التفاوض بين الشعبي والوطني لإعادة لم الشمل خبر سار ويستحق الاحتفاء به فهو يمثل إعادة فرز للخنادق ما بين الشعب السوداني من جانب والمؤتمرين من جانب آخر. ولو قدر ألا يحدث هذا الإلتئام بين المؤتمرين فسيخوض الشعبي الانتخابات التي ستقاطعها المعارضة فهو في كل الحالات "يعرض بره الدايرة" شاءت قوى الإجماع الوطني أم أبت ، وحتى لو تم سحب ملف لجنة الإعلام من الأستاذ كمال عمر وشنف الأستاذ محمد ضياء الدين آذاننا بحديثه الشيق عن تماسك قوى الإجماع الوطني فإن الشعبي سيغرد خارج السرب وفقاً لمخطط محكم الحلقات. عودة العراب إلى سربه اشترط لها إبعاد من اعتقد أنهم قد تآمروا عليه من صقور الإنقاذ (علي عثمان/نافع) بعد أن غيب الموت آخرين شقوا عصا الطاعة في وجهه. ولا ننسى هنا الجهود التي تبذلها في هذا الصدد دولة قطر ومن ورائها الشيخ القرضاوي الذي فجع في دياره فسعى حثيثاً للم شمل أبناء جنوب الوادي "المال تلته ولا كتلته" وبالتالي فهي مسألة وقت فقط حتى الإعلان عن "المراجعة" أقصد نقيض المفاصلة. من سخرية الأقدار أن يظل البعض يعبث بمقدرات شعب كامل على مدار نصف قرن دون أن يطرف له جفن. يتنقل كالحرباء ما بين المواقع المختلفة يحالف عدو الأمس ويعادي صديق اليوم مستصحباً فقه الضرورة وفتاوى الكتب الصفراء في حله وترحاله. بعد أن أجهض حلمه في قيادة الحركة الإسلامية العالمية من خلال المؤتمر الشعبي الإسلامي وأيقن أن عليه الرضاء بالقليل "عادت حليمة لعادتها القديمة" وبدأ العراب مرة أخرى لعبة القط والفار مع الشعب السوداني. لا أعتقد أن أحداً كان له أثراً سالباً في تاريخ السودان الحديث بقدر هذا الرجل الذي فرمل تطور شعبنا منذ استقلاله وحتى إشعار آخر. بعد أن صاهر آل البيت تمهيداً لوارثتهم خصوصاً في دارفور و "فرد جنحاتو" حالفهم في جبهة الميثاق ودفعهم إلى طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان فانصاعوا له صاغرين داقين أول مساميرهم في نعش الليبرالية التي تشدقوا بها ردحاً من الزمن ، فكانت مايو وما صاحبها من فرز للمواعين فعاد ليتحالف معهم مرة أخرى في الجبهة الوطنية "أو ما اصطلحت عليه أجهزة مايو بغزو المرتزقة" وبعد أن فشلت القوات التي تحركت من ليبيا في مهمتها وزار الإمام بور تسودان للتفاوض مع النميري سبقه الصهر إلى إبرام المصالحة الوطنية واستوزر هو وشيعته ونهبوا ما شاء الله لهم حتى نصبوا السفاح إماماً للمسلمين وأعلنوا قوانين سبتمبر التي دقت ثاني الأسافين في تاريخ وحدتنا الوطنية. هذه القوانين التي وصفها الإمام بأنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به ومن ثم لم يجرؤ على إلغائها عندما اعتلى صهوة جواد الحكم خوفاً من العراب وشيعته. المهم أن العراب خرج من أوزار مايو كما تخرج الشعرة من العجين وعفا الله عن ما قد سلف وعاد معززاً مكرماً حاصداً (49) مقعداً من مقاعد البرلمان حاصداً لوحده ثمار انتفاضة مارس/ابريل. ومن ثم حالف الإمام ثالثة في حكومة الوفاق الوطني تقية وهو يعد العدة للإطاحة به ، وما أن عزفت المارشات العسكرية حتى تهيأ لإمامة المسلمين لكنه جوبه بتلميذ ماكر استطاع أن يسحب البساط من تحت قدميه. وها هو الآن يستعد مرة أخرى في نهايات عقده الثمانين ليبيع لنا "الهواء معبأ في قزايز" وما فترت همته ولا تزعزع حلمه. وإن كان قد نسب إلى المرحوم د. عمر نور الدائم قوله "البلد بلدنا ونحن إسيادها" فإني أظنه قد قصد آل البيت وأصهارهم فهي دولة تدول بينهم إلى أن يأذن الله في أمرنا وإن غلبهم الأمر يسلمونها العساكر كما فعلوا في 1958 و "الما عاجبو يشرب من البحر" أو ليصمت كما صمت السيد في منفاه الاختياري ما بين لندن والقاهرة. والأدهى والأمر هو أمر نعامة قوى الإجماع الوطني التي دفنت رأسها في قيزان العتمور ولازالت عنزها تناطح صخر التاريخ. انجرت هذه القوى جميعها بما فيها الشيوعي إلى برلمانات الإنقاذ يداعبها "حلم زلوط" في "هبوط ناعم" لأزمة نظام الحكم في السودان. لا زالت هذه القوى تعول على العراب والإمام بعد أن تمكن الرجلان من تشكيل العقول الباطنة لمعظم أبناء جيلهما فأصبحوا لا يرون منهما فكاكاً (ما قلت ليكم البلد بلدهم وهم أسيادها). فإلى متى هذا الرضوخ غير المبرر لقوى عفا عليها الزمن وستثبت الأيام ذلك متى كانت هنالك انتخابات حرة نزيهة. ثالث الأضلاع الحركات المسلحة جلست إلى مائدة التفاوض مع الحكومة في تجربة نأمل ألا تكون اجتراراً لنيفاشا. سعدت بخبر أن الحركة الشعبية طلبت حضور ممثلين للقوى السياسية الأخرى وكنت أرى أن مشاركتهم ستكون بروفة جيدة للمؤتمر الدستوري وربما تقود لمخرج مستدام من هذه الأزمة المستفحلة ولا أدري إن كانت هذه المشاركة قائمة بصفتها الحزبية أم لا إلا أن خارطة طريق التفاوض التي طرحتها الحركة الشعبية تبدو واعدة وتمثل مدخلاً جاداً لحلحلة القضايا العالقة وتجنيب البلاد التشظي. إذا كان المؤتمر الوطني جاداً في الوصول إلى حل فإني اعتقد أن هذه آخر الفرص وأنسبها لحل مشكلة دارفور والنيل الأزرق وكردفان مجتمعة وعليه الموافقة على إشراك القوى السياسية الأخرى في أي اتفاق يتم التوصل إليه لضمان قوميته وعدم تنكر أي طرف له مستقبلاً فلقد أثبتت التجربة أن الحلول الثنائية والجزئية تعيدنا بعد برهة إلى المربع الأول فكم من اتفاق هلل لها الوطني وكبر ولم يصبح عليها الصبح إلا وهو قيد النسيان. نناشد الطرفين بإخلاص النوايا لإخراج البلاد من هذه الوهدة ووقف نزيف الدم الذي استنزف طاقات شعبنا والعمل على إشراك كافة القوى السياسية في العملية التفاوضية والتحلي ولو لمرة واحدة بحس المسئولية الوطنية الرحب بدلاً عن الطائفية والحزبية الضيقة فالقضية تمس الأمة السودانية بكاملها وتعني لنا أن نكون أو لا نكون. [email protected]