تأخير مباراة صقور الجديان وجنوب السودان    أمجد فريد الطيب يكتب: اجتياح الفاشر في دارفور…الأسباب والمخاطر    الكابتن الهادي آدم في تصريحات مثيرة...هذه أبرز الصعوبات التي ستواجه الأحمر في تمهيدي الأبطال    شاهد بالفيديو.. وسط دموع الحاضرين.. رجل سوداني يحكي تفاصيل وفاة زوجته داخل "أسانسير" بالقاهرة (متزوجها 24 سنة وما رأيت منها إلا كل خير وكنت أغلط عليها وتعتذر لي)    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    من سلة غذاء إلى أرض محروقة.. خطر المجاعة يهدد السودانيين    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    تفشي حمى الضنك بالخرطوم بحري    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    خطف الموزة .. شاهدها 6 ملايين متابع.. سعود وكريم بطلا اللقطة العفوية خلال مباراة كأس الأمير يكشفان التفاصيل المضحكة    المخدرات.. من الفراعنة حتى محمد صلاح!    لولوة الخاطر.. قطرية تكشف زيف شعارات الغرب حول حقوق المرأة    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    مدير شرطة ولاية القضارف يجتمع بالضباط الوافدين من الولايات المتاثرة بالحرب    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    توجيه عاجل من"البرهان" لسلطة الطيران المدني    حركة المستقبل للإصلاح والتنمية: تصريح صحفي    جبريل إبراهيم: لا يمكن أن تحتل داري وتقول لي لا تحارب    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركاتُ النبي عيسى: تأسيسٌ أوليٌّ لمقاومةِ الاستعمار ..
نشر في الراكوبة يوم 28 - 07 - 2013

(في ذكرى الشيخ علي ود عبد الكريم أم درمان 1900م)
(1)
التمكث في هذه الناحية من تاريخنا الحديث ذو نفع عظيم، حتف أنف الذين يعتقدون بخلاف ذلك؛ ولك أن تعجب، ما شاء لك الله، كيف لا تكون ثمَّة جدوى من تصحيح مفهوم شائع بأن السُّودانيين انتظروا زهاء العقدين بعد هزيمة كرري، في 2 سبتمبر 1898م، كي يبدأوا تلمُّس طريقهم لمنازلة الاستعمار البريطاني، وكيف لا يكون هناك نفع في إثبات أن أجدادنا انخرطوا، بعد زهاء العام الواحد من كرري، في أشكال أوليَّة متنوِّعة من مقاومته، بعضها قبلي، كحركة السُّحيني، وحركة ود حبوبة، وغيرهما، وبعضها ديني، كحركات النَّبي عيسى التي افترعها طيِّب الذَّكر الشَّيخ علي ود عبد الكريم بأم درمان عام 1900م، قبل أن تنداح دوائرها لتشمل شيوخاً آخرين، ومناطق مختلفة من البلاد، دون سابق ترتيب أو اتفاق، مِمَّا سنأتي على ذكره.
من الناحية النظريَّة تقوم الأطروحة على كون مقولة "الوعي الاجتماعي العام" أوسع من مقولة "الأيديولوجيا"، أو "الأدلوجة" بتعريب عبد الله العروي، والتي تعبِّر عن حزمة متسقة من الفرضيات والمبادئ والقيم التي يُتوسَّل بها لتحقيق غايات محدَّدة، اقتصاديَّة سياسيَّة، أو اجتماعيَّة ثقافيَّة. على أن "الأيديولوجيا" لا يُكتب لها السَّداد ما لم تناسب المستوى السائد من "الوعي الاجتماعي العام".
أما من الناحية التطبيقية فإن الأطروحة تذهب إلى أن مستوى "الوعي الاجتماعي العام" في سودان الثلث الأخير من القرن التاسع عشر استقبل المهديَّة ك "أيديولوجيا" ملائمة تماماً لمشروع النهوض الثَّوري آنذاك، مثلما عاد نفس ذلك المستوى من "الوعي الاجتماعي العام" ليفرض، في سودان العقدين الأوَّلين من القرن العشرين، استحالة اجتراح "أيديولوجيا" متجاوزة لنفس تلك "الأيديولوجيا" المهدويَّة، وإنما الدَّفع بها هي ذاتها إلى غاياتها القصوى، في المرحلة الجديدة، مرحلة ما بعد "المهديَّة"، عن طريق الاستهداء والتَّوسُّل بما عُرف ب "حركات النَّبي عيسى"، بغية استنهاض شكل أولي من المقاومة الوطنيَّة، كما سنرى، ضد الاستعمار البريطاني خلال تلك الحقبة الباكرة.
(2)
لم تكن المهديَّة، الثَّورة والدَّولة، محضَ ضربةِ حظٍ تاريخيَّةٍ وقعت، خلال الثُّلث الأخير من القرن التاسع عشر، لبدو السودان، خصوصاً المستعربين المسلمين منهم، المشبَّعين بأشواق الثقافة الصُّوفيَّة، والذين صدموا، لهذا السَّبب، بما أنكرته روحانيَّتهم من بشاعات الإقطاع العثماني خلال مرحلة الاستعمار التُّركي المصري (1821 1885م)، بقدر ما جاءت استجابة حقيقيَّة لاحتياج مُلِحٍّ، في الواقع الموضوعي البسيط، لما يوحِّد الشَّعب كله ضدَّ ذلك الحكم، ويستنهض، من صميم ثقافته، نسقاً أيديولوجيَّاً يطمئِنه على دينه من بلبال ما كان يجرى باسم الإسلام على العباد والبلاد، ويعبِّئ طاقاته في حركة راديكاليَّة صلبة تستهدف، بشكل مباشر، إقامة دولة العدل والقسط والمساواة على أنقاض دولة النَّهب والظلم والفساد، "فالواقع الاجتماعي المحدود يعبِّر عن نفسه فى شكل أيديولوجيَّة دينيَّة لا يحتاج التعبير عنها إلى تعقيدات تقعُ خارج قدرات ذلك الواقع" (القدَّال؛ تاريخ السُّودان الحديث، ص 157)، خاصَّة وأن تلك البشاعات لم تعدم تبريراتها "الشَّرعيَّة" لدى مَن أسماهم الإمام المهدى، عليه السَّلام، بحق، "عُلماء السُّوء" الذين ارتبطت مصالحهم، نهائيَّاً، مع ذلك النِّظام منذ اللحظة التي أنعم فيها على كلٍّ منهم بخلعة سنِّيَّة وخمسة عشر كيساً، لقاء مرافقة حملة الباشا لاحتلال السُّودان، وحثِّ أهله "على الطاعة .. بحجة أنهم مسلمون، وأن الخضوع لجلالة السُّلطان أمير المؤمنين وخليفة رسول المسلمين واجب ديني" (شقير؛ تاريخ السُّودان، ص 196).
(3)
فكرة "المهديَّة" نفسها لم تكن غريبة على المستعربين المسلمين السُّودانيين، فهي رائجة فى كل المذاهب السُّنيَّة والشِّيعيَّة، وتستمد أصولها من أحاديث واردة لدى الترمذي وابن ماجة وأبى داود وغيرهم، وإن لم ترد في الصَّحيحين، أشهرها ما رواه عبد الله بن مسعود من أن رسول الله (ص) قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت جوراً وظلماً". وروى الرَّافضي عن ابن عمر أن النبي (ص) أضاف قائلاً في ذات هذا المعنى: "ذلك هو المهدي". ورغم ما وُجِّه من نقد إلى أسانيد هذه الأحاديث، حتى لقد قال ابن خلدون إنه لم يفلت منها من النقد إلا القليل والأقل منه (المقدِّمة؛ ص 322)، إلا أن الكثير منها حظي بالقبول لدى الرَّاسخين فى علم السُّنة، كابن تيمية (منهاج السُّنة النَّبويَّة، ج 2، ص 166). ولاحظ باحثون محدثون أن فكرة انتظار المهدي غالباً ما تبرز في أوقات الشِّدَّة (أركون وغارديه؛ الإسلام بين الأمس واليوم، ص 36)، وفى ظروف يستشرى فيها الشَّرُّ، وينتشر الفساد، مِمَّا تسنده أحاديث عن خروج المهدي في وقت فتنةٍ، وزلازلَ، واختلافٍ، وفرقةٍ بين النَّاس (جلي؛ دراسة عن الفِرَق، ص 220 224).
أما من جهة التَّأثير الوافد مع تيارات التَّلاقح الفكري، فقد كان للفكرة رواج كبير في غرب أفريقيا، وبالذات خلال القرن الثاني عشر الذي شهد نشوء حركة المُوَحِّدين في الرِّيف المراكشي على يدي المصلح الأمازيقي المهدي بن تومرت، أو "المُنقِذ المُنتظر". ولفكرة "الانتظار" هذه حضور كبير لدى الشِّيعة. ومعلوم أن ثمَّة تسرُّبات شيعيَّة قويَّة في بدايات الأصل المُوَحِّدي (أركون وغارديه، سابق).
فكرة "الظهور" أو "الرَّجعة" موجودة، أيضاً، في الدِّيانتين اليهوديَّة والمسيحيَّة، مقترنة بشخص النبي عيسى بن مريم. فاليهود يؤمنون بظهور المسيح المنتظر لكى يعيد إليهم سلطانهم ودولتهم القديمة (بيلاييف؛ العرب والإسلام والخلافة العربيَّة، ص 148). وفى أناجيل المسيحيين: "وتكون علامات في الشَّمس والقمر والنُّجوم. وعلى الأرض كربُ أمم مُحيَّرة. البحر والأمواج تضجُّ. والنَّاس يُغشى عليهم من خوفِ وانتظارِ ما يأتي على المسكونة لأن قوات السَّماء تتزعزع. وحينئذٍ يبصرون ابن الإنسان آتياً في سحابة بقوةٍ ومجدٍ كثير. ومتى ابتدأت هذه تكون فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأن نجاتكم تقترب" (العهد الجَّديد إنجيل لوقا، الإصحاح الحادي والعشرون، 25 28).
على أنَّ الاقتران الشَّرطي بين "ظهور المهدي" و"رجعة المسيح" هي عقيدة سنِّيَّة محضة. ففي سنن ابن ماجة أن وقت خروج المهدي فتنة وزلازل، وأنه يبايَع بين الرُّكن والمقام، وفى عهده يظهر المسيح الدَّجال، وينزل بعده عيسى فيقتل الدَّجال (جلي؛ سابق، ص220). ونقل ابن القيِّم عن كتاب أبي الحسين محمد بن الحسين الآبرى "مناقب الشَّافعي" تواتر الأخبار واستفاضتها عن رسول الله (ص) بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدَّجال، وأنه يؤمُّ هذه الأمَّة، ويصلى عيسى خلفه (إبن قيِّم الجَّوزيَّة؛ المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ص 129).
أما بالنسبة ل "الأنصار" فكثيراً ما يرد التَّعبير عن عقيدة "الاقتران" هذه بين "المهدي" و"المسيح" ضمن النتاج الثقافي لشعرائهم وكتَّابهم المعاصرين. من ذلك، مثلاً، أبيات البنَّا الصَّغير في رثاء الشَّيخ بابكر بدري، وكلاهما ذو جذور مهدويَّة:
وللضعفاءِ كمْ أسديتَ نعمى فصاروا بعدَ ضعفٍ أقوياءْ
كفلتَ حياتهمْ فشبهتَ عيسى بنور العلم تُحيي ما تشاءْ
وإلى ذلك ما رواه العميد يوسف بدري، إبن الشَّيخ بابكر بدري، ضمن مذكراته، من أنه، وعلى أيَّام دراسته في بيروت، رأى نفسه، في المنام، يدخل غرفة فيجد فيها رجلين، أحدهما جالس على كرسي، مرتدياً زيَّ عرب الشُّكريَّة والبطاحين، والآخر قائم إلى جانبه، حافي الرَّأس والقدمين، مرتدياً ملابس شباب غرب السُّودان، فابتدره هذا الأخير قائلاً: "أنا المسيح عيسى بن مريم وهذا .. محمَّد رسول الله، الإنسان كالسِّراج يحرق نفسه ليضئ لغيره". وفسَّر يوسف هذه الرُّؤيا بضرورة أن يعود ليعمل مع والده في مدرسة الأحفاد (قدر جيل، ص49). ويرى الكاتب الأنصاري حسن اسماعيل رمزيَّة خاصَّة، ليس فقط في تطابق الخصال، من زاوية نظره، بين السَّيِّد الصَّادق، حفيد المهدي وإمام الأنصار الحالي، وبين نبي الله عيسى عليه السَّلام، بل حتَّى في تاريخ ميلادهما في 25 ديسمبر (صحيفة الدُّستور؛ 30 يونيو 2001م)، الأمر الذي يبدي الأمين العام ل "هيئة شئون الأنصار"، وإمام مسجد السَّيِّد عبد الرحمن المهدي بود نوباوي بأم درمان، حرصاً كبيراً على التذكير به كلما صعد المنبر في هذا التاريخ ليزفَّ التَّهنئة بهذه المناسبة.
(4)
إذن، ولأن دعوة المهديَّة "لم تمت بعد الغزو الثنائي .. بل عاشت (و) كان لها أثرها في بناء المزاج السُّوداني" (الصَّادق المهدي؛ يسألونك عن المهديَّة، ص 238 239)، فقد دخل أبناء المهزومين، بمصطلح محمد المكي إبراهيم، عصر ما بعد كرري 1898م، ليجابهوا أعباء النهوض بالمسألة الوطنيَّة في سياق تاريخي مغاير، مشبَّعين بنفس ذلك الفكر الذي لا يعرفون غيره، والذي سبق لآبائهم أن أطلقوا به "صيحة" النُّهوض الثَّوري الأولى ضدَّ القهر التُّركي. ولمَّا لم يكن من الممكن، بطبيعة الحال، وحسب منطق الاعتقاد نفسه، أن يدَّعي أيٌّ من أولئك الأبناء، مرَّة أخرى، أنه "المهدي"، فإنه لم يكن متاحاً لهم، من ثمَّ، وفي ذلك المنحنى التاريخي، سوى ترديد "صدى الصَّيحة" في مواجهة الاستعمار البريطاني. ولأن "الصَّدى" ليس ك "الصَّيحة"، فقد انطلق مسقطاً من "الأيديولوجيا" القديمة عنصر "التحقق الوجودي المهدوي"، ومبقياً على عنصر "الإلهام الفكري المهدوي"، ومضيفاً عنصر "الظهور المادِّي العيسوي".
هكذا شاعت "حركات النَّبي عيسى" فى السُّودان (1900 1915م)، محمولة على أجنحة الاعتقاد بأن الدَّجال الذي حطم حكم المهدي وخليفته، سوف يهزمه النَّبي عيسى الذي سيهبط من السَّماء، ويقود المسلمين نحو النصر (تيم نبلوك؛ صراع السُّلطة والثروة في السُّودان، ص 163)، كعلامة من علامات السَّاعة، وكمحاولة منطقيَّة، كما سلفت الإشارة، لاستولاد المهديَّة القديمة في الظروف الجديدة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى تسميتها ب "المهديَّة الجديدة" (م.ع. بشير؛ تاريخ الحركة الوطنيَّة في السُّودان، ص 71). وادعى "نبوَّة عيسى" كثيرون، كالشَّيخ علي ود عبد الكريم في أمدرمان عام 1900م، والشَّيخ محمد الأمين في تقلى عام 1903م، والشَّيخ آدم ولد محمَّد في سنَّار عام 1904م، والشَّريف مختار من الشَّنابلة والفكي مدني بالنيل الأبيض عام 1910م، والفكي نجم الدِّين في كردفان عام 1912م، والشَّيخ أحمد عمر في دارفور عام 1915م، وغيرهم.
(5)
كان علي ود عبد الكريم هو أوَّل وأشهر أولئك جميعاً، فقد أنشأ ما عُرف، وقتها، ب (جماعة ود عبد الكريم) أو (طائفة عباد الله) التي أعلن أفرادها، أثناء محاكمتهم، أنهم يحتكمون إلى خمس شعائر إيمانيَّة كان أخطرها طرَّاً بالنِّسبة للإدارة الاستعماريَّة: "أن كلَّ الأفعال تُعزى إلى وحي من الله"، كما أعلنوا أنهم ملهمون ب "نبوَّة عيسى"، وخاضعون لأمر قدسيٍّ بمناوءة الحكومة، فما لبثت المحكمة أن قررت أنه "بالنظر إلى البند .. المتعلق بالوحي الإلهى، يكون من الأوفق أن يُبعد .. قادة الجَّماعة .. من أم درمان بأسرع فرصة"(S. g. A/Sudan Intelligence Report No. 67, p. 14, 15 ضمن المصدر نفسه). وبالفعل جرى التنكيل بالشَّيخ علي ود عبد الكريم وجماعته، وتمَّ نفيهم إلى وادي حلفا. وكما كان الحال إبان التُّركيَّة فقد شكلت الإدارة البريطانيَّة لجنة من "علماء السُّودان" أيَّدت الحكم، ودمغت الحركة (بالهرطقة) ، مِمَّا ".. ساعد الحكومة على تصوير البنيان القانوني وكأنه بنيان إسلامي" (تيم نبلوك؛ سابق، ص 170).
لقد كانت تلك بمثابة الخطوة الأولى للإدارة البريطانيَّة باتجاه التطبيق الفعلي لسياسة السَّير على خطى التُّركيَّة السَّابقة، من جهة تعميق التَّناقض داخل المؤسَّسة الدِّينيَّة، بدعم "الإسلام الرَّسمي" المتمثِّل في "لجنة العلماء" والقضاء الشَّرعي، وربطه بميزات الالتحاق بكشف المرتَّبات الحكوميَّة، لاستخدامه في محاربة "الإسلام الشَّعبي"، وتقليم أظافر "الخلاوي" التي لم يُسمح لخريجيها ولو بمحض العشم في التوظيف، لخشية الحكومة من قدرتها على تهييج الجَّماهير عن طريق الرؤى والبركة (نفسه)، واعتبار "الفكي" مصدر تهديد حقيقي للاستقرار والأمن العام (القدَّال، سابق، ص140). وتبعاً ل "فتوى الهرطقة" أعلن الحاكم العام أن "نفس الجَّزاء سيوقع على أى شخص يعمل على مخالفة الدِّين الإسلامي الحنيف" (S. g. A/Sudan Intelligence Report). وكان اللورد كرومر قد وعد الشُّيوخ والأعيان، عام 1899م، أي في العام التالي لمعركة كرري، والعام السابق لحركة الشيخ علي ود عبد الكريم، باحترام الدِّين الإسلامي وتطبيق "الشَّريعة الغرَّاء" (أوراق كرومر ضمن جعفر بخيت؛ الإدارة البريطانيَّة والحركة الوطنيَّة في السُّودان 1919 1939م، ص 19)، مثلما باشر كتشنر إرسال نفس هذه الإشارات المخاتلة، كما في منشوره الذي ادَّعى فيه أنه ما جاء إلا لتخفيف "أوجاع المسلمين .. وليشيِّد دولة إسلاميَّة تقوم على العدل والحقِّ، ولكى يشيِّد الجوامع، ويساعد على نشر الاعتقاد الصَّحيح" (شقير؛ سابق، ص 581 582).
لقد افترعت حركة الشَّيخ علي ود عبد الكريم "حركات النَّبي عيسى" التي سارت على خط المفاصلة البيِّنة بين مؤسَّسة "الإسلام الشَّعبي"، بتصدِّيها للاستعمار، وبين مؤسَّسة "الإسلام الرَّسمي" التي مالأته وخَدَمَته. ومن ثمَّ فإن أصوب تقدير لتلك الحركات هو أنها تمثل، مع الانتفاضات القبليَّة، شكلاً متميِّزاً من أشكال المقاومة الأوليَّة الباكرة للاستعمار، أو ملمحاً مهماً من ملامح المرحلة الأولى للحركة الوطنيَّة التي يعتقد البعض، خطأ، أنها لم تبدأ إلا بعد نهاية الحرب العالميَّة الأولى، مع نشوء حركة الخريجين الحديثة، وتأسيس أنديتهم، وتكوين جمعيَّتي الاتحاد السُّوداني واللواء الأبيض، وهلمَّجرَّا.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.