قليلة هي الأعمال الأدبية التي دون فيها مؤلفوها مراحل ولادتها، والمخاضات التي مرت بها، والهواجس والأفكار التي رافقت أطوار كتابة العمل حتى اتخذ صورته الأخيرة، قبل أن يصبح بين يدي القارئ، ويتحرر من سلطة الكاتب عليه. هذه المعرفة تزداد أهمية وقيمة عندما يكون العمل واحدا من الأعمال الأدبية التي شكلت علامات بارزة في مسيرة الأدب العالمي، سواء من حيث قيمتها الفكرية أو أهميتها الأدبية. العرب مفيد نجم كامو ينحاز في فلسفته إلى الحياة، ويؤمن بالإنسان المتمرد ألبير كامو في دفاتره التي ترجمتها نجوى بركات، وصدرت مؤخرا عن مشروع كلمة بأبوظبي بالتعاون مع دار الآداب، يضيء على جانب غائب من العملية الإبداعية، مبينا للقارئ المراحل التي مرت فيها عملية إنجاز أعماله الروائية والمسرحية، وما رافق ذلك من أفكار وتحولات وحوارات مع شخصيات رواياته كالغريب والطاعون والرجل المتمرد وغيرها، ما يتيح للقارئ والباحث معا فرصة اكتشاف كيفية تشكل هذه الأعمال الكبيرة والتعرف على الدوافع الواعية وغير الواعية التي تحكم العملية الإبداعية وتمنحها هذه الدرجة من العمق والجمال في تعبيرها عن قضايا الحياة والإنسان والوجود والجمال. مفاتيح وتحولات تتوزع دفاتر كامو على ثلاثة دفاتر حمل الأول منها عنوان لعبة الأوراق والنور، وحمل الدفتر الثاني عنوان ذهب أزرق، والثالث عنوان عشب الأيام. تتخذ هذه الدفاتر من اليوميات إطارا لتدوين وقائع تجربته مع كتابة أعماله وتحولاتها التي تبدأ من مايو 1935 وتنتهي في 20 مارس من عام 1941 في الجزء الأول، ليستكملها في الجزء الثاني بدءا من يناير 1942 وينهيها في سبتمبر1945، بينما يبدأ الجزء الثالث والأخير من مارس 1951 وينتهي في ديسمبر 1959. في تقديمها للكتاب تتحدث الروائية بركات عن أهمية هذه الدفاتر الثلاثة، من حيث كونها تشكل خارطة عملاقة لمحطات أساسية، في رحلة استكشاف لجغرافيا الكتابة عند كامو في جميع أعماله الروائية والمسرحية والبحثية، وما تولد على هامشها من شكوك ومخاضات وأفكار أو دونه من ملاحظات بصورة تجعل القارئ يصغي لصوت كامو الداخلي، وأصوات شخصيات أعماله عند ولادتها قبل أن تتخذ ملامحها الأخيرة. يتضمن الجزء الأول الذي كتبه كامو بين أعوام 1935-1942 مجمل الأفكار الرئيسية التي رافقت ولادة أعماله بدءا من الوجه والقفا وحتى رواية الغريب مرورا برواية أسطورة سيزيف. ولكي يستطيع القارئ فهم ما يسجله كامو من أفكار وملاحظات وضع الناشر الفرنسي في مقدمة الكتاب بطاقة تتضمن أهم المحطات الأساسية في سيرته الذاتية، وما قدمه من أعمال خلال هذه الفترة الزمنية مثل رواية الموت السعيد وأعراس والصيف والغريب وأسطورة سيزيف ومسرحية كاليغولا، إضافة إلى منتخبات من تلك الأعمال مع تعليقات من الكاتب عليها. تكشف هذه الدفاتر وما تحتويه من ملاحظات وأفكار عن العلاقة بين الكتابة والحياة بصورة تجعل منها مرآة لرؤاه وأفكاره حول الحياة والوجود والإنسان، ويجعل شخصيات الروايات التي اشتهرت تتضمن قدرا واضحا من شخصية الكاتب وأفكاره وتجربته التي عاشها، إلى جانب ما تقدمه من صورة واسعة عن تصوراته حول الكتابة وأفكاره الفلسفية عن العبث والموت والتمرد والتقبل الساخر للوجود. وعلى خلاف رؤى بروست الباحثة عن الزمن الضائع وتمجيده تكشف كتابات كامو، ولا سيما في روايته الغريب عن الإيمان بالمستقبل. تتجلى أفكار الكاتب الوجودية وفلسفته في هذه الدفاتر بقدر ما تتجلى في أعماله الروائية، بل هي هنا تشكل المهاد والخلفية التي انبنت على أساسها تلك التجارب والشخصيات، التي عبرت عنها، خاصة وأن الفلسفة الوجودية التي يعدّ ألبير كامو أحد رموزها لم تحاول أن تقدم إطارا نظريا لها، بل اكتفت بالتعبير عن أفكارها من خلال الأعمال الأدبية التي قدّمها ممثلو هذه الفلسفة، المعبرة عن يأس الإنسان وشعوره بالعبث بعد الكوارث المهولة التي نجمت عن الحرب العالمية الثانية والحضارة الغربية. رغم ذلك ظل كامو ينحاز في فلسفته إلى الحياة، ويؤمن بالإنسان المتمرّد على شرطه الوجودي كما يعبر عن ذلك بطل روايته الوجه والقفا "من أنا؟ وما الذي يمكنني فعله سوى الدخول في لعبة الأوراق والنور؟ أن أكون شعاع الشمس هذا حيث تحترق سيجارتي، تلك الرقة وذاك الشغف الكتوم الذي يتنفس في الهواء. إذا ما حاولت بلوغ ذاتي فسيكون في عمق ذلك النور". وفي فبراير عام 1938 يكتب كامو بأن الموضوع الوحيد الأزلي للفن والدين هو الروح الثورية التي تكمن في اعتراض الإنسان على شرطه الوجودي. قضايا الحياة الجزء الأخير من هذا الدفتر يظهر فيه انشغال كامو بعملين أدبيين، الأول هو عمل مسرحي، والثاني هو رواية الطاعون أو المغامرة، ما يدل على عدم استقراره على اختيار العنوان الأخير لها، حيث يدون بعض الأفكار الأساسية حوله، دون أن تغيب ظلال الحرب الكثيفة عن مدوناته، أو يتراجع فيها الحضور المكثف والواسع لاستدعاءاته لكثير من الأفكار والمواقف المستمدة من معرفته الواسعة بالأدب والتاريخ الأوروبي القديم. في الجزء الثاني من دفاتره يلاحظ القارئ كثرة الاستشهادات التي يقتطفها من أقوال وكتب الأدباء العالميين وتعليقه عليها، أو يحاول أن يتصوّر ما يمكن أن يفعله هؤلاء الأدباء حيال ما يمكن أن يواجههم من قضايا، إضافة إلى ما يقدمه من أفكار تجاه موضوعات علم النفس والفكر وقضايا الحرب العالمية وكيفية إنهائها، مع مقتطفات من روايات الطاعون والموت السعيد اللتين يجسد فيهما رؤاه ومواقفه من تلك القضايا. أما أماكن تدوين هذه الملاحظات والأفكار فهي تتوزع بين باريس ووهران بصورة خاصة. ويظهر تأثير نيتشه على كامو في كثرة المقتبسات التي يستعيرها من مؤلفاته وفلسفته المتعلقة بالإنسان المتفوق، وهو ما يظهر تأثير ذلك عليه في شخصية الإنسان المتمرد على شرطه الوجودي أو الجانب البطولي، كما يسميه هو عند حديثه عن شخصيات رواية الطاعون. وحول علاقته بشخصيات رواياته يعترف كامو بحضوره في هذه الشخصيات، عندما يتحدث عن رواية الغريب بالقول إن ثلاث شخصيات دخلت في تركيبة الغريب، رجلان أحدهما أنا وامرأة. وفي إطار هذه العلاقة مع أعماله يعترف بالعلاقة التي يصعب الفكاك منها في روايته الطاعون، في حين أن رواية الغريب يجدها تعبيرا عن عري الإنسان في مواجهة العبثية التي تمثل الطاعون، حيث التعادل بين وجهات النظر الفردية في مواجهة هذه العبثية نفسها. أما الجزء الثالث من دفاتر كامو فإنه يحتوي على كم كبير من اليوميات التي يسجل فيها الوقائع والأحداث أثناء تنقله بين المدن الإيطالية وباريس والجزائر. وبينما تظهر اللغة التقريرية في بعض اليوميات، فإن شعرية مكثفة ومعبرة تسيطر على جانب آخر من تلك اللغة، التي نجدها في وصفه للأماكن بصورة خاصة. القارئ لهذه الدفاتر لا بدّ أن يلاحظ أنه أمام شريط طويل لا يتوقف من الأفكار والملاحظات والتعليقات حول الكثير من قضايا الحياة والجمال والكينونة الإنسانية والذات الوحيدة في مواجهة شرطها، والتي تتولد على هامش الأفكار والمقولات والحالات التي تمثلها شخصيات روائية أو مسرحية في أعمال خالدة، أو حول مقولات لفلاسفة وكتاب كبار تسترعي التوقف عندها، إما للتعليق عليها أو لتصحيح مضمونها من وجهة نظره، أو لطرح أفكار إضافية بخصوصها، الأمر الذي يجعل القارئ أمام تدفق لا يتوقف من الأفكار المركزة والعميقة، التي تلخص القضايا المركزية على مرّ العصور.