شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد.. صور الفنانة ندى القلعة تزين شوارع أم درمان.. شباب سودانيون يعلقون لافتات عليها صور المطربة الشهيرة (يا بت بلدي أصلك سوداني) والأخيرة ترد: (عاجزة عن الشكر والتقدير)    شاهد بالصورة والفيديو.. طفل سوداني غاضب يوجه رسالة للمغترين ويثير ضحكات المتابعين: (تعالوا بلدكم عشان تنجضوا)    شاهد بالصورة والفيديو.. عريس سوداني يحتفل بزواجه وسط أصدقائه داخل صالة الفرح بالإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة أكتوبر مابين الساسة والنخبة والعسكر
نشر في الراكوبة يوم 21 - 10 - 2013

هل كتب علينا أن نجتر كل عام ذكرى ثورة 21 أكتوبر 1964م المجيدة . ونتباكى على الماضي وحده . أم هل نستخلص من هذه الثورة الشعبية الدروس والعبر على أمل ورغبة جادة في إيقاف ساقية جحا هذه التي تدور فتملأ من النهر وتفرغ في النهر بلا طائل؟
من الأسف أن يقدّم الشعب التضحيات ويظهر البسالة والإقدام ، وهو عاري الصدور والأيدي خلال ثورة أكتوبر . ثم تنتهي هذه الثورة إلى واقع أن القوى التقليدية وحدها هي التي ترث في نهاية المطاف الحكم والثروة ، لتنعم بها وفق اللعبة الديمقراطية ومخرجات صناديق الإنتخابات ما بين أغلبية مقاعد لحزب الأمة ، ومعارضة لحزب الوطني الإتحادي ... أو بالعكس في حالة تحالف الوطني الإتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي وهلم جرا من تجمعات الطوائف .. وليخرج بقية الشعب الثوار الأحرار من المولد بلا حمص ، ودون تمثيل حقيقي في مثل هذه البرلمانات الديمقراطية العرجاء بسبب غلبة أحزاب العائلة الواحدة الطائفية.
ثم إن هي إلا سنوات ست أو أربعة حتى يكرر التاريخ (في الدولة المتخلفة) نفسه دائماً . فيخرج المغامرون من وسط ضباط الجيش ليعيدوا الكرّة مرة أخرى بالإستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة ..... ويكون الذي يشجعهم ويستدعيهم لذلك طبقة من النخب المثقفة العقائديين الذين ييأسون من إمكانية الوصول لكراسي الحكم عبر صناديق الإنتخابات الحرة النزيهة . فينجح الإنقلاب أو يفشل لا يهم .... لكن تبقى الحقيقة الكارثة الماثلة في أن من يرفعون شعارات الديمقراطية ويحملون مشاعل الحرية وقيادة الثورات الشعبية وسط الشارع ؛ يصبح خيارهم المفضل لاحقاً هو تصعيد العسكر بإنقلاب ؛ والركوب إلى جوارهم بوصفهم سبيلهم الوحيد لتذوق طعم السلطة والأكل من "عصيدة" الثروة.
جميع الإنقلابات العسكرية الفاشلة منها ؛ أو التي أفلحت في القفز إلى مقاعد السلطة مابين عامي 1958م و 1989م . كانت بتدبير ودعم وتحريض من النخب السياسية والمثقفة. يأتون كل مرة بضابط مغمور أو مشهور فيوهمونه على مر الأيام أنه نسيج وحده .... قائد الثوار الأحرار والزعيم العربي الهجين الجديد الملهم . وعبقري السودان المنسي . فينغسل دماغ صاحبنا وينتفخ ويشمر عن ساعد البطش والتدمير . ويظل يعبث ويخرب لعدم درايته بأمور السياسة والحكم ... ولا يذهب حتى تنهش الثعالب الأرانب ، ويأكل الأخضر اليابس ...... وتصار البلاد إلى خرابة ينقع فيها البوم ويلمع في قيعانها السراب.
في 17 نوفمبر 1957م جاء حزب الأمة باللواء إبراهيم عبود للسلطة.
في 25 مايو 1969م جاء القوميون العرب والإشتراكيون والشيوعيون بالعقيد جعفر نميري.
في 30 يونيو 1989م جاء الإخوان في دبابة العميد عمر البشير..... .. ولا ندري من أي مليشيا متمردة (هذه المرّة) سيأتي الزعيم الملهم المخرِّب القادم؟
إذن تحل اليوم الإثنين 21 أكتوبر الجاري ذكرى أكبر ثورة شعبية سودانية نسبت إلى تاريخ 21 أكتوبر1964م كونه اليوم الذي شهد قمة أحداثها عندما تحدى طلاب جامعة الخرطوم السلطة فعقدوا ندوتهم الشهرية بمبنى اتحاد الطلاب لمواصلة مناقشة مشكلة الجنوب. فتدخل أمن النظام وأدت الصدامات إلى مقتل إثنين من الطلاب كان أولهم الشهيد أحمد القرشي الذي أصبح ملهم الثورة.
ولهذه الثورة وقعها وصداها الخاص في ضمير الشعب السوداني باعتبارها اول ثورة شعبية بعد استقلال السودان عام 1956م تطيح بحكومة عسكرية وطنية هي حكومة المرحوم الفريق إبراهيم عبود ؛ الذي جاء إلى السلطة إثر إنقلاب عسكري أبيض في فجر يوم 17/11/1958م لإنهاء صراع داخل الجمعية التأسيسية أبان العهد الليبرالي الأول بين أكبر حزبين متنافسين على السلطة في ذاك الزمان هما حزب الأمة الحاكم ؛ والحرب الوطني الاتحادي المعارض . وحيث كان حزب الأمة (ولا يزال) ممثلا لطائفة المهدية ذات التوجهات الوطنية الخالصة والرافضة لفكرة الوحدة مع مصر بأي شكل من أشكالها . في حين كان الوطني الإتحادي موالياً لطائفة الختمية الموالية بدورها لمصر . بالإضافة إلى حزب الشعب الديمقراطي إبن هذه الطائفة الشرعي.
كانت الحكومة الديمقراطية عشية ثورة عبود ؛ منبثقة عن انتخابات برلمانية حرة نزيهة وفق نظام ليبرالي يقودها آنذاك رئيس الوزراء "عبد الله خليل". وهو معروف بولائه التام للطائفة المهدية ...... ويتفق جميع المؤرخون في السودان على أن إنقلاب إبراهيم عبود هذا كان مرتب ترتيباً متقناً ودقيقاً . وأن هناك أيدي خفية لجهاز المخابرات الأمريكية CIA لعبت دوراً مفصلياً لإنجاحه ..... ثم ضمنت له الإستمرارية لمدى زمني أطول مما كانت تتوقعه دائرة المهدي.
أما الفريق عبود فقد كان عشية الانقلاب قائدا للجيش السوداني برتبة لواء . وجاء معه لسدة الحكم أعضاء هيئة أركان الجيش السوداني وقتها كأعضاء لما سمي بمجلس الثورة ...... وتعود اسباب تدخل أل CIA إلى تنامي وتصاعد الصراع على السلطة بين حزب الأمة من جهة وحزبي الوطني الإتحادي وحليفة حزب الشعب الديمقراطي من جهة اخرى بهدف إسقاط وزارة عبد الله خليل بسحب الثقة عنها في الجمعية التأسيسية (البرلمان) ظهر يوم 17/11/1958م كما كام مؤملاً إرضاءاً لخواطر مصر التي لم تكن حينها راضية عن الأسلوب الوطني البالغ الحماسة الذي أدار به عبد الله خليل أزمة (حلايب) بين السودان ومصر. وعلى نحو اضطرت فيه مصر عبد الناصر وقتها إلى التسليم مؤقتا للسودان بالسيطرة على منطقة حلايب نظرا لما كانت تعانيه مصر حينها من عزلة في علاقاتها مع الغرب بسبب تقاربها مع السوفييت .... هذا بالإضافة إلى اقتراب انتهاء الفترة المحددة لاتفاقية تقسيم مياه النيل ، والتي كانت مواقف عبد الله خليل تهدد بإعاقة إعادة توقيعها لمدة أخرى بنفس الشروط السابقة الموقعة بها عام 1929م بين مصر والحكم البريطاني في السودان ..... وعلى أية حال نجح إنقلاب عبود وشكل حكومته العسكرية المطعمة ببعض الوجوه المدنية ....
والمدهش أن عبد الناصر الذي بدأ وكأنه الخاسر الأول من إنقلاب عبود في البداية ؛ إذا به وبأسلوب يحسده عليه ميكافيللي في أوج عصره استطاع أن يحول خسارته إلى (ربح العمر والعصر) بالنسبة له ولمصر ؛ حين استغل تورط حكومة عبود في حرب الجنوب ؛ فأبدى وقوفه إلى جانبه وقام معه بزيارة إلى بعض مناطق الجنوب الآمنة للدلالة على مناصرته له . واعتقد عبود واهما أن موقف عبد الناصر الداعم له كفيل وحده بتعزيز موقف حكومته المتشدد تجاه متمردي الجنوب ؛ رغم أن مطالب هؤلاء في ذاك الوقت لم تكن بحجم وتعقيد ما جاء لاحقا يعد وصول جعفر نميري للسلطة في 25 مايو 1969م ثم تمرد جون قرنق عام 1983م.
وعلى اية حال فقد أخذ عبد الناصر من عبود كل ما أراد ويشتهي وأكثر ؛ سواء من حيث تجديد اتفاقية تقسيم مياه النيل عام 1959م أو تهديد الأمن القومي السوداني بإخلاء أقصى شمال السودان من السكان والترحيل القسري لأبناء وادي حلفا التي غرقت مدنهم وقراهم وحضارتهم أساس إرتباطهم بالأرض أسفل مياه بحيرة السد ؛ في حين لم تفي مصر بأية عهد أو وعد قطعته للسودان . خاصة فيما يتعلق بتزويد السودان بالنسبة المتفق والمنصوص عليها (30%) من كهرباء السد العالي أو حرية إقامة مشاريع زراعية تعتمد على الري الإنسيابي من مياه النهر حسب ما يرغب جنوب بحيرة السد . فتعطلت بذلك العديد من مشاريع زراعية كبرى كان مخطط لإقامتها في الرهد وسنار لزراعة قصب السكر وإنتاجه من أموال المعونات الأمريكية والغربية . وأقيمت عوضاً عن ذلك مصانع فاشلة مثل حليب بابنوسة وتعليب لحوم واو .. إلخ . وكان على السودان أن ينتظر سنوات طويلة لتنفيذ مشاريع زراعية منتجة وذات جدوى في الرهد وسنار .. لكنها تم تنفيذها بقروض مستحقة الدفع مع الفوائد عوضاً عن أموال وهبات معونات غربية .
لقد غاب عن ذهن عبود ومجلسه العسكري أن السودان بالنسبة لمصر ليس سوى ملف أمني ..... وأن الإستراتيجية المصرية الدائمة ترى دائماً وأبداً أن لا تسمح بقيام أية دولة قوية في حوض النيل متاخمة لمصر تهدد مصالحها وحصتها الأوفر في مياه النهر . وأما خيار الحكومات السودانية المتعاقبة حيال مصر فلم تكن سوى إستراتيجية البلاهة المتجددة .....
وحين بدأت الأمور تتضح أمام أعين العسكر وتدخل أمخاخهم النظيفة كان الوقت قد فات وقد حصل ما حصل ، فما كان من هؤلاء إلا محاولة الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة مرة أخرى....... وبالفعل تلقفهم الغرب بلهفة وترحاب أكثر سببها الرغبة في خلق صداع نصفي لعبد الناصر بعد توجه الأخير للسوفيت وإرتمائه الكامل في أحضانهم. وتم تحديد موعد لزيارة لزيارة يقوم بها جون كيندي إلى السودان وطرح حل سياسي اقتصادي لمشكلة الجنوب وتققديم مساعدات ضخمة للسودان . لكن إغتيال جون كيندي في نوفمبر 1963م ألغى بالطبع هذه الزيارة التي كان مؤملا أن تشكل نقلة اقتصادية للسودان لا يستهان بها ، بالإضافة إلى دعم سياسي قوي لحكومة عبود فيما يتعلق بإنهاء تمرد الجنوب الثاني .
والشاهد أنه رغم كل سوء الطالع الذي تسبب به إغتيال جون كيندي . فإن فترة حكم عبود قد تميزت بطوفان من المعونات الأمريكية ، وتعاون اقتصادي وضمانات مالية سخية منحت للسودان. وقد شرعت حكومة عبود وقتها في تنفيذ ما سمي بالخطة الاقتصادية العشرية والتي تميزت بمعالمها الراسمالية السافرة ... لكن وحسب ما يقال كان للفساد وعدم الشفافية بسبب الحكم الدكتاتوري . وكذلك إنعدام الخبرة وسوء التخطيط أثره الكبير في إجهاض هذه الخطة ؛ لا سيما وأن كثيرا من المصانع قد تم تشييدها دون دراسات جدوى ؛ مما أدى إلى فشلها وإفلاس بعضها قبل أن يبدأ . وعاد الاقتصاد إلى الإعتماد على تصدير المواد الخام من قطن وصمغ ومحاصيل مواشي وجلود وسن فيل وريش تعام .. بالإضافة إلى الإعتماد على المعونات المالية المباشرة من دول الغرب . فحافظ ذلك على إستمرار معدلات الرفاهية والبحبوحة التي كانت لا تزال ماثلة للمواطن في العاصمة والمدن الكبرى في وقت كانت فيه الأيدي العاملة الوطنية لاتزال قابضة على معاول الإنتاج الزراعي ؛ وغير منشغلة بالنزوح إلى المدن والتكدس في أطرافها العشوائية...... وبنحو عام لم تكن هناك مشكلة إقتصادية أو شكوى من بطالة وضنك معيشة وسوء خدمات حكومية عشية ثورة 21 أكتوبر 1964م... بل كان كل التركيز منصب على المطالبة بالحريات السياسية والديمقراطية وحل مشكلة الجنوب.
كانت الأسواق العالمية على عهد إبراهيم عبود تشهد إستقراراً منقطع النظير وهناك وفرة في الإنتاج العالمي خاصة لدى الغرب . وكانت معدلات الأمطار في السودان مستقرة . ولا حاجة للمواطن في الأرياف إلى مد عنقه إلى المدينة فحافظ الإقتصاد السوداني والنسيج الإجتماعي على توازنهما وتماسكهما ... وطالما كان الأمر كذلك فأين كان إذن مكمن الخلل وسلبيات هذا النظام الدكتاتوري الخصيب مقارنة بما جاء بعده من ديكتاتوريات أذاقت الشعب طعم الجوع وحرارة العطش والإذلال والمهانة في كاس واحدة؟
منذ البداية كمّمت حكومة عبود الأفواه واعلنت حالة الطوارىء وحلت الأحزاب والنقابات . كما قامت بتعطيل الصحف ومنع أي نشاط سياسي وفتحت ابواب السجون في وجه كافة الساسة والنقابيين المطالبين بالحريات السياسية وعودة الليبرالية إلى الساحة السودانية .. وأما حرية التعبير عن الرأي فقد كانت مرفوضة تماماً .. وإنتشر "البوليس السري" وسط العاملين وكافة قطاعات الشعب والأسواق . وكان مجرد الحديث الهامس المعارض لنظام الحكم في الونسات والجلسات الخاصة مدعاة للإعتقال والفصل من الخدمة... وتحت ظل التقارب مع الولايات المتحدة وبتوجيهات من أل CIA فقد تم تشديد القيود والقبضة الأمنية على الحزب الشيوعي السوداني بوجه خاص . وعلى نحو دفع بقياداته في العاصمة والمدن إلى الإختباء في جوف الأرض وإعتماد العمل السري منهجاً حتى برعوا فيه وأشتهروا به دوناً عن غيرهم من أحزاب عقائدية وطائفية و وطنية ليبرالية كانت قائمة لكنها تحت طائلة الحظر وقتها. وشهدت الفترة من مارس 1959م وحتى أغسطس 1961 تقريبا ثلاث محاولات إنقلابية عسكرية فاشلة وفق ما أعلن رسمياً .
ويلاحظ أن ما كان يعرف وقتها ب "الإخوان المسلمين" ظلوا بعيدين عن "جبهة الإنقاذ" لأسباب نابعة عن جمودهم الفكري الذي فرضه وصبغه عليهم تبعيتهم لتنظيم الإخوان المصريين البعيدين عن واقع العقلية السياسية الحقيقية داخل السودان . ثم وحفاظاً على "عذريتهم" الدينية التي ظنوا أنها تحجر عليهم الدخول في أية تحالفات يكون الحزب الشيوعي (الملحد) طرفاً فيها .. لاسيما وأنهم فضلوا عوضا عن تلك التحالفات السياسية الذهاب للتنسيق مع العساكر للقيام بإنقلاب عسكري ضد إبراهيم عبود إختصاراً للطريق ويأساً من صندوق الإنتخابات الديمقراطية التي لم تكت تسفر سوى عن سيطرة حزبي الأمة والوطني الإتحادي على البرلمان ومقاليد الحكم ......
كان الإخوان في ذلك الزمان بقيادة المرحوم "الرشيد الطاهر أبكر" الذي كان يشغل منصب "المراقب العام" ؛ ولكن الإنقلاب فشل وألقي القبض على الرشيد الطاهر. ثم حدثت إنشقاقات على إثر فشل ذلك الإنقلاب داخل تنظيم الإخوان المسلمين برز بعدها إسم الدكتور "حسن الترابي" كوجه جديد وقيادي كاريزمي براغماتي تحت عنوان لحزب جديد هو "جبهة الميثاق الإسلامي" . إبتعد به عن هيمنة تنظيم الإخوان المسلمين المصري وأخرجه من سنوات العزلة ليشق طريقه بتحالفات أفقية مع السلفيين وتمويل غربي و CIA سخي ، مكّنه من الصعود بسرعة والتغلغل وسط طلاب الجامعات والثانويات بعمق . وأبدى الترابي قدرات فائقه في التخطيط والتجنيد ، ووضع أسس التنظيم السري ؛ والتعامل السحري مع كافة القوى والأحزاب الوطنية بمن فيهم الحزب الشيوعي ؛ لدرجة فاقت الخيال جين أفلح في ركوب ماكينتهم الدعائية وتوظيفها أكثر من مرة لصالحه. كما استغل وسامته وأناقته الباريسية (وقتها) ومواهبه الشخصية المتعددة في لفت الأنظار . وإتقان الحركات المسرحية والبهلوانية وفي إصدار المقولات المليودرامية المفرقعة ؛ مما كان له الأثر الكبير في إكسابه صفة الرجل الجديد "المثير للجدل" ؛ وصعود نجمه خاصة بعد مشاركته الشخصية في العديد من فعاليات ثورة أكتوبر الجماهيرية وكان أهمها "ليلة المتاريس". حتى نسي الناس الرشيد الطاهر وصادق عبد الماجد وغيرهم ... ولم يعد في الواجهة سوى إسم ورسم ، ولحية وصوت وإبتسامة الترابي ..... وقد بلغ من تأثيره أن بادر الصادق المهدي بتقديمه لإمامة صلاة الجنازة على الشهيد أحمد القرشي في الخرطوم يو 22 أكتوبر قبل نقله لدفنه في مسقط رأسه.
و"ليلة المتاريس" في الأصل مصطلح لموقف من مواقف الثورة الفرنسية. (1789م) . وانتظر على ما يبدو طوال سنوات ليعيد تكرار نفسه مساء 9 نوفمبر إلى فجر 10 نوفمبر عام 1964م في السودان .. وليصبح هو الآخر واحداً من أهم مواقف ثورة 21 أكتوبر .. ولم يمنع من إجترار ألق هذه الليلة الساطعة ورصد معانيها على النحو الذي تستحق سوى تنافس الفرقاء الساسة والثوار (الشباب وقتها) فيما بينهم بعد ذلك حين ذهب كل فريق منهم ينسبها لنفسه ولحزبه .... وجاءت القاصمة حين غنى لها محمد الأمين نشيداً وطنياً تطرقت لها أبياته بوصفها ليلة من "ليالي الثورة الحمراء" أو بما معناه أنه يرد الفضل فيها للشيوعيين ؛ على الرغم من أن كافة قطاعات الشعب قد شاركت فيها بإقامة المتاريس في شوارع العاصمة الرئيسية بعد سريان شائعة أن الجيش في طريقة لتنفيذ إنقلاب ضد الثورة الشعبية.
إذن وبالعودة إلى عام 1961م نلحظ أن المناهضة السياسية لنظام 17 نوفمبر قد شهدت أولى إفرازاتها التنظيمية على إثر تكوين (جبهة الأحزاب) التي ضمت حزب الأمة والوطني الاتحادي والحزب الشيوعي . وتكونت مثيلتها أيضا من الأحزاب السياسية في جنوب السودان (آنذاك) . وقد واجه نظام عبود تلك التحركات بحزم وعنف وألقى القبض على العديد من رموز الحركة السياسية الحزبية وقتها .......
وربما كان الأمر محتملا إلى حد ما لكن برزت إلى السطح مرة أخرى مشكلة الجنوب ----- كعب أخيل كافة الحكومات المتعاقبة في العاصمة الخرطوم ----- فقد انتشرت النار في أخضر وهشيم الجنوب على يد ما سمي وقتها بمتمردي الأنيانيا (جيش تحرير الأرض) ويقال أن أنيانيا هو إسم لأفعى شديدة السمية مشهورة في تلك البلاد الجنوبية ......... كانت قيادة الذراع العسكري لحركة التمرد هذه بقيادة ملازم أول وقتها يدعى جوزيف لاقو تخرج من الكلية الحربية في الخرطوم والتحق بالجيش السوداني ثم آثر دخول الغابة والالتحاق (كالعادة) بحركة التمرد ضد الشمال ..... وكان من نتائج المعارك الضروس التي جرت خلال تلك الفترة أن فر الملايين من ابناء الجنوب نحو الدول المجاورة وعلى نحو خاص يوغندا و أثيوبيا وكينيا وزائير وحتى وسط وشمال السودان . فالحروب الأهلية عمياء لا تفرق عادة بين العدو والصديق ... ويكتوي بنارها كلا الفريقين المتحارين.
وحين استفحل الأمر وتطاير شرر الحرب إلى شمال وخارج السودان. وتناقلت وكالات الأنباء ما يجري في الجنوب ؛ عمدت الحكومة إلى تحاشي التسييس بتشكيل لجنة "تقصي حقائق" تضم في عضويتها بعض الموظفين الحكوميين من غير ذوي التوجهات السياسية ؛ ظناً منها بأن هذه الخطوة كفيلة بتبييض وجهها وغسل يديها دون أن تمنح فرصة للأحزاب السياسية الخروج بنقاط لمصلحتها . وتم إعلان تشكيل "لجنة الأفندية" هذه رسمياً في يوم 7 سبتمبر 1964م.
كان من بين ما إرتأته تلك اللجنة إقامة ندوات لجذب المثقفين إلى المشاركة بآرائهم . وكانت ابرز أماكن عقد تلك الندوات هو جامعة الخرطوم . ولكن سرعان ما ضاقت بها السلطة ذرعا وأصدرت في 10 أكتوبر1964 قراراً بوقفها نهائياً .... لكن القرار على ما يبدو قد جاء متأخرا ، وبلغ السيل الزبى حين تقدم اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بمذكرة للحكومة مطالبا السلطة العسكرية بالتنحي ؛ وكان رد السلطة السريع هو اعتقال أعضاء الاتحاد والزج بهم في السجن ... فتصاعدت وتيرة الأحداث والمظاهرات الطلابية مطالبة بإطلاق سراح أعضاء إتحادهم وبدأ المرجل يغلي والبخار يتصاعد.
في يوم 21 أكتوبر 1964م .... تحدى طلاب جامعة الخرطوم السلطة فعقدوا ندوتهم الشهرية بمبنى اتحاد الطلاب لمواصلة مناقشة مشكلة الجنوب . فما كان من قوات الأمن إلا أن تدخلت مستخدمة الذخيرة الحية لفض الندوة بالقوة . فسقط جراء ذلك إثنين من الطلاب صرعى هما أحمد القرشي و بابكر عبد الحفيظ وجرح العشرات . وعلى إثر ذلك تقدم الأساتذة السودانيون في هيئة التدريس باستقالات جماعية معلنة أن لا عودة إلا بعد زوال نظام الحكم العسكري .....
وشهد يوم 22 أكتوبر 1964م تجمع الجماهير السودانية في الخرطوم لحمل جثمان الطالب أحمد القرشي من مستشفى الخرطوم للصلاة عليه ونقله إلى مسقط رأسه "قرية القرّاصة" ؛ حيث تحول هذا التجمع فيما بعد إلى مظاهرات عارمة اندلعت في العاصمة وشملت كل مدن السودان فيما بعد. وأعلنت اللجنة المنسقة للثورة الشعبية العصيان المدني الذي شل حركة البلاد بأكملها . فأعلن الرئيس إبراهيم عبود في 26 أكتوبر64م حل أعمدة السلطة آنذاك وهي المجلس العسكري ، ومجلس الوزراء ، والمجلس المركزي. وبتاريخ 27 أكتوبر1964م تكللت المفاوضات التي جرت جوار قبة الإمام المهدي بأمدرمان بين كبار ضباط الجيش وممثلي الأحزاب السودانية بالاتفاق على تكوين حكومة انتقالية مدنية ، عرفت فيما بعد بحكومة سر الختم الخليفة الأولى التي أعلنت يوم 30 أكتوبر 1964م .
كانت حكومة سر الختم الخليفة الأولى من الضعف بمكان . وبدأت عاجزة عن أية مبادرة خلا الأماني العذبة والسهر حتى ساعات الفجر الأولى على طاولات القمار وقرع كؤوس الخمر التي كانت ملح ليالي المثقف والسياسي والمهني السوداني الرفيع تلك الأيام . وسرعان ما جرى حل هذه الحكومة بعد مجزرة القصر الجمهوري التي تسبب بها أحد ضباط الجيش من أعضاء مجلس الثورة المنحل وأودت بحياة 36 من المتظاهرين المطالبين باستقالة عبود من رئاسة الجمهورية.
تلفت الناس حولهم فلم يجدوا أحداً يتفقون عليه . فجاءوا مرة أخرى بسر الختم الخليفة ليرأس مرة أخرى بما عرف لاحقا في التاريخ السياسي السوداني بحكومة (جبهة الهيئات) ... وسميت بذلك كونها قد ضمت ممثل للعمال وممثل للمزارعين وممثل لكل حزب من الأحزاب الرئيسية وهي حزب الامة ، الوطني الاتحادي ، الأخوان المسلمين ، الشيوعي ، الشعب الديمقراطي ... بالإضافة إلى ثلاثة ممثلين للجنوب ..
لكن سرعان ما دب الخلاف بين هؤلاء ليعلن سر الختم الخليفة حل هذه الحكومة وأعقبها بتشكيل ثالثة تنحى في ظلها الرئيس عبود عن سلطاته بشكل نهائي ثم أعقب ذلك حكومة رابعة أيضا برئاسة سر الختم الخليفة ... ولم تستقر الأوضاع السياسية في السودان إلا بعد 25/4/1965م إثر إعلان نتائج الانتخابات الديمقراطية التي فاز فيها حزب الأمة بخمسة وسبعين مقعدا وتلاه الحزب الوطني الاتحادي بعدد 54 مقعدا . وتقاسمت بقية الأحزاب المقاعد بأعداد ضئيلة حيث أحرز الحزب الشيوعي 11 مقعد والإخوان المسلمين 5 مقاعد ......
لم يهنأ طويلا بديمقراطيته تلك ؛ فكان إنقلاب العقيد وقتها جعفر نميري صبيحة 25/5/1969 محمولا على اكتاف تحالف تنظيم الضباط أحرار في الجيش مع يساري القوميين العرب والشيوعيون ، ليدخل السودان مرة أخرى في دوامة من الصراع وتجارب العسكر والأفندية وبعض أساتذة الجامعة من غير ذوي الخبرة والدراية السياسية . ودامت مهزلة إنقلاب مايو 16 سنة ثم أنتهت هي الأخرى بانتفاضة شعبية للمرة الثانية على السلطة العسكرية في أبريل من عام 1985م.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.