إندلعت أحداث دارفور في العام 2003م بعد أن لاحت في أفق الحراك السياسي السوداني بوادر وضع حدّ لأزمة جنوب السودان المستفحلة، وقد إتضح لاحقاً أن الحركة الشعبية لتحرير السودان هي من كان وراء ذلك، بل ودلّت المؤشرات التاريخية القريبة وشهادة بعض قادة الحركة أن الدكتور جون قرنق كان على إتصال مباشر بالثائر (داؤد يحي بولاد)، والذي إنقلب على إخوته في بدايات الإنقاذ. بعد (4) سنوات من أزمة دارفور أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قراراً بإيقاف الرئيس السوداني عمر البشير للمثول أمامها في قضايا تتعلق بالإبادة الجماعية وإنتهاك العهد الدولي الخاص بحقوق الإنسان، وبلغت قرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي في حق السودان رقماً قياسياً بلغت في الفترة من 2005م وحتى 2010م ال (7) قرارات ..!! بحلول شهر ديسمبر المقبل (بعد 4 أشهر من الآن) ستدخل أزمة جنوب السودان سنتها (الرابعة) ولا بادرة تلوح بتجريم المجتمع الدولي لنظام سلفا كير الذي ذبّح أبناء جنوب السودان ولم (يستحّي) نساءهم في مجاذر شهدتها العاصمة جوبا والعالم كله خلال النصف الثاني من ديسمبر 2013م وحتى الآن. المنظمات العالمية لديها إحصاءات – تزعم أنها دقيقة – حول ضحايا أزمة دارفور من قتلى ومفقودين ولاجئين خارجياً وداخلياً وحالات إغتصاب وحرق قرى ..إلخ ، في وقت تعلن فيها ذات المنظمات إحصاءات ضحايا أزمة جنوب السودان الحالية بالتقريب!! علماً أن أزمة دارفور عندما إندلعت لم تكن الأقمار الإصطناعية فوق الإقليم بهذه الكثافة التي نراها الآن، ولم تكن قوات ال(يوناميد) موجودة، ولم تكن شبكة الإنترنت في السودان منتشراً كحال هذه الأيام، هذا بخلاف أن دارفور لم تدخلها منظمة عالمية إنسانية منذ ذهاب المستعمر البريطاني في منتصف القرن الماضي. أما أزمة (كير – مشار) فإن مستعمرة الأممالمتحدة التي تُعرف في جنوب السودان بال(يونيميس) كانت ترى وتسمع كل ما يجري منذ مراحل الإحتقان، وكانت السيدة (هيلدا جونسون) تتنزّه في شوارع جوبا بالقرب من القصر الرئاسي وتحتسي في كل مساءات جوبا الجميلة كاسات من (الويسكي) الإنجليزي المعتّق و(البيرة) المثلّجة في فندق (هوم آند أوي) وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد ..!! يرى المتابعون أن الأزمة الراهنة في جنوب السودان السودان تعتبر بمثابة معجزة أتت برداً وسلاماً على الحكومة السودانية، ولعل العلاقات بين الدولتين كانت ستكون على المحك في حال إستمرت دولة جنوب السودان في تقدمها وتطورها بمعاونة أصدقائها الغربيين ممن أغدوا عليها الأموال والآمال والأحلام الكذاب. فحرب (العشرة أيام) بين الدولتين حول منطقة هجليج الغنية بالنفط كانت حجر عثرة ونذير شؤم لما سيكون عليه تاريخ العلاقات الثنائية بين الدولتين. حكومة السودان - وبدهاء تُحْسَد عليه - تستخدم لاجئي جنوب السودان ك(ورقة ضغط) على المجتمع الدولي بذرائع لا تخلو من أجندة، ففي ناحية تريد الحكومة السودانية أن ترسلها داوية لمواطنيها وللمجتمع الدولي أن الجنوبيين (فوضويون) لا يصلحون لحكم إقليم ناهيك عن دولة، وأن نظرة مفاوضي المؤتمر الوطني كان أبعد مما يُعتَقَد عندما قبلوا بمبدأ (حق تقرير مصير جنوب السودان) على الرغم من قناعتهم بأن الجنوبيين منفصلين لا محالة. وفي وقت يتبرأ فيه (سفير جنوب السودان بالخرطوم) ويصرّح لصحافة الخرطوم بأن على حكومة السودان والمنظمات الدولية تحمّل المسئولية كاملة تجاه لاجئي بلاده في السودان، يلتزم النظام السوداني الصمت المطبق بعد أن وضع السيد السفير الكرة في ملعبه !! ليكون الضحية هو اللاجئ الجنوب سوداني، الذي وجد نفسه محبوساً، فلا طعام استطعم ..!! ولا ائتمن على نفسه من خوف..!! ولا تُرك ليلتقط من خشاش الأرض..!! إعلان حكومة السودان بمعاملة لاجئي جنوب السودان كمواطنين (حق أريد به باطل)، فمن ناحية لا تريد الحكومة السودانية منح فرصة أخرى لدخول المنظمات الدولية التي تم طردها من قبل لتدخل هذه المرة بحجة رعاية اللاجئين الجنوبيين، كما أن حكومة السودان في الوقت نفسه تريد أن تجد لها (قشة) تتعلق بها للدخول إلى (نادي المجتمع الدولي) بإبراز دورها ومساهمتها في حل بعض القضايا الإقليمية بعد أن عاشت سنين عدداً معزولةً بصورة جزئية، ولتبرير مطالبتها بالفكاك من حالة الإنعزال هذه، كان لا بد من الحكومة السودانية إبداء حسن النوايا تجاه إخوتهم (السابقين) من جنوب السودان. فقد اللاجئ الجنوب سوداني في السودان أكثر حقوقه التي يجب أن يوفرها له المجتمع الدولي كإلتزام أخلاقي وفقاً لإتفاقية اللاجئين في 1951م، ثم بعد ذلك الإتفاقيات والعهود والتفاهمات والتعديلات التي طرأت على مسودتها، فإن كانت إمكانات السودان هي ما حالت دون توفير الحد الأدنى لهم، فلماذا إذاً الإلتزام؟! النظام في جوبا لا يدري أنه أصبح نظام دولة مستقلة لا علاقة لها بدولة السودان الأم، وأن عليه أن يدير قضايا بلاده بعيداً عن إسقاطات الماضي تجاه الخرطوم والتخلص نهائياً من (عقدة الجلابة) ورمي كل أمر سيء يحدث لجنوب السودان في هذا العدو النمطي القابع في المخيّلة المريضة للسياسي الجنوبي. المجتمع الدولي يقف الآن مشدوهاً من هول المشهد الجنوبي، فعلى الرغم من كل ما بذل في سبيل إنتزاع دولة للجنوبيين، إلا أن واقع الأمر يشير إلى الفشل الذريع بصورة متسارعة نحو أن يعيش الجنوبيون مرحلة (اللا دولة) في القريب العاجل، وبخاصة وأن جهود الجميع باءت بالفشل، الأمر الذي دعا المنظمة الدولية تعلن (بحياء العذارى) أن على السودان المساعدة في حل (أزمة الحكم) في جنوب السودان..َ!! وبالمقابل، فإن الحكومة السودانية ما زالت في إنتظار وعود الغرب المغرية ولا تكترث كثيراً بشأن الجنوب والجنوبيين..!! الإدارة الأمريكية وجميع الإدارات الأمريكية منذ الرئيس (جيمي كارتر) مثّلت بإتقان دور الأم الرؤوم للحركة الشعبية لتحرير السودان، وظلت تربط حل المشكلة الجنوبية بواسطة النظام السوداني كأحد أهم شروط رفع الحظر الإقتصادي على السودان في الوقت الراهن.. !! تتّهم (دول الترويكا) الحكومة السودانية بدعم المعارضة الجنوبية المسلحة في وقت تتدخل فيه دول أوغندا ومصر وبورندي في أزمة جنوب السودان بالجنود والدعم اللوجستي بالوقوف إلى صف الحكومة دون أي زجر أو لفت نظر لرؤساء هذه الدول التي تتدخل في شئون دول كاملة السيادة وتتمتع بالشخصية الإعتبارية للدولة..!! البروفيسور إبراهيم أحمد غندور وضح أنه يدير ملف العلاقات الخارجية السودانية بحنكة وإقتدار ووعي بحساسية الملف، فهو إلى جانب رعايته للجان الحوار مع واشنطون، يسعى في ذات الوقت إلى تقريب وجهات نظر دول جوار السودان وجنوب السودان في الإتفاق حول رؤية واحدة مشتركة لحل قضية جنوب السودان دون المساس بالأمن القومي الإقليمي أو إنتقاص السيادة الوطنية لدولة الجنوب الوليدة، وفي ذات الوقت لا يبدو أنه نظيره الجنوبي (دينق ألور) يعتريه أدني إحساس بمسئولية دولته تجاه مواطنيها في دول الجوار وبخاصة السودان..!! حكومة السودان يجب تترك اللاجئ الجنوب سوداني اللائذ بها من ظلم (سلفا كير) وزبانيته يعيش كلاجئ، أو فلتطلق أسره فإنّ أرض الله واسعة، ولا أقلّ من دولة ثالثة تنظر إليه كغريب يجب إكرامه وليس جالب (كوليرا) أو مثار سخرية وتندر أو جرائم عابرة للحدود. ففي السودان لاجئون كثر، وأعجب ما يمكن أن يسمع المرء في الشارع السوداني: أن (الجنوبيون أجانب، والإثيوبيون إخوة لنا، والسوريون لنا أشقاء..!!)- اقفل القوس بالضبّة والمفتاح. هكذا يريد (هؤلاء) الإستثمار في معاناة الجنوبيين .. وهكذا سقط (أولئك) لغبائهم الموروث في (جيناتهم) والمغروس في (نفوسهم)..!!