عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    وزير الخارجية يكتب: الإتحاد الأوروبي والحرب في السودان ..تبني السرديات البديلة تشجيع للإرهاب والفوضى    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    ماذا جرى في مؤتمر باريس بشأن السودان؟    العطا يتفقد القوات المرابطة بالمواقع الأمامية في الفاو والمناقل – شاهد الصور والفيديو    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    استمرار حبس البلوجر هدير عاطف بتهمة النصب على المواطنين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    حفظ ماء وجه غير مكتمل    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    خبراء: الهجوم الإيراني نتاج ل«تفاهمات أمريكية».. وجاء مغايرًا لاستراتيجية «طهران»    أحمد موسى: ده مفيش ذبابة ماتت من الصواريخ والمسيرات اللي إيران وجهتها لإسرائيل    إسرائيل تعيد فتح المدارس!    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    حزب المؤتمر الوطني المحلول: ندعو الشعب السوداني لمزيد من التماسك والوحدة والاصطفاف خلف القوات المسلحة    ضمن معايدة عيد الفطر المبارك مدير شرطة ولاية كسلا يلتقي الوالي    محمد وداعة يكتب: الاخ حسبو ..!    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    شاهد بالصورة.. إبن عضو مجلس السيادة رجاء نيكولا يحمل السلاح مدافعاً عن وطنه وجمهور مواقع التواصل يشيد ويعلق: (أبناء الإسلام والمسيحية في خندق واحد لحماية السودان من الجنجويد)    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    بعد راحة العيد...المنتخب الوطني يُعاود تحضيراته أمس    تركيا تنقذ ركاب «تلفريك» علقوا 23 ساعة    تجاوز مع أحد السياح.. إنهاء خدمة أمين شرطة لارتكابه تجاوزات في عمله    بايدن بعد الهجوم الإيراني: أمريكا ملتزمة بأمن إسرائيل.. وساعدنا في إسقاط جميع الطائرات المسيرة    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    إعلام عبري: طائرات أميركية وبريطانية تسقط مسيرات إيرانية فوق الحدود العراقية السورية    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    والي الخرطوم يزور رموز ونجوم المجتمع والتواصل شمل شيخ الامين وقدامى المحاربين والكابتن عادل أمين والمطرب عوض الكريم عبدالله    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    «العازفون الأربعة» في «سيمفونية ليفركوزن»    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    "طفرة مواليد".. نساء يبلغن عن "حمل غير متوقع" بعد تناول دواء شهير لإنقاص الوزن    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعيلق ....عبقرية المكان وعبق التاريخ وقول للزمان ارجع يا زمان
نشر في الراكوبة يوم 05 - 06 - 2011

أورد الأخ د. عبداللطيف البوني، في عموده: (حاطب ليل) بجريدة السوداني يوم الجمعة 6/5/2011م في العدد (1926) أن والده رحمه الله حكى له أنه في منتصف خمسينيات القرن الماضي، جاء الفنان ابراهيم عوض لإحياء حفلة عامة بمدينة المعيلق، توافد الناس من القرى المجاورة بالعربات والكوارو (جمع كارو) والحمير وعلى أرجلهم فضاق بهم سور المدرسة فحطموه وغنى ابراهيم عوض (حبيبي جنني) أربعة مرات في تلك الحفلة كلما فرغ منها صاح الجمهور (جننا يا أبوعويض) فيرد عليهم (أجننكم هوى) ويشدو (بريدك والله بريدك لو سقيتني السم بإيدك/ سمك شفاى ودواي/ ياطبيب تعال لمريضك).
حبك للمكان يجعلك تتوق لكماله وذلك بالتفكير فيما ينقصه, يدفعك الى ذلك، الانتماء.. ذلك المكان هو مدينة المعيلق التي أنتمي إليها روحاً وجسداً. أقارن واقع الحال بما كان عليه في السابق، حين كانت المعيلق مجرد قرية ولكنها حية وجميلة في نواحي عديدة .. ولا أدل على ذلك من مبنى المجلس الريفي الأنيق، ذو الحديقة التي تتمدد على كل المساحات الفارغة في فنائه.. والمخضرة طيلة فصول السنة، والتي كان امر العناية بها يعهد إلى شخص ليس له شغل سواها. وأصايص الزهور التي تبعث البهجة في النفس. وقد كان نطاق إختصاص مجلس ريفي المعيلق يمتد من أبوعشر جنوباَ حتى بتري على مشارف الخرطوم شمالا ومن النيل الأبيض غرباً حتى النيل الأزرق شرقا،وكان أحد أربعة مجالس ريفية على نطاق السودان. وكانت تغذيه موارد كل تلك المنطقة. وحيثما أجلت النظر ترى الأشجار المصفوفة والمرتبة بعناية، ولا تطأ قدمك شبرأ منه إلا وهو مخضر. يحيط بالمجلس حي الموظفين ذو الأشجار الكثيفة، وقد كانت أسوار كثير من منازله عبارة عن أشجار من الكثافة بحيث لا يستطيع أمهر لص أن يجد له سبيلاً للتسلل عبرها. وسكانه الذين يوحون لك بأنك في سودان مصغر، حيث تجد كثير من ألوان الطيف القبلي ينصهرون في بوتقة المجلس وعلاقاتهم الحميمة بالسكان توحي لك بكل ما هو جميل.
ويتواجد بالمجلس مكتب الضابط التنفيذي ومكتب مفتش الحكومات المحلية والضابط الإداري وضابط الصحة. وهناك مكتب خاص بقسم الجيولوجيا ذو الموظفين والعمال الذين يستأجرون عدة منازل، وكان عملهم يتعلق بصيانة الوابورات في كل المنطقة، وهناك مكتب يخص قسم الغابات، ومكتب الإشراف التربوي النظيف. كذلك يوجد قسم خاص بالإرشاد به معلمات لتعليم نساء المنطقة كل شئون التدبير المنزلي كالخياطة والتفصيل والتطريز والطبخ. وتجري المنافسات لنيل الجوائز على مستوى المنطقة وذلك في إحتفالات تقام خصيصاً لهذا الغرض. وقد أخبرني والدي أمد الله في عمره بأنه أنشيء في أوائل خمسينيات القرن الماضي وكان للمرشدات بيت خاص بهن بحي الموظفين وكان سائقهم يدعى (عم عباس) توفي وحل محله عمنا وجارنا أحمد عبدالله، الذي توفي قبل عامين رحمهما الله.
وكانت هناك دار المزارعين التي تم تشييدها بعد إنشاء مشروع الجزيرة في الثلاثينيات، وكانت أحدث مما هي عليه الآن، حيث كانت الحركة فيها دؤوبة والإجتماعات تتم فيها بصورة أوسع يحضرها مدير مشروع الجزيرة من مدني والباشمفتش وكل المفتشين لمناقشة مشاكل المشروع والمشاكل التي تعترض المزارعين.
وفتحنا أعيننا على المركز الثقافي الذي كان مبناه يقع شمال شرق الأستاد حالياً والذي أصبح طللاً يوجع قلب كل حادب على مصلحة هذا البلد المعطاء المعيلق، حيث كانت تقام فيه الندوات الثقافية وكان عبارة عن منتدى جامع للثقافة والأدب، إضافة لكونه مقر تعقد فيه الإجتماعات لمناقشة هموم المنطقة وإحتياجاتها. وكان في الفترة الصباحية يستغل كروضة أطفال فيما قبل السبعينات وبعدها. وكانت فيه سينما تعرض أفلامها في يومي السبت والثلاثاء من كل أسبوع وذلك في زمن لم تكن فيه سينما في مديرية الجزيرة سوى في مدني فقط وذلك في فترة الأربعينيات،فهل هناك سر في حب أهل المعيلق لهذين اليومين أم أن الأمر مجرد صدفة؟ فالسوق بالمعيلق يزدهر في يومي السبت والثلاثاء، والسينما كأنها أبت أن يطلب بها الترويح إلا في هذين اليومين، ولا أن تعانق الارواح صوفيتها ممثلة في الشيوخ مستمدة منهم عونها المعنوي إلا في يومي السبت والثلاثاء حيث الزيارة لأبوشنيب والنخيرة، وكأن هؤلاء الشيوخ الأتقياء أدركوا سر الإلفة بين أهل المعيلق وهذين اليومين فحددوهما لزيارة المريدين ليوافقا هوىً في نفوس أهل المعيلق.
وإذا كان مبنى المركز الثقافي أصبح أثراً بعد عين، فالمدارس الصناعية (التدريب المهني) التي كانت تخرج الطلبة من أقسام النجارة والبرادة والحدادة وغيرها، ليس لمبناها أثر على وجه الأرض، وقد كان طلابها يزينون المدارس والطرق داخل المجلس والمساحات المزروعة بأشكال هندسية مصنوعة من الطوب الأحمر عليه نقوش من الجير والبوهية مختلفة الألوان. وأساتذتها الذين يحترمهم الكبير والصغير، وعلاقات أهل المعيلق التي مازالت ممتدة بأسرهم، حيث كان الأستاذ كمبال بشير كمبال وأسرته والعم معلم خوجلي وأسرته وشقيقه العم معلم حسن وأسرته، يعلمون الطلبة في زمن ينظر فيه الطالب للمعلم وكأنه «نبي» كناية عن الإحترام. وكان الطلبة في هذه المدارس يسكنون داخلية خاصة بهم. وكان من المفترض أن تشيد مدرستان للكهرباء والتمريض ولكن لم تريا النور بسبب عدم المتابعة والذي أهدر كثير من حقوقنا.
نعم كانت مجرد شفخانة، ولكنها نظيفة لدرجة اللمعان يقوم بالعمل فيها مساعد طبي وممرض لايمكن أن تراه في غير زيه الناصع البياض مما يدل على إحترام اللوائح الخاصة بالمهنة وحتى الأدوات المستخدمة في العلاج كانت ملفتة النظافة والترتيب. وكان يتعالج فيها كثير من سكان المنطقة، وليست حكراً على المعيلق فقط ورغم الضغط الهائل عليها إلا أنها غاية في النظافة ... ويمكنك أن تقيس عليها وهي مجرد شفخانة، كثير من المستشفيات التي تتخذ مقرها في بيئة غير صالحة للعلاج أو التنويم أو الحياة أو الإطمئنان على صحة المريض يرتع بين جنباتها الناموس ليلاً والذباب نهاراً ليشكلا سيمفونية غاية في التناغم يتضرر منها أولاً واخيراً الإنسان الذي كرمه الله ولكنه كثيراً ما يهين نفسه بنفسه. وكان هناك فرع من منظمة الصحة العالمية به خواجات حيث كانت توزع بعض الأدوية بصورة دورية وبالمجان.
كان من الملاحظ إنتشار البيوت المستأجرة لموظفين وعمال زراعيين يشغلون إما وظيفة مهندس زراعي أو موظفين في قسم وقاية النباتات وغيرها. وكان هناك مجموعة من الطيارين المصريين الذين يعملون في شركات تختص برش الزراعة بالمبيدات لمكافحة الآفات الزراعية وكونوا علاقات جميلة مع السكان.
وكانت هناك المدارس الإبتدائية الثلاثة الغربية والشرقية للبنين والثالثة للبنات والثانوي العام بمدارسه الحكومية والشعبية للبنين والبنات، والثانوي للبنين وداخليات هذه المدارس كانت تشي برغد نسبي من العيش حيث كان الطالب لا يدفع أي مبلغ سواء للسكن أو للغذاء. وكانت المدرسة الثانوية تأتي في أوائل مدارس السودان في إمتحانات الشهادة السودانية والإلتحاق بها أمنية لكثيرين حتى من الخرطوم وأم درمان وما احراز الأخ وابن العم جعفر أحمد الماحي للمرتبة الثانية على نطاق مدارس السودان في امتحان الشهادة السودانية في ذلك الزمن الا دليلا على مستوى هذه المدرسة المشرف.
وكان هناك مكتب البوستة الذي يجاور النادي حيث كانت القطارى في ذلك الزمن هي وسيلة المواصلات الرئيسية، حيث تجلب الخطابات والطرود فيذهب البوسطجي إلى محطة السكة حديد فيأتي بها .. فكان مجيء القطارى نزير فأل لكثير من الأسر التي تشتت أبناؤها في أرض الله بحكم ظروف تنقلهم للعمل وخاصة في الجنوب. وقد ذكر لي والدي أن محطة السكة الحديد كانت دائبة الحركة ليلاً ونهاراً وبها مطاعم وأماكن لبيع المشروبات الساخنة والباردة. ويمكنك أن تضبط ساعتك على موعد وصول أو مغادرة القطار، والدقة هنا في مواعيد الوصول والتحرك بريئة منا براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب، إذ هي صناعة إنجليزية بحتة لا ناقة لنا فيها ولا جمل بالطبع. ولولا أن الإستعمار مذلة لقلت ليتهم لم يخرجوا. وقد شيدت مباني محطة السكة حديد إبان عهد الإنجليز الذين أثبتوا أن لهم يد طولى في فنون البناء ومتانته حيث ما زالت المباني التي شيدت كمنزل لناظر المحطة والقطاطي الخاصة بعمال صيانة القطارات تقاوم عوامل الزمن .. وكان يطلق إسم (الإدارة) في عهدهم على المجلس الريفي. وقد ذكر لنا جدي (عثمان) عليه رحمة الله أن الإنجليز كانوا على قوتهم ومقدرتهم ذوي رفق بالمواطنين، متسامحون ولا يأخذوك بالأخطاء التي تمسهم في شخصهم، يقول جدي أن جدنا (عبدالقادر الخشادي) عليه رحمة الله قابله الخواجة الذي يشغل وظيفة باشمفتش بمكتب المعيلق الزراعي وكان يجيد التحدث باللغة العربية بطلاقة، فقال معاتباً له على عدم تواجده بحواشته طيلة يوم أمس (أمس جيت الحواشة كذا مرة وما لقيتك فيها) فرد عليه جدنا عبدالقادر بتحدي ولا مبالاة وهو يشيح بوجهه بعيداً عن وجه الخواجة (نعم كلموني قالوا لي الكافر عقبك هنا وما لقاك) «مع تفخيم الراء في كلمة الكافر» فما كان من الخواجة إلا أن رد عليه ضاحكاً (خلاص تاني لما أجي ألقاك قاعد فيها لأن عدم تواجدك طيلة يوم كامل يعني إهمالاً بالزراعة). فليت أهلي يدركون أحد أسباب تدني عطاء مشروع الجزيرة. واضيف هل تعامل المستعمر مع الأهالي هو تسامح وتجاوز للأخطاء كما ذكر جدي أم أنهم كانوا يأخذون أهلنا على حسب عقولهم أم كانوا يتحاشون غضب الأهالي خوفاً من هبتهم في وجههم ؟ لا أدري.
ومما ذكره البعض أن المعيلق كانت بها تليفونات منذ ثلاثينيات القرن الماضي وذلك في كل المصالح الحكومية والسوق وحتى القنطرة كان بها تليفون وذلك في زمن قل أن تجد فيه تليفون سوى في المدن الكبيرة. وهناك أيضاً إهتمام بالثروة الحيوانية حيث يوجد قسم خاص للبيطرة وأنشئت محكمة أهلية بالمعيلق أفتتحها الرئيس السابق عبود رحمه الله.
ولأربط الفقرة الأولى بالموضوع فإن الحفلات الترفيهية كانت تقام بين الفينة والأخرى ويحييها كبار فناني الإذاعة. حيث أحيا الفنان الخالد ابراهيم الكاشف وعائشة الفلاتية والفنان الأستاذ عثمان حسين بعض منها، حيث ذكر لي والدي أن الفنانين ابراهيم الكاشف وعائشة الفلاتية حضرا مع فرقتهما في سيارة تخصهما وكان الحضور كثيفاً لدرجة أنهم وجدوا صعوبة بالغة في الوصول للمسرح من حرارة التصفيق والإستقبال، وفوجئوا بأن الجمهور كان يردد أغانيهما معهما ويحفظها عن ظهر قلب. أما الفنان عثمان حسين فقد حضر بالمواصلات وكانت عبارة عن بص راقي يملكه أحد الخواجات وقد تأخر عن الحضور بسبب حادث تعرض له البص بالقرب من قرية (ود لميض) ولكنه لم يصب بسوء فجاء متأخراً وأحيا الحفل معتذراً عن التأخير. وغيرهم أيضاً من الفنانين على سبيل المثال لا الحصر .. الفنان عبدالعزيز محمد داوود وعوض الجاك وصديق الكحلاوي وخلف الله حمد وأحمد عمر الرباطابي وصلاح إبن البادية ومحمد وردي الذي أتى لاقامة حفلة لليلة واحدة وأعجبته المعيلق فمكث بها مدة أربعة أيام، وكانت زيارة الفنان النعام آدم المشهورة والذي تمنى أن يرتد اليه بصره ولو ساعة ليرى وجوه أهل المعيلق الذين أكرموهم كل هذا الاكرام، وكذلك الفنان الخير عثمان، رمضان حسن، رمضان زايد، بادي محمد الطيب، كمال ترباس، عبد الله محمد، عوض الكريم عبد الله، ثنائي النغم وثنائي الجزيرة وغيرهم وغيرهم وكذلك الفاضل سعيد وتور الجر (عثمان حميدة) وأبو قبورة وغيرهم من نجوم المسرح آنذاك.
وأذكر أن الفنان عثمان الأطرش أحيا حفل زواج الأخت (فتحية علي) وكان أن نزل وفرقته بمنزل الأخ (علي الماحي) حيث تصادف حضور زوجته الأخت (ثريا عبدالباقي) من انجلترا او ابوظبي لا اذكر , وقد أحسنت ضيافتهم وأشرفت بنفسها على إحتياجاتهم. وحسب قول الفنان نفسه أنها كانت تأتيهم بين الفينة والأخرى لتسألهم إن كانوا يحتاجون شيئاً. وقد ذكر للأخ العزيز المرحوم عبدالرازق أبو كيفو قائلاً (لقد أشرفت على عشائنا وما نحتاجه بنفسها بالرغم من أن هناك شباب كانوا يقومون على خدمتنا ولم نصادف في رحلاتنا الفنية ضيافة مثل هذه الضيافة .. حيث أن كل شيء متوفر دون أن نطلبه وحتى بشاكير الحمام الجديدة وزعتها لنا بكفاية. وتعرفنا على أطفالها) وكان كلما قابل أحد مواطني المعيلق يسأله عن ريم وحمادة. وكانت الحفلات في ذلك الزمن غير مقيدة بزمن محدد .. فذكر الفنان عثمان الأطرش أنهم عند عودتهم من الحفل في السادسة صباحأ وجدوا العصير والشاي والزلابيا قد وضعت على المناضد بعناية وقال أنه تأكد أن الأخت ثريا قد دخلت مطبخها في الساعة الرابعة والنصف صباحاً حتى تجهز كل تلك الأشياء. وقد طلب من ثريا أن تخبره بأي مناسبة تخص عائلتها أو أسرتها ذاكراً لها أنه ملتزم بإحياء حفل أي مناسبة ومجاناً وهو رهن إشارتهم وكان يطلق على المعيلق (المعيلق الجميلة بناسها) .
وقد كان بمحطة السكة الحديد موقف للمواصلات والبصات وقد كان أهل الكاملين والقرى المجاورة يأتون للسفر من المعيلق عن طريق القطار أو البص قاصدين الخرطوم أو مدني أو القرى بينهما. وقد وصف والدي الحركة الدؤوبة في محطة السكة حديد بالمعيلق بأن الزحام فيها على أشده بحيث لو أن صاحبك غاب عنك في الزحام فلن تعرف له سبيلا. ومن البصات الراقية في ذلك الوقت بص يسمى (العظمة) دلالة على شكله الجميل وعلوه وراحة راكبه. وأخيراً أدركت معنى الأغنية التي كنت أسمعها ولا أفهم معناها وتقول ( سايق العظمة سافر قام بالعظمة سافر خلاني وين ) و كان هذا في زمن ينظر فيه للسائق على أنه الشخص المثقف الواسع الأفق والنظيف المهذب.
وفي هذه الفقرة جاءت مداخلة من زوجي العزيز بأنه يتذكر تلك الفترة حيث كانت محطة السكة حديد حية وتعج بالبائعين من الأطفال وغيرهم. وكان أحد الركاب المشاكسين يسأل أحد الأطفال: هل عندك بيض؟ الطفل: نعم . الراكب: خلاص أكله. ويتداولون الطرفة التي حدثت مع أحدهم حيث سأل الراكب أحد الصبية: هل عندك بيض؟ الولد: نعم . الراكب : نجيض ؟ الولد: نعم . الراكب : لكن أنا عايزو نيء. الولد: داير تركض فوقو؟ فسكت ذلك الراكب مهزوماً وسط ضحكات الركاب والحاضرين , ومن معالم المعيلق البارزة كان هناك المبنى الخاص بالبوليس والذي يتكون من مكاتب وحراسة .
أما السوق فقد كان عالماً قائماً بذاته، كان حياة أخرى مترفة إذا أخذنا الأمر بقاعدة نسبية الترف والمعيلق كانت مجرد قرية لا مدينة. فقد كان (والكلام لوالدي) التجار في السوق قبل الخمسينيات وحتى منتصفها من الكاملين ومع منتصف الخمسينيات صاروا خليطاً من الكاملين والمعيلق وما جاورها. وأبرز مثال على ذلك عمنا المرحوم (حمزة عبدالقادر) الذي أتت به ظروف عمله كتاجر وإستقر بالمعيلق ومازال أبنائه بها حيث أنصهروا في المجتمع وتزوجوا بالمعيلق. وكان السوق غاية في النظافة حيث كانت براميل الأوساخ الضخمة تتخلل مساحاته وعمال النظافة يرابضون بالقرب منه طيلة النهار. وبه عدد من المطاعم النظيفة التي تقدم كثير من المأكولات السودانية واليمنية والحبشية بحكم أن العاملين فيه كانوا خليط من السودانيين والأحباش واليمنيين وليس مطعم عمنا (ود يحيي) إلا شاهداً على ذلك الزمن النظيف. وقد كان السوق عامراً بكل ماتحتاج إليه ربات المنازل حيث أن كثير منهن لايستعملن الزيت للطبخ بل كان هناك السمن الهولندي وهو أنواع . وكانت هناك شتى أنواع الأجبان والأناناس وجوز الهند والفواكه المشكلة المعلبة على رفوف كثير من الدكاكين بالسوق مما يدل على أن البلد كانت تعيش رغد نسبي من العيش .
وعند الأصيل وحتى وقت متأخر من الليل تقدم القهاوي كل أنواع المشروبات الساخنة على الهواء الطلق لموظفين وعمال وسكان ينشدون فيها الترويح بعد عناء يوم شاق، فتجد الكراسي مصفوفة حول المناضد والأرض مسقاة بالماء لتلطيف الجو. وقد كان لعمي المرحوم (العوض محمد الماحي) بحكم عمله في هذه القهاوي باع طويل وخبرة لا تضاهى في مجال عمل الشاي باللبن، فتجد الكل يتجه صوب قهوته كخيار أول، وكذلك قهوة عمنا (الحاج أحمد البيكيفو) أمد الله في عمره.
وأذكر الحلواني ذو المساحة الواسعة والذي يقدم شتى أنواع الحلويات الساخنة والباردة على الهواء الطلق، ولي معه ذكريات طريفة .. حيث كنت أرافق والدي بين وقت وآخر لهذا المكان وأنا طفلة. ولا أنسى نوع من الحلويات يأتيك في قالب به شيء أشبه بنواة المانجو ولكنه أصغر حجماً، يوضع في قاع القالب للزينة يميل لونه للون البمبي ويشبه الجلي ولكنه ليس بجلي. وكنت في كل مرة أغرز الملعقة منذ الوهلة الأولى في قاع القالب لأتذوق ذلك الشيء الرابض في القاع.. فينبهني والدي في كل مرة أنه لا يؤكل. وكان هذا السلوك يغيظ عمنا المرحوم (الصادق عبدالعزيز) فصاح في وجهي ذات مرة: ما معقول كل مرة ينبهوك : دا مابياكلوهو.. دا مابياكلوهو مامعقول!
كان هناك أيضاً أستوديو نفرح كثيراً لأخذ الصور فيه . ويقال أن هناك طلمبة ( موبيل ) أنشئت في الخمسينيات من القرن الماضي وهناك أيضاً مستودع كبير بدلاً عن طلمبة ( شل ) وذلك لتعبئة الوقود بالصفائح . هذا إضافة إلى الأفران التي كانت غير متوفرة في كثير من المناطق في ذلك الزمن . وكذلك الطواحين ومعامل الفحص وكان من أوائل من عمل في هذا المجال الأخ والصديق سيد حافظ رحمه الله .
وكان النادي في ذلك الزمن واحداً ولكنه كان يسع كل ذلك الخليط من البشر دون أن يقدح ذلك الزحام في نظافته وترتيب أشيائة على حد قول الوالد : والذي في رأيي بدأت قواه تخور ولامن مغيث . ولاغرو فقد أندثر الكثير من الأماكن والمعالم غيره (فكتر خيره أن ما زال يقاوم) .
وقد كانت المعيلق نظيفة الشوارع حيث كانت براميل الأوساخ الضخمة تنتشر فيها ، وكان عمال الصحة لا يألون جهدا في كنس الشوارع بصورة شبه يومية حيث لا قاذورات ولا أكياس بلاستيكية تشوه صورة المكان ? الأكياس البلاستيكية التي بسببها يطلق بعض الأجانب على الخرطوم وهي في قامة عاصمة قومية ( الخرطوم عاصمة الأكياس البلاستيكية الطائرة ) - . وكانت هناك زائرتان تتبعان لمجال الصحة تمران على المنازل لتسجيل ملاحظتهما حول مدي نظافة المنازل وكان هناك إشراف تام على النظافة حيث كان عمال النظافة يطرقون الأبواب لرش المنازل إجبارياً ومجاناً من الحشرات وذلك بمادة الدي دي تي أو الجمكسين . وكانوا يمرون كل عدة أيام لسكب مادة كيماوية على بالوعات الحمامات والدبليوسيهات منعاً لتكاثر الجراثيم في هذه الأماكن .
وكانت تقام الإحتفالات والمناسبات الوطنية وغيرها وكانت لها رونق خاص ، حيث تبدا منذ الصباح الباكر البروفات ثم يبدأ الإحتفال عصراً في الميدان الكبير ( مكان الإستاد حالياً ) لينتقل الحفل بعد المغرب إلى المكان المخصص له وهو المركز الثقافي غالباً .
وكانت تقام المنافسات بين المدارس في شكل جمعيات أدبية ومطارحات شعرية : ولكم أن تقارنوا بين تلك الأجيال وجيل اليوم الذي غابت عنه عادة القراءة والإطلاع ، فنجد أن من الترف الذي لن يناله والشرف الذي لايدعيه أن يحفظ عن ظهر قلب كما كان جيلنا شعر ميخائيل نعيمة ،عبد الرحمن الأبنودي ، إسماعيل حسن ، التجاني يوسف بشير ، إيليا أبو ماضي ، بدر شاكر السياب ، وإدريس جماع ، كل هذا واعمارنا في حدود الخامسة عشر سنة . ويخالجني شك يقارب اليقين بأن 99% من جيل اليوم في هذه السن لم يسمع بأي من هؤلاء الشعراء ماعدا قصيدة لإيليا أبي ماضي أو إدريس جماع أو التجاني يوسف بشير فقط لأنها من ضمن المقرر الدراسي .
وكانت تقام بين الفينة والأخرى المعارض الخاصة بالكتب وأخرى للملبوسات وكذلك المفروشات ومعارض للوحات والفنون التشكيلية الأخرى . والجدير بالذكر أن شوارع المعيلق وكانت مجرد قرية قد تم تخطيطها منذ خمسينيات القرن الماضي ، وفي أوائل الستينيات تم إدخال الكهرباء وكان هناك مجموعة من مهندسي و عمال الكهرباء الهنود يستأجرون منزلاً بالقرب من منزلنا وأن أحدهم قد أسلم وأطلق على نفسه اسم ( علي) وقد ذكرت لي والدتي أنهم كانوا كلما يعودون من إجازة من الهند يأتوا الينا بالهدايا وكانوا في قمة التهذيب وكان الجيران يمدونهم بما يحتاجون إليه من اواني وخلافه .
ومما يذكره أهلنا أن الفنان الراحل أحمد الطيب كان يتردد على المعيلق لزيارة أخيه بشير الطيب الذي كان يعمل في مجال البوليس وكذلك الفنان صلاح محمد عيسي الذي كان يزور أخيه الفاتح الذي كان يعمل في مصنع الحوري للأثاث. ومن الشخصيات التي يذكرها الأهالي عمنا ( آدم ريحان ) والد فلتة الكرة السودانبة (سكسك) والذي كان قد أحرز هدفاً خالداً في ليفربول ، حيث جاءت بهم ظروف العمل بالمعيلق . وكذلك العم (بابكر ) والد (البلدوزر علاء الدين ) بحكم ظروف العمل أيضاً . كذلك كان عم عوض النجار من الشخصيات المرحة والمحبوبه.
ومما يسكن ذاكرتي ?ربما لغرابة العبارة- هو صياح الأخوان (محمد ود أحمدا) و(الطيب ود قدور) من أهلنا بشرق الجزيرة، وهم يطوفون شوارع القرية ممتطين دراجاتهم الهوائية (العجلات) لتوزيع الجرائد (الصحافة،الأيام، الرأي العام العام العام العام في التررررعة) وكان ود قدور يردد (الرأي رأي الله ) أي ليس رأي البشر.
ومعروف عن أهل المعيلق عمق انتمائهم للمعيلق، ولا أدري هل هي الفة تجاه المكان أم تجاه ساكنيه..
ولا ادل على ذلك من احساس شخصي الضعيف بالغربة من أول كيلومتر أقطعه خارجها وما هو غير عادي هو أن كثيرين ممن أتت بهم ظروف مختلفة اتخذوا من المعيلق مقرا دائما لهم.. ولكن ما يدعو للغرابة اكثر أن هناك شاب مصري يعمل بالميكانيكا، أتى من مصر بأسرته وعمل في عدة مناطق واستقر به المقام في الخرطوم للعمل ولكنه أسكن أسرته بالمعيلق.. وليس له أقارب فيها ولا يعمل بها، فقط ليقينه بأنه يطمئن عليهم وسط أهلها. والآن تسكن زوجته وأبنائه بالمعيلق ويأتي هو كل أسبوعين من الخرطوم، وتذهب زوجته للسوق بمفردهالجلب أغراضها منه ومما يتداوله البعض أنها خرجت من السوق قاصدة منزلها، فحمل عنها بعض الشباب أغراضها حتى منزلها فشرعت في اخراج مبلغ مالي نظير تلك الخدمة فأفهمها هؤلاء الشباب أنهم لا يقبلون هذا التصرف لأنه عيب والآن هي تحلف أنها لن تغادر هذا البلد الآمن وأهله الطيبين الا للضرورة القصوى.
هذه هي المعيلق زمان .. بهدوئها وعبقها ورونقها وسعتها وإحتضانها لكل هذا الخليط من البشر .. بصفاء روحهم وعلاقاتهم الجميلة ببعضهم البعض .. كل هذا وكانت المعيلق مجرد قرية .. أسأل سؤال برئ .. سؤال الحزين حد الأسى .. الحادب على مصلحة هذه البقعة المعطاء .. أسأل رغم التطور الذي حدث بصورة عامة وأصابها جانب كبير منه وأصبحت الأن مدينة لا قرية .. هل المعيلق تتقدم إلى الأمام ولو بخطى وئيدة ، أم تتراجع إلى الخلف بخطى متسارعه ؟؟؟؟
الصحافة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.