أطفال الروضة يحملون فرحتهم بالوطن علماً.. يهتفون بالنشيد حين يضعون أقدامهم الصغيرة في بوابة البيت الكبير بأم درمان.. بيت الزعيم الأزهري كان مسرحاً للاحتفالية التي أقيمت آخر أيام 2014. علمان لعيد واحد ورايتان لذات الوطن، هكذا كان المشهد مرسوماً في الشوارع الأم درمانية، هو مشهد يمكن ملاحظته في مدن أخرى من السودان.. ثمة رايتان تتقاسمان الانتماء في البلاد التي حققت استقلالها في الفاتح من يناير في العام 1956. أعلام متعددة بدت علاقات السودانيين بالأعلام مع بداية الثورة المهدية، قام زعيمها محمد أحمد المهدي بتعيين عبد الله التعايشي كأحد خلفائه الأربعة وسلمه علماً أسود. حيث قام عبد الله التعايشي بتجنيد عرب البقارة وقبائل أخرى من الغرب تحت العلم الأسود الذي كان يطلق عليه اسم الراية الزرقاء، وأما الخلفاء الآخرون فاستعملوا ألوانا أخرى هي اللون الأخضر أو الراية الخضراء للخليفة علي ود حلو وضمت قبائل منطقة النيل الأبيض، والراية الحمراء للخليفة شريف وانضوى تحتها أقارب المهدي وكافة أبناء النيل. وهناك علم رابع لونه أبيض فقد تم تخصيصه للسنوسي في ليبيا. ويلاحظ أن هذه الرايات الأربع بألوانها المختلفة أشبه برايات النبي محمد (صلى الله عليع وسلم). وعلى أية حال، فإن اللون الأسود في أسفل العلم السوداني الحالي يشير إلى راية المهدية السوداء والتي كانت أهم الرايات الأربع. وفي الفترة من العام 1899 وحتى العام 1956 كانت الأعلام المرفوعة في السودان هما العلمان البريطاني والمصري مع أولوية لعلم المملكة المتحدة على حساب المصري ليدشن مؤتمر (باندونق) ما عرف ب(العلم المنديل) حين رفض الزعيم إسماعيل الأزهري الجلوس تحت العلم المصري وكتب عبارة (السودان) ووضعها أمامه كممثل للدولة في خمسينات القرن الماضي، ليأتي علم الاستقلال ويضع الجميع أمام معادلة الراية المتفق حولها والتي تعلو ولا يعلى عليها. علم الاتحاديين عقب الاتفاق على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في العام 1955 وبدء عمليات الانتقال نحو الدولة كاملة السيادة تتطلب الأمر وجود راية تمثل السودانيين ترفع فوق سارية القصر وعلى السفارات وفي الأممالمتحدة ولم تستغرق عملية الاتفاق عليها زمن؛ ففي جلسة إجرائية في البرلمان تم الاتفاق على التصميم المرسل من قبل السيدة السريرة مكي، وهو تصميم يحمل في داخله ثلاثة ألوان هي الأزرق والأصفر والأخضر.. حيادية الألوان وتعبيراتها عن المكون السوداني دفعت للاتفاق حولها بين الحكومة والمعارضة فالنيل والصحراء والأراضي الخضراء الشاسعة كانت هي التعبيرات التي حملتها راية الاستقلال السوداني التي ارتفعت على سارية القصر الجمهوري في الأول من يناير وظلت هي المعبر عن الانتماء السوداني حتى العام 1970. عشرة جنيهات وراية جديدة لم يكن نميري ليقف في محطة تغيير اسم القوات المسلحة إلى قوات الشعب المسلحة، بل ذهب في تغييراته إلى تبديل الراية لأخرى جديدة، فمايو الثورة لا تكتمل إلا بوجود راية جديدة وهذا ما حدث حين تقدم مجموعة من الفنانين والتشكيليين والوزراء بمقترحات للعلم الجديد ليفوز في الآخر التصميم المقدم من الدكتور عبد الرحمن أحمد الجعلي ويتكون نموذج الجعلي من ثلاثة مستطيلات، أعلاها أحمر اللون، يليه مستطيل أبيض اللون وثالث لونه أسود. ويتساوى المستطيلان الأول والثالث في طولهما. وأما المستطيل الوسط الأبيض اللون، فهو أقصر بُعداً، لأن هناك مثلث أخضر يتلاقى ضلعاه الأعلى والأسفل في نقطة تتوسط نهاية الثلث الأول للمستطيل الأبيض. وأما الضلع الثالث للمثلث والذي يشكل قاعدة المثلث فهو ضلع قائم ويتوازى مع خط السارية وتم رفع الراية الجديدة في العشرين من مايو للعام 1970 تزامنا مع احتفالات العيد الأول لثورة مايو. حالة تنازع منذ أن تم رفع الراية الجديدة في سارية القصر وفوق السفارات بدت حالة من الشد والجذب حول العلم، فالاتحاديون ما زالوا يتمسكون برايتهم القديمة باعتبارها الراية التي شكلت نقطة التحول من الاستعمار إلى رحاب الحرية والانعتاق، بل إنهم لا يتوقفون عند حد نقد تغييرها وإنما يربطون هذا الأمر بمحاولات الانتصار على هوية مقابل أخرى، فالأشقاء يرون في الراية التي رفعها النظام المايوي تعبيرا عن حالة الربط بين السودان والمنظومة العربية وهو ما يمثل انتصار طرف على آخر في واقع (هوية) لم تحسم بعد، لذلك يقول الشاب عزالدين جعفر وهو اتحادي بأنه لا يعترف بأية راية أو علم سوداني غير العلم الذي رفعه الرواد الأوائل.. عز الدين ليس وحده فهناك مناصرون آخرون، فقد اعتاد الشباب في رابطة الطلاب الاتحاديين الديمقراطيين بمختلف منظوماتهم أن يرفعوا الراية القديمة تلك التي تتزامن ولحظة الاستقلال، فهم يغنون الوطن تحت راية (إسماعين).. الأمر يتجاوز حالة التمرد الشبابي فما تزال دار الزعيم في أم درمان ترفع الراية القديمة تشاركها في ذلك دور أخرى تدين بالانتماء لحزب الأشقاء. بينما في دار الغريم التقليدي حزب الأمة يمكن ملاحظة ارتفاع راية بألوان أخرى تتوسطها حربة، تؤكد أن في هذه البلاد كلٌ يرفع رايته في عيدها الستين.. عليها أن تنتظر من يرفع راية الانتماء لها والاتفاق عليها فقط. في العام 1976 تمت إجازة قانون تم تسميته بقانون العلم السوداني، وتم تعديل القانون في العام 1993، فالقانون يحظر إتلاف العلم أو إهانته في أي مكان عام بقصد إثارة الكراهية ضد سلطة الدولة، وفي حالة حدوث ذلك تصل العقوبة إلى السجن مدة لا تزيد عن سنة أو الغرامة أو العقوبتين معا.. القانون يفتح الباب لسؤال يتعلق هذه المرة بتعدد الأعلام.. وهل يمثل حالة إتلاف للانتماء الجمعي أم لا.؟ اليوم التالي