اختصصنا باسم السودان كرقعة جغرافية وشعب «اثنوس» يتميز عن البيض وعن غيره من سود السودان بسمرته الحبشية داخل القارة الإفريقية. ونحن بدورنا وعلى قدر وعينا بتاريخنا تقبلنا اسم السودان كإسم ذاتي «اثنونيما» بمنطق علوم الشعوب الحديثة على خلفية أن لكل اثنوس أو شعب سمة جليلة وأكيدة يتدافع نحو حمايتها والاعتزاز بها. ذلك لأن تحديد هوية الشعوب والقبائل تسهل لنا التعارف والاعتراف، كما جاء في القرآن الكريم: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) ومن ثم توفر لنا دوافع الالتفاف حولها، لأننا ضمنياً نحس أنها المرجعية لحال نرتضيه تماماً كدستور يتوافر فيه أكبر قدر من توافق الآراء حول تعريفنا لذاتنا ولهويتنا ولمستقبل أجيالنا، ومن وراء التفاتنا إلى الخارج نتأكد من تعريف الآخرين لنا وبالتالي التعريف بذاتنا، تعريف نرى فيه أنه يحترم هويتنا القومية ويعزز من ثقتنا بأنفسنا، ومن ثم نطمئن إلى قبول مناداتنا باسم بهذا الخصوص. والسودان كشعب أو اثنوس أو مجموعة تكونت تاريخياً من عناصر عرقية تتمتع بخصائص ثابتة نسبياً تسري في أعراقهم وثقافتهم وتاريخهم، وما أمكن لغاتهم وتركيبتهم النفسية وإدراكهم لصفاتهم التي تميزهم عن التشكيلات البشرية الأخرى المماثلة. ولتوفر أسباب عظيمة منها الأرض قوية الربط بين الأعراق وبين ثقافات متجذرة في تاريخ مجيد ظلت متواصلة نزولاً إلى الحاضر عبر الحقب. والتى سرت كأنماط سلوك وأفكار ممارسة عبر التاريخ لعدة أجيال تتحد في الصفات المادية والروحية. ذلك لأنها ترسخت في وعي أفرادها بجملة خصائص سلالية تبقى حتى عند انتقال مجموعة من أناس من هذا الشعب أو ذاك. كافتخارنا بسودانيتنا خارج السودان الوطن. ليس ارتباطنا عاطفياً «نحن أجيال 1/1» بعلم الاستقلال وحده الذي يدعونا إلى إعادته، بل هو قبل ذلك. فتاريخنا وطبيعة البذرة التي كونت أعراقنا تؤكد، بل يجب أن تؤكد أننا شعب لم نتخذ العروبة وجهة لنا، ولم نولِ ظهرنا إلى الإفريقانية فلنا تربة نشأنا فيها ولنا في التاريخ أمثلة تبدو كبذرة أصيلة في إعلام الدولة السودانية منذ تاريخ بعيد، فحينما أنشأ الفونج سلطنتهم الزرقاء كان التقاء العنصرين العربي عبد الله جماع والإفريقي عمارة دنقس مقياساً طبيعياً لهوية توحدت أواصرها في إفريقيا، وإذا صبرنا على تأويل الأسماء الطبيعية في أرض النيلين سنتساءل مَنْ أطلق اسميهما الأبيض والأزق ولماذا؟ هل يشير ذلك إلى نفس معنى التقاء العنصرين الأسود والأبيض وفي اندماجهما لون النيل الأسمر؟ لوننا. قال عون الشريف في كتابه (اللهجات العامية في السودان/ حرف النون): «ويقولون البحر منيِل أي مرتفع ولونه أقرب إلى السواد والزرقة». ثم في أيام الدولة المهدية حينما ميَّز خليفة الإمام المهدي عبد الله التعايشي وحدات جيشه، شحذ جيشه بأسلحة معنوية أصيلة فيهم اعتزازهم بأرضهم فتصدوا للمستعمر من مختلف أجزاء السودان بألوانهم وقناعاتهم فاختار الراية الخضراء لقبائل النيل الأبيض، والراية الزرقاء«السوداء» لقبائل كردفان ودار فور الذين وصل عددهم كما يذكر الرائد حسن زلفو « كرري ص: 288» إلى اثنين وخمسين قبيلة وفرع قبيلة والراية الحمراء لقبائل شمال السودان، أما الشرق فقد ذكر تشرشل في كتابه «حرب النهر/ ص 311 » أن عثمان دقنة كان وحده راية لافتاً بذلك إلى ألوان قبائل الشرق التي ارتضت أن تنضم إلى الركب، وهنالك رايات بيضاء لأثنيات أخرى كما ذكر تشرشل تزيد عن عشر رايات. ثم أن ثورة اللواء الأبيض كان عَلَمها ذو اللون الأبيض رمزاً للسلام. أليست هذه هي ألوان علم السودان الذي نبحث عنه؟ لوننا نحن. لقد شكلت تلك الألوان أنموذجاً لمعنى الوحدة في التنوع في كل نظم الحكم في تاريخ السودان تجمعت في رحاب وطن واحد يسع الجميع ضد مستعمر غاصب كل خير فيه، لتؤكد أن المواطنة هي الأصل وحق يحميه. وأثر ذلك مستمر لم ينقطع، الحزبان الكبيران رفعا العلم وأجازه البرلمان في إجماع لا نظير له، وتم ذلك في البداية بيسر لقناعات السودانيين بوصفهم شعباً وأمة لها تاريخها وهويتها، وكان لتلك القيادات الدور الأساس للتصور الأمثل للعَلم الذي ارتضوه رمزًًا لسيادتنا. لكن يبدو أن هنالك صراعات في الرأي نشأت بين الحزبين في نسبة قسمة العلم، ويصبح علم الاستقلال كأنه علم الوطني الاتحادي، فما كان من الإمام عبد الرحمن المهدي إلا أن يضيف رمزي الهلال والحربة إلى علم الاستقلال، ليصبح بذلك علماًً لحزب الأمة، وفقد علم الاستقلال موقعه الأول لنرث نحن فيما بعد جرثومة الانقسامات، انظروا لحالنا اليوم كم عدد أحزابنا، ولكلٍ منها تصور للعلم على برامجها للحكم إن لم يكن موجوداً فعلاً. الآن علينا أن نعلم بضرورة الاتفاق أولاً على دستور للأمة ثم التفكير في أن نبقي على علم الاستقلال أو علم النميري أم كلاهما لا يصلحان! إن في تقديرنا أن الأسلم هو أن نطرح التصور النظري لتصميم علم بمواصفات يرتضيها الجميع، ويحسون أنها تعبر عن ذاتهم وأنها تصفهم وحدهم دون غيرهم. تُشع بمعاني تعبر عن ثقافة وتاريخ ومستقبل وأرض يزين فيها نسيجه بعناصر مادية وقيم جليلة لها موقع التقديس في نفوس كل السودانيين. إن تجربة تصميم العلم في نظام مايو كانت كتجارب سابقة في تصميم الأعلام، حيث اعتمد في تفسير عناصره اللونية على التاريخ فقط، ولم يضع حساباً للمستقبل، فلا يوجد ما يرمز إلى ذلك من لون أو شكل مع تقديرنا الكبير لمصمم العلم. وهو صورة تعكس غياب الرأي الآخر وتفتقر إلى إجماع الشعب مما أدى إلى عدم التجاوب معه، ولعلي أقارن هنا بين ما قاله الشعراء في علم الاستقلال وبين الصمت الذي قوبل به علم النميري، صمت استمر حتى الآن في عهد الإنقاذ والذي ربما يعود إلى نفس الأسباب، عدم وجود دستور للبلاد متفق عليه. فعلم النميري تم تصميمه على خلفية آراء تلهث وراء وعود المعسكرات يساراً ويميناً التي نصبتها على تخوم العالم الثالث عقب نيله الاستقلال ثم إلى جامعة الدول العربية ليتها كانت برابطة الدين واللغة أو التاريخ كانت بدعوى رابطة العروبة، فتبنينا شعارهم المنطوق الذي كان المرجعية لألوان أعلام الدول العربية. قال صفي الدين الحلي يفاخر بمعارك قومه: بيض صنائعنا خضر مرابعنا ٭ سود مواقعنا حمر مواضينا. ونحن بدورنا تبنيناه بُعيد نيلنا استقلالنا، ولعلنا كنا نبحث عن اعتراف بنا ونحن في فورة الانتصار، وذهبنا بلوننا الأسمر ليزكي رغبتنا في الانضمام إلى جامعة الدول العربية، فوجدنا اعتراضاً من إحداها باعتبار أننا لسنا عرباً وكم مرة سمعناه بعد ذلك وذكرنا الأفارقة بعدم نقاء عروبتنا. صحيح أن العربية ليست بأب لنا أو أم على حد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لغتنا ونزل بها قرآننا، ونحن مزيج من أعراق عدة كلها نبتت في هذه الأرض الواسعة السودان. إذن علينا أن نرفع علماً يميزنا كما أسلفت. وطرح فكرة إعادة علم الاستقلال يجب أن تكون ضمن خيارات أخرى تمليها أولاً: تطورات مرحلية تسود العالم كله على ظلٍ وريفٍ يطفئ لهيب الصراعات الجهوية ويوقف نتف الريش العربي أو الإفريقي. وثانياً: إن علم استقلالنا بكل تفاصيله هو الآن علم دولة الجابون فلن يعود علماً لدولتنا، بغض النظر عن الاختلاف في دلالات ألوانه؟ والذي نخشاه أكثر هو أن تصاب بصائرنا ونحن تحت تأثير غبار الخلافات السياسية والجهوية بعقدة الأيقونية Iconoclasm - إزالة الصور لأسباب دينية أو سياسية كما حدث في تاريخ كثير من الثورات. هذه الفكرة طرحت ضمن مناقشات لجنة كونها الأستاذ التوم محمد التوم وزير الثقافة بعد الانتفاضة، كانت للتفاكر حول تصميم علم جديد كان يدفعنا لموافقته على إعادة علم الاستقلال. ملحوظة: مع إضافة بعض التعديلات فإن أصل هذا المقال كتب بتاريخ 15/يناير/ عام 2003م رداً على مقال كتبه الأستاذ عبد الله آدم خاطر بعنوان «في سبيل البحث عن علم سوداني» والذي نشر بجريدة الأيام في العدد «1940» بتاريخ 7/يناير/ 2003م. ولسبب ما لم ينشر مقالي هذا.