صفحات منسية من تاريخنا .. ثورة محمد ود السيد حامد ضد الإستعمار البريطاني ، سنجة 1919 . د. محمد المصطفى موسى هو محمد بن السيد حامد ( شقيق الإمام المهدي الأكبر ) .. إستشهد والده السيد حامد في موقعة قدير عام 1882 في بواكير الثورة المهدية فكفله عمه الإمام المهدي مع إخوته الي حين وفاته.. حفظ القرآن الكريم في سن العاشرة وكان مقرباً من عمه الإمام المهدي والذي أهداه عمامته و طاقيته وهو فتي صغير حسب تقرير المفتش الانجليزي المستر بيلي والذي كتبه عن ثورة محمد السيد حامد بعنوان الثورة المهدوية في سنجة 1919 والموجود بمكتبة درم البريطانية . إشترك في معركة كرري وهو صبي وجُرح جرحاً بالغاً وأُسر وتم نفيه مع بقية الأسرى السودانيين الى سجن رشيد بمصر . أُطلق سراحه بعد سنوات الأسر لتحدد سلطات الاستعمار إقامته في حلفا ثم دنقلا حيث بدأ بعض الناس يلتفون من حوله فأقلق ذلك الإدارة البريطانية فقامت بتحديد إقامته في مدينة سنجة حيث المفتش الانجليزي المستر بيلي الذي عُرف ببطشه بحركة ود حبوبة ومن ثم حركة اللواء الأبيض لاحقاً في العام 1924 . عُرف في مدينة سنجة بالصلاح والكرم وتدريس الفقه وعلوم الدين فإلتف من حوله مجدداً خلقٌ كثر من قبائل المنطقة والتي عرفت بولائها للمهدية وفي مقدمتها قبيلة كنانة الباسلة .. وسادت إشاعات في المدينة تشير الى انه يعد أنصاره لمواجهة وشيكة مع سلطات الاحتلال البريطاني مما جعل الحكومة تبث حوله الجواسيس والعيون .. وتفتقت عبقرية المستر بيلي المفتش الإنجليزي عن إلصاق فرية إدعاء العيسوية به لتنفير الناس عن حركته وهي فرية اعترف بيلي في مذكراته لاحقاً أنها كانت ضرورية للقضاء علي خطر الهبات المهدوية المتتابعة .. وقد نفى محمد السيد حامد عن نفسه هذا الأمر مراراً لأتباعه وعلى رؤوس الاشهاد. وثق الأستاذ حسن نجيلة لثورته والتي شهدها طفلاً فكتب عنها قائلاً : " كنا عندما تقودنا أقدامنا الصغيرة إلى الجانب الشرقي من سنجة نرى قطاطي جميلة أُحسن بناؤها حتي بدت عالية المظهر وكنا نرى عليها سيماء حضارة نفتقدها في أكثر منازلنا وحولها دائماً جمال واقفة أو باركة ومدخل الدار يموج بالداخلين والخارجين ومنهم من يحمل رماح أو سيوف أو عصي غليظة وكنا كلما إقتربنا من هذا الدار العجيبة التي لا تشبه دور أهلنا نقف عندها ملياً ونقول لبعضنا : هنا يسكن ود السيد حامد! .. وكنا نسمع لإسمه بقداسة ورهبة في مسامعنا ومشاعرنا وكنا نحس أن الناس من حولنا يحترمونه أو يرهبونه أو يقدسونه .. ولم تستطع عقولنا الصغيرة آنذاك ان تدرك تعليلاً لأي من هذه المشاعر .. " حشدت الحكومة البريطانية قواتها بأسرع فرصة وسيرت جيشاً في أغسطس 1919 فإستعد له الثوار بقيادة ود السيد حامد وجرت المواجهة خارج مدينة سنجة فإستشهد مائة من الثوار وأُسر القائد مع بقية أتباعه وتمت مصادرة جميع ممتلكاته وكتبه وأُحرقت في الحال بأمر المفتش البريطاني بيلي وسيق مع 9 من أخلص أعوانه الي ميدان عام في سنجة - بعد حشد اهالي المدينة من قبل الحكومة لتحذيرهم من نفس المصير أن أقدموا على فعلته - ليتم إعدامهم دون محاكمة ونترك المجال للأستاذ حسن نجيلة ليصف لنا تلك اللحظات المهيبة ... كتب الأستاذ حسن نجيلة : " وقفت السيدة دار السلام بت جار النبي زوجة البطل محمد ود السيد حامد أمام الحشود الضخمة ثائرة وهي تنثر عبارات الإستهزاء وتمجد بطولة زوجها والجند والناس ينظرون إليها في صمت وفي قلوبهم شتي المشاعر والأحاسيس وعندما إلتف حبل المشنقة حول عنق زوجها إرتفعت صوتها في تلك اللحظات الرهيبة تزغرد بأعلى صوتها زغرودة طويلة متصلة .. وما أحسب أنني سمعت زغرودة أبلغ أثراً وأعمق في التعبير من تلك الزغرودة التي ما زلت أحس بصداها يتردد على مسامعي وفي أعماق مشاعري.. ثم أعقب الشهيد علي أعواد المشنقة تسعة من رفاقه كانوا كلهم مثله في الشجاعة والثبات ومن بينهم الشقيقان " أولاد شاطر " واللذان كانا اسما علي مسمي ". ومن الذين استشهدوا مع السيد محمد ايضاً كان هناك الأمير محمد عبدالمولى الجليدي الذي تقدم بذات الثبات نحو المشنقة . ظلت ثورة سنجة 1919 تحتل موقعاً مهماً بصفحات إرث المدينة في مقاومة الاحتلال وظلت شجاعة قائدها في مجابهة الموت حية في وجدان أهل سنجة فعُرف محمد بن السيد حامد بلقب " نشار الحديد" كناية عن بأسه وثباته في مواجهة الانجليز ولهذا اللقب أيضاً ارتباط وثيق بموروث شعبي من القصص المحلية والتي تقول ان الإنجليز أرادوا ألا يكون للشهيد قبراً او مزاراً يُعرف فدفنوه بالقرب من سجن سنجة الحالي بليلٍ حالك و أهالوا على قبره وحوله كميات من مهولة من الحديد الخردة حتي لا يتعرف عليه أحد ولكن إرادة الله شاءت ان يأتي سيل جارف مصحوب بأمطار غزيرة بعدها بأيام فينجرف الحديد ويظهر مرقد الشهيد للناس . هكذا إنطوت صفحة مضيئة من صفحات نضال الشعب السوداني ضد الإستعمار البريطاني.. فقد ساهمت هذه الحركات بالإضافة لحركة ود حبوبة 1908 وحركة اللواء الأبيض 1924 وحركة السلطان عجبنا وغيرها - ساهمت في تعضيد الشعور الوطني ضد المستعمر بالصدام الثوري المسلح إلى أن برزت قوي مدنية و إجتماعية وسياسية لمواصلة الطريق نحو إستقلال السودان . المصادر : 1) حسن نجيلة : ثورة ود السيد حامد .. رجل من تاريخ سنجة نشر بجريدة الثورة 20 ديسمبر 1963. 2) الثورة المهدية في سنجة 1919 المستر آر . ايي بيلي المكتبة الشرقية درم - بريطانيا The Mahdist Revolt in Singa 1919 R.A.Bailey Durham University 3) الأستاذ السيد الصادق عبدالله الهاشمي .. من يؤرخ لثائر سنجة ..بحث مودع بدار الوثائق القومية السودانية بالخرطوم تحت الرمز 18712352 4)الدكتور موسي عبدالله حامد : استقلال السودان بين الواقعية والرومانسية ، ثورة سنجة 1919 مطبوعات قسم التاريخ - جامعة الخرطوم 2 ديسمبر 1981 .