بعد أن فرغنا من الحوار ومخرجاته وتكوين أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية – بغضّ النظر عن درجة قبول الناس بحجمها الهائل وبنوعية ومستوى تكوينها ومحاصصاتها الحزبية- برز للسطح قضية مستقبل الحكم في البلاد. هذه القضية تتعلق بالدستور الدائم، سيما وأن العام 2020 هو العام الذي تنتهي فيه الدورة الثانية والنهائية للرئيس البشير الذي أعلن مرارا أنه لا يريد الاستمرار في الحكم، متماشيا مع منطوق المادة الخاصة بذلك في دستور 2005 المعدل عقب انفصال الجنوب والمعمول به حاليا والتي حددت الولاية بشكل قاطع بدورتين تنتهيان عام 2020. هذه القضية أصبحت في الآونة الأخيرة موضع نقاش بين مؤيد لتلك المادة وقرار عدم رغبة الرئيس الاستمرار في الحكم، وبين من صرح بأنه يتعين تعديل الدستور الحالي أو وضع دستور جديد يسمح للرئيس بأن يحصل على دورة أو دورات جديدة. الذين يؤيدون ألا يعدل الدستور أو وضع دستور دائم إلا بعد انتخابات 2020 ربما منطقهم أنه يجب أن يتطور النظام سياسيا ودستوريا ويتاح لدماء جديدة بعد ثلاثة عقود من حكم الانقاذ أن تتولى إدارة البلاد فربما يتاح لها تحقيق نتائج وإنجازات أفضل مما مضى في ظل نظام أكثر انفتاحا وحرية وعدالة وشفافية ومساءلة وفصل للسلطات. أما الذين يريدون تعديل الدستور أو وضع دستور جديد يعطي الرئيس البشير فرصا أخرى بعد العام 2020 فربما يرون أنه الأنسب لقيادة البلاد وأنه لا يوجد غيره من بين العناصر الحالية موضع اجماع أو حل وسط بين الجميع.. وهناك من يرى أنه إذا غاب البشير عن المشهد السياسي فقد يحدث صراع حول السلطة خاصة بين الإسلاميين الذين جاءوا عبر انقلاب الإنقاذ (القدامى) وبين (القادمين) الذين انخرطوا في الإنقاذ قد يؤدى إلى فوضى مثلما حدث في اليمن مثلا.. أو ربما صراع يدخل فيه الجيش السوداني بطبيعة الحال بعد متغيرات ومياه كثيرة جرت فيه وتحت جسور الإنقاذ خلال العقود الثلاثة!! هل يا ترى ثمة حل وسط؟ وهل يمكن الاستفادة من تجربة نظام مايو والنميري شخصيا في هذا الصدد؟ قال بعض المحللين لو أن النميري في خريف نظامه طوّر نظامه سياسيا ودستوريا وأجرى حوارا ومخرجات مناسبة عقب مصالحة 1977 وحقق وفاقا وطنيا وكتب دستورا جديدا بتوافق مع كل القوى السياسية المعارضة وكرس الحريات العامة والتحول الديمقراطي وصار الاتحاد الاشتراكي حزبا مثل سائر الأحزاب السياسية على مسافة واحدة معهم من الحكم لربما وافقت كل القوى السياسية على جعل النميري رئيسا مدى الحياة ولكن بدون سلطات، مثل سلطات ملكة بريطانيا، ومن ثم تدار البلاد عبر نظام حكومة تستمد سلطانها من برلمان منتخب انتخابا حرا وشفافا وصادقا ودوريا من الشعب لربما أزال الاحتقان السياسي، ولم ينتفض الشعب وينحاز له الجيش، ولتحقق قدر من الاستقرار والسلام والحكم الرشيد والديمقراطية المستدامة.. ولكن لإصرار النميري والاتحاد الاشتراكي والبطانة التي لا تنصح في الكنكشة على السلطة وإتخاذ النميري قرارات انفرادية خطيرة مثل تقسيم الجنوب وإصدار قوانين حدية باسم الشريعة مشكوك في قبول الآخرين داخليا وعالميا لها وإبعاد قادة جيشه الذين نصحوه، كل ذلك أدى إلى الاحتقان السياسي ونهاية مايو، الأمر الذي أعاد الفوضى والفشل وعودة التمرد من جديد بقوة مع تدخل أجنبي أضرّ بمستقبل البلاد. هل يستفيد ويتعظ الجميع مما مضى؟ أرجو ذلك. التيار