ما تشهده الآن العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، من رواج في بورصة المفاوضات بين أطراف سودانية مختلفة، لن يحرك ساكنا في مجال السلام. ميدل ايست أونلاين بقلم: محمد أبو الفضل يبدو أن السودان يصر على أن يكون البلد الوحيد في العالم، الذي يضرب الرقم القياسي، في الحروب والمفاوضات، دون أن تحقق لا هذه أو تلك، نتيجة حاسمة. ففي الوقت الذي تتواصل فيه الحرب بين القوات الحكومية وقوات المتمردين في دارفور، تجري مفاوضات بين ممثلين عن الجانبين في أديس أبابا. كما أن القتال المتصاعد في جنوب كردفان والنيل الأزرق، لم يمنع وفد الحكومة أن يجلس مع وفد الحركة الشعبية-قطاع الشمال، في أديس أبابا أيضا، خلال الأيام الماضية. كما أن التباين بين قوى الإجماع الوطني في الشمال، لم يمنعها من البحث عن قواسم مشتركة مع الجبهة الثورية، المكونة من حركة العدل والمساواة، وحركتي تحرير السودان، جناح مني أركو ميناوي، وجناح عبدالواحد نور، ناهيك عن الحركة الشعبية، لمواجهة النظام السوداني، والأخير لم يتردد عن تمديد خيوط التفاوض مع الجبهة الثورية، التي وقعت اتفاقا في أغسطس – آب الماضي، مع حزب الأمة القومي، بزعامة الصادق المهدي، الذي ترضى عنه الحكومة أحيانا، وتغضب منه غالبا، لأنه يناورها ويفاوضها ويعارضها. طاحونة الحرب والمفاوضات، لم تتوقف لحظة على مدار تاريخ السودان الحديث، وكانت تتجلى صورها على مدار أكثر من نصف قرن، بين الشمال والجنوب، وحتى عندما حصل الأخير على الانفصال رسميا عام 2011، لم تتوقف هذه القاعدة في البلدين، فبعد عامين من حصول الجنوب على الاستقلال، اشتعلت الحرب الحرب الأهلية، بين فريق الرئيس الحالي سيلفا كير، ونائبه السابق رياك مشار، ولا يزال الفريقان يتقاتلان ويتفاوضان في آن واحد، وفشلت جميع الجهود الإقليمية والدولية، في وضع حد للحرب بينهما، وارتضيا السير على نهج الشمال. الغريب أن هذه العدوى، أصبحت حاكما رئيسيا، في العلاقة بين دولتي شمال السودان وجنوب السودان، فالخرطوم تتفاوض مع جوبا، وكل منهما يضع يده على الزناد، وقد شهدت السنوات التالية لاتفاق نيفاشا للسلام عام 2005، المزيد من المحادثات، والمزيد من الاقتتال، ولم تهدأ وتيرة أي منهما، إلا مع انشغال حكومة الجنوب في حروبها ومحادثاتها مع المعارضين للرئيس، وانخراط الشمال في حروبه ومحادثاته، مع متمردين آخرين في الغرب والجنوب. الحرص على استخدام الأداتين في وقت واحد، سواء في دولة الشمال أو الجنوب، يعني أن هناك توازنا دقيقا في القوى العسكرية، وأن أي طرف لن يستطيع حسم معركته مع الطرف الآخر، عبر أسلوب الكفاح المسلح، كما أن القبول بالدخول في مفاوضات هنا ومحادثات هناك، معناه أن ثمة رغبة عارمة في استمرار العملية السياسية في حد ذاتها، حتى يتسنى قطع الطريق على محاولات التدخلات الخارجية، ومنع فرض حلول يمكن أن تكون غير مرضية، لأي من المتفاوضين. يبدو أن المخرج المناسب في التمسك بالجلوس على طاولة المحادثات، يرمي أيضا إلى تحاشي التعرض لعقوبات. فالامتناع عن المشاركة في العملية السياسية، قد يعني رفضا مباشرا لها، وهو ما يحرج بعض القوى، وتجد فيه ذريعة لتصويب سهامها على الطرف الممانع. جميعنا يعرف في أدبيات الحروب، حالة اللاحرب واللاسلم، أي الاستنفار مع الاحتفاظ بدرجة من ضبط النفس تؤدي للهدوء، لكن ربما لأول مرة يقدم لنا بلد مثل السودان، حالة جديدة بعنوان "الحرب والسلم في آن واحد"، ولأن السودان بلد فريد في جغرافيته وتركيبته السكانية والاجتماعية والدينية، لابد أن يكون فريدا في حالته المزاجية، فشعبه يحارب وهو يبتسم، ويتفاوض وهو مكفهر، ومعروف عندما يلتقي سودانيان مختلفان فكريا وسياسيا تبدو علامات البشاشة ظاهرة على وجه كلاهما، وكأن سلاما قد حل بينهما أو على وشك، وعندما يجلسا على مائدة واحدة للتفاوض، تختفي الابتسامة وتظهر الشراسة على وجه كليهما. الحقيقة أن طبيعة مشكلات السودان المعقدة، تحمل جانبا رئيسيا من أسباب هذه الإزدواجية، فالتداخل الشديد، كان دافعا أساسيا لصعوبة التوصل بسرعة إلى طريق أو معلم واضح تمشي على هديه القوى المتصارعة، وكثافتها لعبت دورا مهما في زيادة نسبة الغموض حول آلة الحسم المطلوبة، سلما أو حربا، ولن ترضخ الأطراف المتخاصمة إلا عندما تستنزف أو تنهك. الحاصل أن ما يعرف بتوازن الضعف، ساهم في التمسك بصفتى الحرب والسلم معا، كما ضاعفت التدخلات الخارجية، المباشرة وغير المباشرة، في ارتفاع معدل هذه الصفة التي لازمت غالبية القوى السودانية. فالرهانات الدولية والامتدادات الإقليمية، يمكن، في أي لحظة، تقلب الطاولة رأسا على عقب، من الحرب إلى السلام، والعكس، وبالتالي يظل التمسك بخيوط هذه الطاحونة، أو ما يعرف بسياسة الأداتين، واحدا من المحددات الرئيسية على الساحة السودانية. في تقديري، أن ما تشهده الآن العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، من رواج في بورصة المفاوضات بين أطراف سودانية مختلفة، لن يحرك ساكنا في مجال السلام، فطالما آلة الحرب مستمرة على الناحية الأخرى، فهذا يشي أن ما يجري غرضه فقط استهلاك الوقت، وإعادة ترتيب الأوراق، كما أن الشكوك وفقدان الثقة لا يصنعان سلاما. فضلا عن عجز الآلية الأفريقية، المشرفة على الوساطة، عن تحريك المياه الراكدة للأمام، ورضاها على ما تحققه من شرف جلوس الأطراف المتصارعة على مائدة واحدة، بغض النظر عن النتيجة النهائية، وبعيدا عما يدور في ساحات القتال، فالمهم لديها أن يسمع العالم ضجيج المحادثات، كما يسمع قعقعة السلاح.