يمتلك كل عصر حصّته من المنظرين والمتنورين الذين يقفون في وجه الظلم والاستبداد؛ فكل مرحلة تاريخيّة تفترض خصائص للحكم قد تجعل السلطة تنحو إلى الاستبداد، بحكم موقعها السياسي، وفي المقابل يظهر أفراد يصرخون في وجه الأنظمة المستبدة من جهة، وبين فئات الشعب المستكينة من جهة أخرى بأن تهب لنيل حريتها الطبيعيّة، وبألّا تنساق وترضخ لما هي عليه، فتمسي هذه الأصوات منارات على مدى التاريخ يستدل بها على سبيل الحريّة، سواء تمت الاستجابة لها أم لا. العرب عمار المأمون أبواب الحرية الموصدة (لوحة للفنان عبدالله العمري) ينتمي القاضي والكاتب الفرنسي الشاب إتيان دو لا بويَسي (1530-1563) إلى الفئة المستنيرة في فرنسا خلال القرن السادس عشر، وبالرغم من صغر سنه إلا أنه استطاع أن يكون له تأثير واسع سواء في المجال السياسي أو الديني، وذلك من خلال كتاباته ومقالاته التي بقيت محط المؤوّلين والمفسرين، بسبب لهجتها الصارمة وأفكارها المتنورة. ومن أشهر مقالات دو لا بويَسي هي "العبوديّة المختارة" التي كتبها حين كان في الثامنة عشرة من عمره، أثناء الحروب الدينية في فرنسا، وقد نالت حينذاك صدى هائلا، وحتى بعد سنوات إبان الثورة الفرنسيّة لاحقا. ضد العبيد بويَسي في كتابه، الصادر باللغة العربيّة عن دار الساقي للنشر والتوزيع ببيروت، بترجمة وتقديم لصالح الأشمر، لا يتوانى عن أن ينتقد الشعوب ذاتها، بوصفها هي التي سلّمت بسلطة الطغاة، واستكانت لها، لأنها نشأت عليها حتى أنها نسيت طعم الحريّة، بل هو يلوم أيضا "التخنيث" الذي أصابها والذي يمعن الطغاة في ممارسته عليها. ولا يتردد القاضي الشاب في انتقاد المتسلقين والوصوليين الذين يمعنون في تمكين الطاغية من الاستئثار بالسلطة، بوصفهم من الشعب نفسه، ويقنعون بالفتات كي يضطهدوا من هم مثلهم، فيبدو الطغيان أقرب إلى مؤسسة هرميّة، إذ يكفي الطاغية أن يتحكم في بعض رجالات من الشعب حتى تستشري إرادته الطغيانيّة إلى أسفل الهرم/ الشعب عبر وسطاء له، ليعيثوا إلى جانبه فسادا ونهبا وسرقة. أنواع الطغاة يعمل بويسي على تشريح الطغاة وأنواعهم، فمنهم من وصل إلى الحكم بالوراثة، وهو الأشد استبدادا بوصفه "رضع حليب الطغيان"، إلى جانب أولئك الذين نالوا الحكم بانتصاراتهم الحربيّة، أو أولئك الذين اختارهم الشعب نفسه، والنوع الأخير من المفترض أن يكون أكثر عدلا، لكن ما إن تمسه لوثة السلطة حتى تتمكن منه نزعة الاستبداد. في رسالته هذه يدعو القاضي الفرنسي الشعب إلى توقع الشر كما الخير من الطاغية، إذ له حرية الانزياح إلى الشر بحكم سلطته ومنصبه، ضاربا الأمثلة المختلفة لذلك، فكثيرا ما لا تنفع التربية مع الطغاة، كحالة نيرون مثلا، الذي بالرغم من تعاليم سينيكا النبيلة، انتهى به الأمر إلى إحراق روما وقتل أمه وزوجته، تاركا كل ما تعلمه من سينيكا وراميا إياه وراء ظهره، كما نراه يضرب الأمثلة بالشعوب التي لا ترضى بالذل والهوان كالإسبارطيين، وحربهم مع الفرس رفضا للانصياع لنير الذل والعبودية. أخطر الوسائل التي يقوم بها الطاغية للحفاظ على سلطته هي توظيف الأجانب كمرتزقة للدفاع عنه بالرغم من الصيغة العاطفية للرسالة والمبالغات التي تحويها، واللوم الصريح للشعب "المدجّن" بوصفه لا يثور ضد ما تربى عليه وألفه من الطاغية، إلا أن بويسي أيضا يشرح أساليب الطاغية في تدجين الشعب، عبر الخرافة التي يحيطها بنفسه، كأن لا يكشف عن وجهه إلا قليلا، ويحيط نفسه بمظاهر الأبّهة والإجلال، حتى يبدو أقرب إلى سلالات الآلهة منه إلى البشر، فينسى الشعب أنه يشبههم، وأنه من لحم ودم وذو عين وساق، ويتخلى عن سيادة العقل والقانون وإرادته الحرة، ليهيمن على أفكاره عوضا عنها الإيمان بالشعوذة والتسليم المطلق بنفوذ الطاغية. كما يضيف بويسي إلى ذلك أساليب أخرى، كشراء الضمائر وإلهاء الشعب بالغرائب والعجائب والمسرحيات ووسائل اللهو، بوصفها أدوات سياسية تنسيه طلب حريته، وتغرقه في نعيم زائف يسلبه عقله وإدراكه، كما يذكر بويسي أخطر الوسائل التي يقوم بها الطاغية للحفاظ على سلطته، وهي توظيف الأجانب كمرتزقة للدفاع عنه، فهو يخاف أن يمتلك الشعب السلاح كي لا يثور عليه و ينتزع منه السلطة بالقوة. القاضي ورجل المؤسسة يطغى على الرسالة الأسلوب الخطابي، وهذا ما يتفق مع تاريخ نشرها وسنّ مؤلفها، ولا سيما أنه يوجه اللوم الأكبر إلى الشعب في طغيان الحاكم، بل حتى أنه يشبهه بالحيوانات الداجنة التي يربيها أصحابها بما يخالف طبعها، وهذا ما لا يمكن تعميمه والقبول به كليا، وخصوصا بويسي الذي عمل مستشارا في برلمان بوردو، ثم مستشارا للملكة الأم كاترين دي ميديسيس، ليلعب دورا في إيقاف الحروب الدينية التي سادت أثناء تلك الفترة في فرنسا بين الكاثوليك والبروتستانت. تحوي الرسالة عددا من الملاحظات المتعلقة بالترجمة، وخصوصا في ما يتعلق بالمتن، فنقرأ مثلا بالمقارنة مع الأصل الفرنسي أن الكاتب استخدم كلمة "المساخر" (ص 6)، ليترجم كلمة "الفَارس-farce" والمقصود بها مسرحيات "الفارس الكوميديّة"، كذلك تجاهل ترجمة كلمة عروض المصارعة، كما نقرأ في حاشية المترجم (ص 72)، التعريف بسيزيف، ليخلط بينه وبين بروميثيوس الذي سرق النار وأهداها للبشر، علما أن المترجم سبق له أن ترجم عن الفرنسية عددا من الكتب، لكن لا يمكن إلا طرح هذه الملاحظات في ما يخص "العبوديّة المختارة".