( 44 ) وما زلنا نحمل جزءا من ذكريات الوطن لا يفارقنا في البعد والنوي, ويؤرقنا حزنا في البلايا .وظللنا ان نكرر يا قوم ان الوطن يعني الملاذ الآمن للقلب والنفس والروح , وهو الكيان الذي يحتوينا بكل مافيه , وهو الأرض التي لا تخون والتراب الذي يقبلنا أحياء ويضمنا أمواتا , لا شيئ مثله أبدا ولو أردنا أن نبدأ بذكر فضل الوطن ومحاسنه فلن توفينا الكلمات ولن تسعفنا الحروف ولن تتسع الأبجدية كلها في ذكرمناقب الوطن علينا . كيف نستطيع أن نحصر فضله وهو الأم والأب , والعم والعمة , والخال والخالة , والأخت والزوجة , والأخ والصديق , وهو نحن جميعا . ففيه رائحة الأهل والأصدقاء والأقارب والأقران وفيه ايضا قبور الأجداد ومجدهم التليد وعبق التاريخ ووصياهم لنا . ولكن ما أصعب وأمر أن يحس المواطن الذي يحمل كل هذا الأحساس بأنه مجرد رقم في سجل الأحياء لا أكثر. ولا ينبغي له أن يتساوي مع مواطن آخر مثله لا في الحقوق ولا في الواجبات ويري غيره مميز ومقدر بل كل الأبواب مفتوحة أمامه ويمر بدون جواز سفر ولا تأشيرة الدخول ولا يطلب منه أبراز الشهادة , لأنه مواطن من الدرجة الأولي . في حين يري مواطن الهامش أن الظلم يمشي أمامه علي نهج الطغاة والجبابرة الذين طغوا في البلاد وافسدوا فيها الفساد . كل هذه الأمور تتم علي مكشوف عينك يا تاجر, بممارسات ذات طابع القبلية السياسية والجهوية الضيقة ولكنها مغطات زورا وبهتانا بمظاهر أسلامية . وصراحة إن الحديث في هذا الموضوع تؤلمني لأن هناك أحاسيس ليست لنا القدرة عن التعبير عنها بالكلمات , بل ليست هنالك كلمات في كل قواميس اللغة تستطيع عن تعبر أحاسيسنا أبدا . قد يتساءل احدكم لماذا هذا الحكم القاسي ؟ لقد ذكرت في حلقة سابقة من خلال هذه السلسة التوثيقية , بانني كنت لدي رغبة شديدة للألتحاق بالكلية العسكرية , ولذا تقدمت بطلب وأرفقتها بجميع المستندات المطلوبة . وتجاوزت جميع الأختبارات , الطبية واللياقة البدنية من الجري وغيرها ومقابلات شخصية, ولم يبقي أمامنا غير خطوة نهائية وهي مقابلة القائد العام في اسبوع الذي يلي ذلك . ولكن كانت الصدمة. في إحدي الأمسيات أذكره جيدا مصالحها في الدنيوية . ومنذ تلك الحظة قررت أن أهاجر الي بلاد الله الواسعة لعلني أجد بلدا تستوعبني كما انا بدون واسطة ولا محسوبية ولا جهوية ولا يحزنون . جميل عندما نكتب احداث حقيقة وقعت لنا ,ونرويها للناس , ويراها البعض بأنها توثيق للأحداث , ويراها الآخرون بأنها معبرة , ويراها فريق آخر بلا معني , ولكني يكفيني أن أحس وأدرك عندما أكتب ماذا يوجد من وراء الكواليس . إنني قررت السفر فعلا لا قولا , لأنني أنوي أستكمال دراستي الجامعية مهما كانت الظروف , وقد وضعتها كهدف الأول من ضمن أولوياتي . وثانيا أحساسي بعدم وجود أمل لغد أفضل لي لتحقيق حياة تليق بنا كبشر . ولذلك طلبت من اخي محمد ابوسعاد ان يدبر لي مبلغا من المال يغطي مصاريف الرحلة ,وقد سألني الي اين أن شاء الله ؟ قلت له الآن الي ليبيا ولكن لا أدري الي اين أتجة بعد ذلك . وقد دبر لي المبلغ أسرع مما تتصورون ( مائة جنية سوداني عدا ونقدا ) وكان هذا المبلغ يكفي ان تلف حول الكرة الأرضية مرتين . لأن الجنينة السوداني في ذلك الزمن يعادل الجنية الأسترليني ( الأنجليزي) .وأستعدادا للسفر أستخرجت جواز سفر لأول مرة في حياتي وكان تكاليفه بجنية أو بخمسة لم أعد أتذكر , وأستخرجت كمان بطاقة شخصية ب 25 قرش اي ربع جنية وكانت يسمونها ( طرادة ) وأحاطونا علما بأن عند دخول الي ليبيا لازم من أبراز مبلغ 40 جنية أسترليني وتقول لهم أنك ذاهب للسياحة . وقد أخذنا هذه المعلومات من أصحاب التجربة الذين لهم خبرة في هذا المجال . ولذلك ذهبنا الي بنك الخرطوم ( بنك باركليز ) سابقا وقلنا له نحتاج 40 جنية أسترليني . ولا زلت أتذكر جيدا دفعنا لهم 40 جنية سوداني مقابل 40 جنية أسترليني بدون زيادة او نقصان . كانت فعلا الجنية السوداني يعادل الجنية الأسترليني , ولكن يا تري الآن كم الجنية السوداني مقابل الجنية الأسترليني ؟ وقطعنا تذاكر السفر بالقطار من الخرطوم الي حلفا القديمة وتذاكرة اخري بالسفر بالباخرة من حلفا القديمة الي مدينة أسوان حيث السد العالي الذي بسببه تم اغراق حلفا القديمة وأثارها التاريخية , ونقل سكانها الي حلفا الجديدة مقابل بضع ملايين من دولارات. يقولون فقط ( 18 ) مليون دولار. ما اصعب فراق الأوطان ! ولكني لست نادما قطعا لو خير لي أن أعود الي اللحظة الأولي لما أخذت قرارا غيره .علما أن هذا هو ما أختاره الله لي. وهذا مساري في الحياة ولا أملك ان أتصرف خارج أرادتي الخاضعة بمشيئة الله . ولكن عندما نروي هذه الذكريات من الماضي مع ألامها وكوابيسها وتخيلاتها المزعجة , كلها صور رمزية للحدث الفعلي تركت جروحا في دواخلنا ولم تندمل حتي الآن برغم مرور اكثر من اربعين عاما مضت .ولنا عودة . آدم كردي شمس