مرّ عام وأتى آخر.. عام كان مليئاً بالأحداث، وحافلاً ببذور التغيير، حسنها وسيّئها، وكان عنوانه وخاتمته بلا منازع 'الانفصال' و'كشف المستور'. السودان أصبح بحكم الدولتين، شكراً لإسرائيل وجهودها المشهودة في دعم الجنوب ودُماه المتحركة، ولعمر حسن البشير المستعد لتقسيم السودان لعشر دول طالما بقي رئيساً لاحداها، ولا ننسى توجيه الشكر للصمت العربي، والتزام العرب بالتعليمات الصادرة لهم من سفارات الولاياتالمتحدة في بلادهم بعدم بذل أي مجهود للحفاظ على وحدة السودان، بل ودعم الجنوب في حال انفصاله، كما جاء على لسان الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.. اليمن حدّث ولا حرج.. الجنوب مرّة أخرى يريد الانفصال، والبرلمان اليمني بدلاً من الاجتماع لمناقشة القضايا والأسباب وراء رغبة الجنوب بالانفصال وطرح مشروعات قوانين لحل هذه القضايا والمشاكل، يطرح قانوناً يسمح بموجبه للرئيس علي عبدالله صالح بالبقاء رئيساُ 'للجمهورية' مدى الحياة، ليصبح صالح، بطل الوحدة عام 1990 وبطل الانفصال في أي عام قادم خلال فترته الرئاسية مفتوحة الأجل. فلسطين على جراحها تجتمع الآلام وتتفرق الفصائل... حماس تضرب أخماساً بأسداس، في سذاجة وجهل سياسي 'يبكي الكافر'، كما كانت جدّتي تقول، بينما تتنافس كوادر حركة فتح السياسية في التعاون مع المحتل، وفي خيانة رصاصة الثورة الأولى التي انطلقت في الأوّل من كانون الثاني/يناير 1965، وما أبعد الأول من يناير ذاك العام بالأول من يناير هذا العام الذي افتتحته الحركتان بكيل الاتهامات احاهما للأخرى، باعتقال كوادرها واحدة في رام الله والأخرى في غزّة.. فيا لوعتي عليك يا وطني بين هذا وذاك. عدوى الانفصال والطائفية والتشرذم غير بعيدة عن بقية 'البقية' من الوطن العربي، لبنان، المغرب، مصر، البحرين، الصومال والعراق، آه يا عراق.. لكن 2010 حملت معها أيضا بذور الأمل والثورة، اللذين لا يمشيان إلاّ يداً بيد، فلا أمل بلا ثورة، ولا ثورة بلا أمل، فالأولى ليست أكثر من انتظار أبدي لغودو لن يأتي أبداُ، والأخرى تنفيس آنيّ للغضب، سرعان ما يخبو في سجنٍ أو قبرٍ أو منفى. لنأخذ دروس 2010 من مثالين لأناس عاديين في ظاهرهم عظماء بأرواحهم.. الأولى هي فوزية الكرد أو أم كامل الكرد، هذه المرأة الفلسطينية التي تعطينا دروساً في الرجولة، في زمن عزّ فيه الرجال وتكاثر أشباههم برتب عسكرية ومواكب رئاسية. اقتلعها المستعمرون الصهاينة بحماية جنودهم من منزلها في حي الشيخ جراح في القدس، على مرآى ومسمع الفضائيات والاذاعات العالمية، فلم ينبس مسؤول عربي ببنت شفة. وأم كامل تعلم يقيناً أن أشباه الرجال لن يعيدوها لمنزلها، فنصبت خيمة أمام منزلها تعتكف فيها طوال اليوم، وتستقبل فيها المتضامنين من شتّى أنحاء العالم، وترفض التنازل عن شبر من منزلها ولو عرضوا عليها 15 مليون دولار ثمناً لذلك، خيمة شامخة فوق القصور العربية، أوتادها الكرامة والصمود وعزّة النفس، ما أن تراها ولو على شاشة التلفزة حتى تشعر كم أنت صغير أمام هذه المرأة، وإن كنت تتشدق طوال اليوم بالشعارات والمحاضرات، وبدلاً من أن تلوك الشعارات الواهية التي تردّدها، تلوك ما تبقى عندك من كرامة واحترام للذات، وتغيّر خجولاً القناة التلفزيونية، حتى تحتفظ بما تبقى منهما لديك.. خيمة أم كامل هي خيمة أم سعد التي رسمها غسّان كنفاني، وهي البيت الفلسطيني، وهي التي حثّنا على التفكير فيها درويش حين قال: وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ ..لا تنس شعب الخيام. وأم كامل هي من عناها نزار قباني حين قال: نساؤنا.. يرسمن أحزان فلسطين على دمع الشجر.. يقبرن أطفال فلسطين بوجدان البشر.. نساؤنا.. يحملن أحجار فلسطين إلى أرض القمر. لنتعلم الرجولة إذن من هذه المرأة الفلسطينية. والثاني هو محمد البوعزيزي، هذا الشاب التونسي الجميل، حامل الشهادة الجامعية الذي تقطعت به سبل الحياة، ولم يجد وظيفة بشهادته في بلد يملك 12 حقل نفط، بلد هو واحد من أكبر منتجي الفوسفات في العالم، ناهيك عن الصادرات الزراعية، فأبى أن يترك عائلته المكونة من تسعة أفراد أحدهم معاق، وانطلق يبيع الخضر والفواكه على بسطة على جانب الطريق، وحين منعته الشرطة من نصب بسطته، رفض ازالتها ودخل في نقاش معهم، ما دفع إحدى الشرطيات إلى صفعه، فدبت في عروقه دماء ميلود نجاح - ولمن لا يعرف ميلود نجاح، فليراجع معلوماته الوطنية، وتوجه إلى مقر ولاية سيدي بوزيد للاحتجاج، فرفضوا استقباله، فما كان من هذا الشاب قوي الشكيمة، عالي الرأس، الرافض لقبول صفعة من احدى وساخات النظام، والرافض لأن يعيش على هامش التاريخ، ما كان منه إلاّ أن أضرم النار في جسده، ليضيء به الطريق لشباب تونس، وشباب الوطن العربي طريق الثورة، ورفض الظلم، والوقوف بوجه من يعتقدون أن انتماءهم لنظام دكتاتوري يعطيهم الحق بانتزاع آخر ما تبقى لنا.. الكرامة.. فعمّت المظاهرات والاحتجاجات بطول وعرض البلاد، في تونس العاصمة وسوسة وصفاقس وقفصة والقصرين والكاف وقابس، ومازالت حتى كتابة هذه السطور. لنتعلم من البوعزيزي الذي أحرق نفسه.. حب الحياة... الحياة التي نستحقها.. بكرامتنا، فإن خدشوها.. فعليهم أن يتلظّوا بنارها... هكذا ودّعنا 2010، وبوجود مثل هؤلاء بيننا، في حارة أو سوق أو حتّى في خيمة، فالأمل موجود، والثورة ليست بعيدة. ' كاتب فلسطيني يقيم في لندن القدس العربي