عمان يعود كريم إلى بيته وحيدا مباشرة بعد تشييع والده. البيت واسع وفارغ إلا من الأم «جميلة» التي تجلس في الصالة المظلمة تحتسي النبيذ، وتراقب فيلما وثائقيا قديما عن الزعيم السوفييتي ستالين، وهو يلقي خطابا تعبويا ضد العدوان النازي على روسيا بما يؤشر إلى ماضيها السياسي الشيوعي. ترفض الأم استقبال النساء اللواتي جئن لتعزيتها، أما الابن كريم فيتركها لوحدتها ليلتقي عشيقته الشابة». هكذا يبدأ الفيلم التونسي الحديث «حرة» للمخرج معز كمون، الذي عُرض في العاصمة الأردنية عمان خلال أسبوع الفيلم التونسي، الذي أقيم بالتعاون مع مؤسسة عبد الحميد شومان ووزارة الثقافة التونسية. في فيلمه الأخير الذي امتد لخمسة وتسعين دقيقة، يعرض المخرج كمون واحدة من القضايا الاجتماعية المسكوت عنها في المجتمع التونسي «العنف المنزلي المرتبط بالبرود الجنسي»، بعد عدة أفلام تناولت قضايا حساسة مثل، الزواج العرفي في فيلمه الأول «كلمة رجال» عام 2006 وهو شريط مقتبس من رواية «بروموسبور» للروائي التونسي حسن بن عثمان، الذي شارك به في افتتاح المهرجان العالمي في الدنمارك. وقضية العذرية ونظرة المجتمعات الذكورية لها في فيلمه الثاني «آخر ديسمبر»، الذي تميز في العديد من المسابقات الرسمية، وحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل ممثلة في المهرجان العالمي في القاهرة، والجائزة الثانية في المهرجان العالمي في جنيف للأفلام المشرقية، والجائزة الفضية في مهرجان مسقط. في «حرة» جمع كمون بين العديد من الشخصيات المتداخلة في علاقاتها، وعرض لواقع الخيانة من أقرب الناس، في سيناريو طغى عليه الحوار المقتضب، والكلام القليل والانفعالات المتشابهة. كما قدم عنصر الهدوء على وجوه الأبطال بطريقة جمالية ساحرة، مستندا في ذلك إلى مهارة عالية في التأطير والتقطيع والتركيب، فأتت الصورة والحركة متناسقتان مع الزمان والمكان والألوان والصوت، هذا علاوة على التوزيع المحكم بين اللقطات القريبة واللقطات المكبرة، التي تركز على الوجه وأدق تفاصيل الحركة، لإبراز أهمية وعمق الحدث الدرامي الذي يريد إيصاله للمشاهد. الفيلم الذي تم اختياره سنة 2014 في مهرجان البحر الأبيض المتوسط «سينيلاما» في فرنسا، من بطولة فاطمة ناصر، أحمد القاسمي، سامية رحيم وجمال ساسي، يروي قصة حياة الشخصية الرئيسية في الفيلم «علياء» التي تعيش مع طفلها وزوجها الذي يعوّض عن عجزه معها بمعاملتها بقسوة تصل حد الضرب المبرح. لذلك تحرص علياء على أن تمارس أختها الصغرى إحدى الرياضات الدفاعية (الكونغ فو)، وأن تكون فيها غالبة لا مغلوبة، وفي ذلك إحالة لحالها المعنفة دائما من زوجها، التي تريد الثأر لكرامتها المهدورة، من خلال شقيقتها القادرة على الدفاع عن نفسها. وهناك أيضا مالك محطة البنزين والمقهى الملحق به وابنته الشابة عشيقة كريم قبل أن يتخلى عنها ليرتبط بعليا التي أحبها. بعد ان تكتشف علياء ان الجميع اصبح يعلم عن خيانتها لزوجها مع كريم، تقرر أن تترك بيت الزوجية وتهرب بابنتها، معلنة أنها لن تعود إليه ثانية، لتكون هذه اللقطة الأخيرة من «حرة». يمتاز فيلم كمون الجديد بحرفيته العالية في اختيار المشاهد والزوايا، سواء في اللقطات أو المشاهد، علاوة على المؤثرات الصوتية والإضاءة التي أتت في غالبيتها خافتة باردة، تعكس برودة العلاقات بين الشخصيات مجتمعة. كما يمكن اعتبار الصورة عملا تشكيليا متقنا، حيث مثلت حركة الكاميرا وزواياها ومسافاتها وطريقة تقطيعها ثم تركيبها نصا لغويا محكم البناء. وكان كمون قد عبر في مؤتمر صحافي عن استيائه الشديد حيال عدم عرض الفيلم في أيام قرطاج السينمائية، الذي أقيم في آذار/مارس الماضي، موضحا أن لجنة اختيار الأفلام كان لها توجه معين، مقرا بأن المشاهد التونسي بصدد البحث عن المواضيع غير المثيرة وأنه ما يزال يواجه مشكلة مع الصورة. يذكر أن معز كمون درس السينما في فرنسا، ليتوجه إثرها للعمل في الحقل السينمائي كمساعد مخرج مع العديد من المخرجين التونسيين، أمثال النوري بوزيد وسلمى بكار وفريد بوغدير. كما اشتغل مع العديد من المخرجين الأجانب كعبد الرحمن سيساكو، وفلورا غوماز، وأنطوني منغلا في «الجريح الأنكليزي»، وجورج لوكاس في «حرب النجوم» الرابع والخامس. آية الخوالدة القدس العربي