية بيضاء تحضر لك القهوة كل صباح انك ابيض. في الحقيقة انت اسود)! ومهما يكن من أمر فانه مما لا شك فيه ان نظرية المنشأ الاسود تجد قبولا راسخا وعميقا في الدوائرالاعلامية الثقافية والفنية الامريكية، ومن شواهد ذلك ان الفيلم الامريكي الشهير " آخر ملوك اسكتلندا" الذي حصل علي جائزة الاوسكار قبل عدة سنوات يشتمل علي مشهد يقول فيه الممثل الاسود فورست ويتكر: (نحن الزنوج سبقنا العرب في الطب، والصين في الصناعة، واليونان في الفلسفة، وان حضارتنا الفرعونية سبقت الجميع)! اطروحات المنشأ الافريقي للحضارة الفرعونية تمتد جذورها الي عهد قديم كما تجد اسنادها وتجلياتها في العديد الاسهامات العلمية الحديثة. والي جانب العلماء الاوربيين فقد كان لعدد من الباحثين الافارقة سهم وافر في احيائها و تزكيتها. و من اشهر هؤلاء الافارقة العالم السنغالي أنتا ديوب (1923- 1986) الذي قدم، امام عدد من المؤتمرات الدولية، اعمالا تثبت الاصل الافريقي للحضارة المصرية عن طريق تحليل التماثيل المنحوتة من أحجار البازلت والجرانيت وتلك المصبوغة باللون الاسود كتمثالي توت عنخ امون ورمسيس الثاني. وقد وجدت اسهامات أنتا ديوب صدي واسعا علي الصعيد الدولي كما نظمت اليونسكو مؤتمرا خاصا لمناقشتها. و الي ذلك فقد اشارت كثير من الدراسات المعتمدة في الدوائر الاكاديمية الغربية الي الاصل الحامي للمصريين القدماء والجهود المترابطة الحثيثة في اتجاه تقعيد اللغة المصرية الفرعونية و تأصيلها في انسجة اللغات الافريقية القديمة، لا سيما الحامية و الكوشية التي ما زال البجة والعفر والنوبيون يتكلمون بها في وادي النيل وضفاف البحر الاحمر. كما اشارت الي العمق الجغرافي و الديمغرافي لهذه الحضارة. و ذلك فضلا عن ما هو ثابت عن اصول الاسرة الفرعونية الخامسة والعشرون التي ترجع الي ما وراء منحني النيل في النوبة العليا في مناطق مروي وجبل البركل الذي تجعل منه الميثولوجيا الفرعونية موطنا لالهة مصر القديمة. المعارضون لدعاوي حواس خرجوا من الجدل المحتدم حول اصل تون عنخ امون بعدة تساؤلات ابرزها: ان التقدم العلمي في مجال الآثار والتطور في تكنولوجيا الاستكشاف قد بلغ في يومنا هذا ذري عالية، فلماذا تتمنع و تتردد الحكومة المصرية، ممثلة في المجلس الاعلي للاثار، فتقدم رجلا و تؤخر اخري، امام الدعوة لتوظيف منتجات التكنولوجيا والعلم الحديث لحسم الجدل حول الملك توت عنخ امون ومن ذلك التكنولوجيا الطبية المتمثلة في تحليل الحمض النووي؟ فاذا كانت تحليلات الحمض النووي قد تمكنت بنجاح باهر من تحديد اصول كثير من الامريكيين الافارقة وردها الي جذورها في القبائل الافريقية مثل الاشانتي و الفولاني وغيرها، واذا كانت ذات التكنولوجيا قد تمكنت من ان تكشف، كما اعلن حواس نفسه في عدد من محاضراته، ان الملكة حتشبسوت كانت بدينة، عظيمة الكفلين، وأنها ماتت تحديدا بمرض السرطان، فلماذا لا تمضي السلطات المصرية قدما في تطويع هذه التكنولوجيا لكشف الغموض عن طبيعة مومياء توت عنخ امون؟! في محاولة لصب بعض الماء البارد علي النزاع و لجم حصان الانفعالات و المشاعر المتأججة ، خرجت صحيفة (واشنطن بوست) بمادة صحفية معتقة استنطقت فيها عددا من علماء جامعة بنسلفانيا. ذكّر العلماء بالحقائق العلمية الراكزة التي تقرر ان جميع بني البشر كانوا سود البشرة عند مطلع الحياة البشرية قبل ملايين السنوات، و انّ تحول بعضهم الي اللون الابيض قد حدث، لاسباب بيولوجية محضة، في حدود العشرة الاف الي الخمسين الف سنة الماضية مع بدايات هجرات الانسان من افريقيا الي القارات الاخري. واضافة الي ذلك فان 99.9٪ من جينات جميع البشر، بمختلف مللهم و نحلهم، واحدة ومتطابقة ومشتركة. ومن المفترض ان تؤدي هذه الحقائق الي خلاصة واحدة و هي ان معرفة ألوان وأعراق اولئك الذين قامت علي اكتافهم "حضارة السبعة الاف سنة"، في نهاية المطاف، ربما لم تكن لها اكثر من قيمة هامشية وأنها ليست من الاهمية بالمكان الذي يتصوره كثيرون. و لكن لا يبدو ان ذلك المنحي قد أتي بالثمار المرجوة، فالامر أكبر و أجَلْ عند الآلاف ممن ثاروا في مواجهة عالم المصريات الذي انكر علي افريقيا ما رآه الثائرون حقها الاصيل في ابوة الملك الشاب آمون. الجدل حول اثبات المنشأ الافريقي للحضارة الفرعونية في جوهره، بحسب هؤلاء، حلقة واحدة من حلقات الصراع في معركة شاملة لتحرير التاريخ و تنقية الحضارات. جزء من المقال مقتبس من مقالات على الانترنت. [email protected]