* لا أعرف أسامة داود شخصياً، ولم أقابله وجهاً لوجه إلا قبل أيام.. وقبل أن أستمع له كنت أظن – مثل الكثيرين- أن مطاحن (سيقا) المملوكة له تستفيد من منحها دولاراً مدعوماً لاستيراد القمح، وتستغله في بيع الدقيق للمواطن بأرباحٍ كبيرة. * خلال اللقاء قدم أسامة داود مرافعة قوية، دعمها بمستندات وأرقام تدحض معظم ما يردده وزير المالية، عن (احتكار) ثلاث شركات لتجارة القمح، وسعيه لتحريرها من قبضتها. * ذكر أسامة داود أنه كان ضد الاحتكار، ومع التحرير، وأن قرار إسناد استيراد القمح وطحنه لشركات بعينها اتخذته لجنة حكومية مكونة من وكلاء وزارات التجارة والصناعة والمالية وممثل للأمن الاقتصادي، وأن اللجنة حسبت الكلفة، وحددت سعراً مدعوماً لجوال الدقيق، ألزمت به المطاحن الثلاث (سيقا وويتا وسين). * القرار المذكور أشرف عليه وزير المالية الحالي، بصفته السابقة، كنائب لمحافظ البنك المركزي، وسرى لمدة خمس سنوات، برغم المطالبة المتكررة بمراجعته من قبل الشركات الثلاث. * من أعلن قرار محاربة الاحتكار اتخذ قرار الاحتكار. * أوضحت الإحصائيات أن الحكومة نفسها لم تلتزم بقرار الاحتكار، وأنها سمحت لعدد من المطاحن الأخرى باستيراد القمح، فأحضرت أكثر من مليون وأربعمائة ألف طن، بذات الآلية، ونفس السعر المدعوم للدولار. * من فرض الاحتكار لم يلتزم به، والأرقام تؤكد أن الحديث عن منع الاحتكار وتحرير سوق القمح مجرد (لعب على الذقون)، إذا لا يوجد احتكار ولا يحزنون. * حديث وزير المالية عن أن تحرير استيراد القمح والدقيق سيوفر على الدولة حوالي مائتي مليون دولار ليس صحيحاً ولا دقيقاً، والصحيح أن السياسة الجديدة سترفع الكلفة بأكثر مائتي مليون دولار. * تبلغ حاجة السودان من القمح ثلاثة ملايين طن سنوياً، واستيراد مليون طن من الدقيق الجاهز يكلف (480) مليون دولار (بسعر 480 دولاراً للطن)، وإنتاج مليون طن من الدقيق في المطاحن المحلية يتطلب استيراد مليون ومائتي ألف طن قمح، تكلف (360) مليون دولار، وذلك يعني زيادة في كلفة الاستيراد قيمتها مائة وعشرون مليون دولار، عن كل مليون طن للدقيق المستورد من الخارج. * القمح سلعة إستراتيجية حساسة، لا تحتمل التعامل معها بتسرع، ولا يصح أن تصبح رهناً (للجلابة والمغامرين)، لأنها تحتاج إلى بنيات أساسية ضخمة، وقدرات تصنيعية وتخزينية كبيرة، علاوة على مواعين مقدرة للنقل، وقد وفر أسامة داود كل ذلك، واستثمر أكثر من سبعمائة مليون دولار فيها. * الأرقام التي قدمها مالك (سيقا) يجب أن تُدرس وتُمحَّص على أعلى المستويات، لأنها صدرت من رجل أعمال وطني (ناجح ومتخصص)، خدم بلده بإخلاص، وقدم نموذجاً صناعياً وطنياً يحتذى، في دولة تعاني معظم صناعاتها من التعثر والفشل. * في كل دول العالم يتم الاحتفاء بالتجارب الصناعية الناجحة، بدعمها ومساندتها وتقويتها، وليس محاربتها ومحاولة تدميرها، وتشويه سمعتها. * عندما اشتد أوار الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وباتت معظم الشركات الأمريكية الكبيرة مهددة بالانهيار والإفلاس، تدخلت الإدارة الأمريكية، ودعمتها بقوة، ووفرت لها تمويلات ضخمة، ومساعدات قيمة، كي تواصل عملها، وتتجنب الانهيار، فلمصلحة من تتم محاربة أنجح مُصنِّع، وأكبر مستثمر وطني في السودان؟ نواصل اليوم التالي