هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول أصول سكان السودان 2..من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية؟

من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية؟
د أحمد الياس حسين : أرض البجة ومواردها
خلصنا في مقالنا السابق ألى أن البجة عرفوا في المصادر القديمة السابقة لظهور الاسلام باسم المِجا والتُرُجلُدايت والبليميين،
ثم اختفت هذه الأسماء بعد ظهور الاسلام وظهر في مكانها في المصادر العربية اسم البجة. وستتناول هذه الدراسة أرض البجة وقبائلها كما جاءت في المصادر العربية المؤلفة بين القرنين الثالث والتاسع الهجريين (9 ? 15 م) ويلاحظ أن تلك المصادر التي تناولت البجة وأرضها انحصرت معلوماتها بصورة عامة في المجموعات الشمالية لقبائل البجة. فقد بدأت صلات المسلمين من مصر مبكراً بتلك المناطق بحكم مجاورتها لهم. وازدادت تلك الصلات سلمية في بعض المرات وحربية مراتٍ أخرى ? كما سنفصل ذلك لاحقاً - حتى بداية اشتغال المسلمين في التعدين في منتصف القرن الثالث الهجري (9 م) والذي امتد حتى بداية النصف الثاني من القرن الثامن الهجري (14 م). وكان اتصال المسلمين طيلة هذه الفترة بأرض البجة وبالمجموعات الشمالية.
جاء تحديد بلاد البجة في المصادر العربية المبكرة تحديداً واسعاً يتعدى في كثير من الأحيان حدودها الشمالية الحالية، وبنفس القدر جاء استخدام لفظ البجة عاماً وواسعا فشمل في بعض الأحيان أقواما وقبائل لا تعرف اليوم بهذا الاسم. وسنحاول فيما يلي التعرف على بلاد البجة وسكانها من خلال أعين أولئك الكتاب.
تبدأ بلاد البجة من الشمال من منطقة الصحراء الشرقية الممتدة من الأقصر على النيل غرباً وحتى البحر الأحمر شرقاً. يقول ابن سُليم الأسواني في كتابه أخبار النوبة الذي نقله مصطفى مسعد عن المقريزي في كتابه المكتية السودانية العربية: «أول بلد البجة من قرية تعرف بالخربة من معدن الزمرد في صحراء قوص، وبين هذا الموضع وبين قوص ثلاث مراحل» وتقع مدينة قوص إلى الشمال قليلاً من مدينة الأقصر الحالية. ويوضح هذا أن حدود بلاد البجة كانت تمتد في الصحراء شمالاً إلى مناطق أبعد بكثير من امتداد مناطقها الحالية.
وجعل ابن سليم حد البجة الجنوبي بأول بلاد الحبشة حيث قال « وآخر بلاد البجة، أوّل بلاد الحبشة» غير أن الحدود بين بلاد الحبشة وبلاد البجة لا تبدو واضحة المعالم في المصادر العربية، بل لم يرد اتفاق حول تحديدها. فابن سليم مثلا يرى أن ساحل البجة يمتد حتى جزيرة سواكن وباضع ودهلَك. بينما ذكر الحميري في كتابه «الروض المعطار في خبر الأقطار ج 1 ص 333» أن باضع تقع على ساحل البجة والحبشة، وجعل ابن حوقل في كتابه «صورة الأرض ص 59» الحدود الجنوبية لبلاد البجة أعالي خور بركة بالقرب من باضع حيث «بطون قصعة وهي من أجل قبائل البجة.» أما اليعقوبي في كتابه التاريخ ص 21 فقد ذكر تحت عنوان «مملكة البجة» أن «لهم عدة ممالك» وتتبعها من الشمال إلي الجنوب، فكانت آخر ممالكهم وهي السادسة « مملكة النجاشي ... وساحلهم دهلَك.»
وهكذا تبدوا حدود البجة الجنوبية غير واضحة المعالم في المصادر العربية المبكرة، ولكن يبدوا واضحاً أنهم أعتبروا أن ديار البجة تمتد حتى منطقة السهل الشمالي للهضبة الاثيوبية. وقد جاء وصف هذه المناطق في تلك المصادر بما يوضح تمتعها بوفرة الموارد الطبيعية مثل موارد المياه المتنوعة الجارية والجوفية والمطرية. وتحدثت المصادر عن الموارد الزراعية والنباتية والحيوانية والمعدنية، كما تناولت السكان وأنشطتهم التجارية. ومن الطبيعي أن تساعد كل هذه الموارد على كثافة السكان وتعدد المناشط، وقيام المراكز والمدن والممالك وتطور أساليب الادارة. وفيما يلي سنتتبع ما تيسر الاطلاع عليه من نصوص متعلقة بهذه الموضوعات في تلك المصادر.
وقد ترك لنا ابن حوقل معلومات قيمه ودقيقة في وصفه للمناطق الواقعة على حوض نهر عطبرة وخوري القاش وبركة. وتكتسب معلوماته عن هذه المناطق أهمية خاصة، فقد أبحر ابن حوقل في البحر الأحمر وزار بعض مناطق بلاد البجة وسواحلها، وجمع مادته عن المنطقة بطريق مباشر، واعتمد على الروايات في المناطق التي لم يزرها. ووضح ( ص 233) كيف أنه كان يدقق في جمع .
تناول ابن حوقل بلاد البجة وسكانها من الجنوب إلى الشمال فبدأ بوصف المناطق الغنية بمواردها المائية والنباتية والحيوانية والسكانية في المنطقة السهلية التي ذكر أنها منتهى ما يصله تجار المسلين من أرض البجة، وعرفها بمنطقة قلعيب وما جاورها من منطقة ملاحيب
قال ابن حوقل (ص 59) «نواحي قلعيب وهي مواضع ذات مياه في أودية متصلة بجبل يعرف بملاحيب وأكبر أوديته وادي بركة،.وبين قلعيب وبركة غياضٌ عاديةٌ ذات أشجار، وربما كان دائرة الشجرة من أربعين ذراعاً إلي خمسين ذراعاً إلى ستين ذراعاً. وأفنيتها مراتع الأفيلة والزرافات والكركدن والنمر والفهد إلى سائر الوحوش سائمة راتعة في غيلها ومياهها وغياضها. ويتصل بحد ملاحيب من شقه الشرقي وادٍ يعرف بصيغوات كثير الماء أيضاً والشجروالحمر والوحش.»
غياضٌ عادِيَّةٌ يقصد بها أماكن قديمة تتجمع فيها المياه وينبت فيها الشجر. قال الزبيدي في لسان العرب في معنى غياض: «والغَيْضَة مَغِيضُ ماءٍ يجتمع فيَنْبت فيه الشجر وجمعها غِياضٌ وأَغْياضٌ» وقال في معنى عادية «شَجَرة عادِيَّةٌ أَي قَدِيمة كأَنها نُسِبَت إِلى عادٍ وهمْ قومُ هودٍ النبيِّ صلى الله عليه»
ويقول كرَوفُرد في كتابه مملكة الفونج الاسلامية (باللغة الانجليزية) ان إقليم قلعيب وملاحيب يقع في جنوب أرض البجة، ويرى إمكانية الربط بين قلعيب وبين بيت مالي Malé وهو اسم جبل شمال Agere Mageran على خريطة موزنجر،هو اسم لقبيلة وموضح على خريطة Legean ويرجح كرَوفُرد (ص 104) أن Agere Mageran تقع بالقرب من الحدود الشالية الغربية الأرترية.
ويواصل ابن حوقل (ص 60): واصفاً منطقة جبل ملاحيب ودلتا القاش وأواسط نهر عطبرة قائلاً: «ويتصل بجبل ملاحيب من شقه الشرقي وادٍ يعرف بصيغوات كثير الماء أيضاً والشجر والحمر والوحوش ... وكأن هذا الجبل آخذ بأوديته من نواحي البحر المالح إلى دُكن [دلتا القاش] وهي أرض مزارع أحواف يجري إليها ماء النيل، ويزرع عليها الذرة والدخن أهل النوبة ومن يحضر معهم من البجة»
ويرى كراوفورد - ص 96 - أن دلتا القاش عرفت ببلاد التاكا، يقول Sapeto أن الحبش أطلقوا على سكان دلتا القاش Makidaovi . وقد عرِّفت مملكة دُجن أو دُكن بدلتا القاش. وربما كانت دلتا القاش موطناً لسكان قدماء أطلق عليهم بلايني اسم ال Mathetae، والذين ربما كان اسمهم لا يزال عائشاً في اسم Mitatib شمال أروما واسم Temitatei على نهر عطبرة شمال جوز رجب. وربما ارتبط Mathetae باسم قبيل المتت الذين ورد ذكرهم في وثيقة اكسومية ترجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد مما يوضح أن منطقة دلتا القاش كانت مأهولة بالسكان منذ العصور السابقة للميلاد.
ويواصل ابن حوقل ? ص 61 - وصف المنطقة «النهر المعروف بسنسابي ويفرع إلى النيل، وأصله من ناحية الحبشة. والنهر المعروف بالدجن يأتي من بلد الحبشة فينقطع في أعمال دجن ومزارعها، ودجن هذه قرى متصلة ذوات مياه مشاجر وزرع وضرع ... وقد تقدم أن وادي بركة يجري من بلد الحبشة مجتازاً على بازين وآخذاً إلى ناحية البُجة، ويصب بين سواكن وباضع في البحر المالح.»
ونهر سنسابي ? كما يرى كرَوفُرد ربما هو مارب-قاش الذي يعرف في منطقة البازين كما ذكر موزنجر ب Sona or soba والدجن أوالدكن هي دلتا القاش. ويقول ابن سليم عن بلاد البجة: «والمواشي من البقر والغنم والضأن غاية في الكثرة عندهم، وبقرهم وحسان معلمة بقرون عظام، ومنها جُم وكباشهم كذلك منمرة ولها ألبان.» الجُم هي التي لاقرون لها.
وذكر وكراوفورد أن الباحثين عرّفوا دُكن بدلتا القاش، كما عرفت ببلاد التاكا. وقد كانت تنتج نوعاً جيداً من القمح كان يحمل إلى سواكن وجدة، وكان سعره في جدة أغلى من القمح المصري. وكان قمح دلتا القاش يتحمل التخزين في المطمورات أكثر من أي نوع آخر من القمح، وفي بعض الأحيان تصل مدة التخزين إلى خمس سنوات يظل القمح فيها جيداً.
وقد وصف ابن سعيد المغربي في كتابه الجغرافيا الجزء الشمالي من الهضبة الاثيوبية والمنطقة السهلية الممتدة شماليها فوضح وفرة المياه وتواجد الحيوانات مثل الكركدن والأسود والفيلة والغزلان.
وهكذا تبدو منطقة خور بركة والقاش ونهر سنسابي وامتدادها حتى سواحل البحر الأحمر غنية بالموارد. وإلى جانب ما ورد عن وفرة المياه والزراعة تناولت المصادر أيضاً تنوع الأشجار وكثرة الثروة الحيوانية فيقول:
« وفي أوديتهم شجر المقل والإهليلج والإذخر، والشيح والسنا والحنظل، وشجر البان وغير ذلك ، وبأقصى بلدهم: النخل وشجر الكرم والرياحين، وغير ذلك مما لم يزرعه أحد ... وفيها سائر الوحش من السباع والفيلة والنمور والفهود والقردة وعناق الأرض والزباد، ودابة تشبه الغزال حسنة المنظر لها قرنان على لون الذهب قليلة البقاء إذا صيدت، ومن الطيور: الببغاء، والنقيط، والنوبيّ، والقماريّ، ودجاج الحبش، وحمام بازين ... ومثل الكركدن والأسود والفيلة والغزلان الأفيلة والزرافات والنمر والفهد إلى سائر الوحوش سائمة راتعة والخيل والماشية «
ويواصل ابن سليم وتعظم الحيات ببلدهم وتكثر أصنافها، ورُئِيَتْ حية في غدير ماء، قد أخرجت ذنبها والتفّت على امرأة وردت فقتلتها، فرؤي شحمها قد خرج من دبرها من شدّة الضغطة، وبها حية ليس لها رأس، وطرفاها سواء منقشة ليست بالكبيرة إذا مشى الإنسان على أثرها مات، وإذا قُتِلت وأَمسك القاتل ما قتلها به من عود أو حربة في يده، ولم يلقه من ساعته مات، وقتلت حية منها بخشبة، فانشقت الخشبة، وإذا تأمّل هذه الحية أحد، وهي ميتة أو حية أصابه ضررها. وفي البجة شر وتسرع إليه»
ومن خلالا هذا الوصف يتضح أن المنطقة الواقعة بين دَهلك وباضع وسواكن على ساحل البحر الأحمر شرقا والممتدة غرباً عبر وادي بركة وخور القاش ونهر عطبرة حتى نهر النيل كانت ثرية بمواردها المائية والنباتية والحيوانية. وقد تناولت المصادر اللاحقة أيضاً تلك الثروات كما عند ابن عبد الظاهر في كتابه «تشريف الأيام والعصور بسيرة الملك المنصور قلاوون» في وصفه الموجز للسفارة التي أرسلها السلطان المملوكي لحكام السودان في آخر القرن السابع الهجري (13م) وعند النويري في كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» للنويري في وصفه للحملة التي أرسلها السلطان المملوكي الناصر محمد عام 716 ه / 1317 م لتطارد بعض الأعراب الذين قطعوا الطريق لقافلة في صحراء عيذاب والتي وصلت إلى منطقة كسلا الحالية من عيذاب وعبر سواكن ثم واصلت إلى دنقلة عبر نهر عطبرة.
المعادن
إلى جانب الثروات المائية والنباتية والحيوانية تميزت بلاد البجة أيضاً بوفرة ثرواتها المعدنية, وتضمنت المصادر العربية المبكرة معلومات قيمة عن أنواع تلك المعادن وأماكنها. فقد قال ابن سليم عن البجة «بلدانهم كلها معادن، وكلما تصاعدت كانت أجود والذهب أكثر» وبين ابن سليم أنواع تلك المعادن من «الفضة والنحاس والحديد والرصاص وحجر المغنطيس والمرقشيتا والجمشت والزمرد وحجارة بيشطا» وأضاف اليعقوبي الجوهر والزمرد. وبين المسعودي موقع معدن الزمرد وفصل أنواعه قائلاً:
ومعدن الزمرد في عمل الصعيد الأعلى من أعمال مدينة قفط، ومنها يخرج إلى هذا المعدن، والموضع الذي فيه الزمرد يعرف بالخربة مفاوز و جبال ... والزمرد الذي يقتلع من هذا المكان يتنوع أربعة أنواع:
«النوع الأول منها يعرف بالمر، وهو أجودها وأغلاها ثمنا، وهو شديد الخضرة كثير الماء، يشبه خضرته بأشد ما يكون من السلق خضرة، وهذا اللون غير كدر ولا ضارب إلى السواد. والنوع الثاني يدعى بالبحري، ومعناهم في هذه التسمية هو أن ملوك البحر من السند والهند والزنج والصين ترغب في هذا النوع من الزمرد، وتباهي في استعماله ولباسه في تيجانها وأكاليلها وخواتيمها وأسورتها، فسمي البحري لما ذكرنا، وهو ثاني المر في الجودة وتشبه خضرته بالأول والماء كفراخ ورق الأس الذي يظهر في أوائل أغصان الآس وأطرافه.»
«والنوع الثالث يعرف بالمغربي، ومعناهم في هذه التسمية وإضافتهم إياه إلى المغرب هو أن ملوك المغرب من الإفرنجة والنوكبرد والأندلس والجلالقة والوشكند والصقالبة والروس ... والنوع الرابع هو المسمى بالأصم، وهو أدنى الأنواع وأقلها ثمناً؛ لقلة مائه وخُضرته، وهذا النوع يتفاوت في اللون من الخضرة في القلة والكثرة.»
«وجملة الوصف لهذه الأنواع الأربعة في الجودة والمبالغة في الثمن هو أكثرها ماء وأصفاها وأكثرها خضرة وأنقاها من السواد والصفرة، وغير ذلك من الألوان، مع تعري هذا الجوهر من النموشة، فإذا سلم مما ذكرنا كان في نوعه غايةً في الجودة ونهاية في الوصف، وفىِ حجارته ما يبلغ الخمسة المثاقيل من الوزن، إلى أن ينتهي إلى حد العدسة في المقدار، فيدخل ذلك في النظم من المخانق وغيرها.»
«وقد كانت ملوك اليونانيين ومن تلاهم من ملوك الروم تعظم شأن هذا الجوهر، وتفضله على غيره من سائر الجواهر؛ لما اجتمع فيه من الخواص العجيبة، والمنافع الكثيرة، ولخفته في الوزن دون سائر الجواهر المعدنية.»
«وأكثر ما يوجد من هذه الأنواع الأربعة العروق في الأرض، وهو المتَنافس فيه، إذا سلم من الاعوجاج والثقب، واستقام سلكه، واستطال ما استدار، وأدناه ما ينحل في معدنه من التراب ويلتقط من الطين، وقد يوجد على ظهر الأرض في هذا المعدن في وهاده وجباله وما انخفض وارتفع من أرضه نوعان منه وهما المغربي والأصم المقدم ذكرهما.»
وقد فصل اليعقوبي في كتاب البلدان أماكن تلك المعادن المنشرة حول وادي العلاقي وبين المسافات بينها وذكر بعض أسماء القبائل العربية التي تشتغل في التعدين مثل جهينة وبلي وربيعة. وبين اليعقوبي نحو اثنتي عشرة موقعاً لمعدن الزمرد من بين وادي العلاقي حتى خربة الملك شمالاً، وثمانية مواضع للذهب ما بين وادي العلاقي وميناء عيذاب على البحر الأحمر، وستة مواقع إلى الجنوب من وادي العلاقي يقع آخرها على بعد ثلاثين مرحلة من وادي العلاقي.
وبينت المصادر العربية علاقة البجة الوثيقة بهذه المعادن في كل المنطقة الواقعة بين صحراء قوص في الشمال وخور بركة في الجنوب. وقد ذكرنا أعلاه أن ابن سليم حدد أول بلد البجة «من قرية تعرف بالخربة من معدن الزمرد في صحراء قوص» وذكر المسعودي أن البجة تنزل موضع الزمرد المعروف بالخربة وتقوم بحمايته، «وإليها يؤدي الخفارات من يرد إلى حفر الزمرد» وأضاف أن البجة كانت تنزل أيضاً حول معدن الزمرد في البر المتصل بأسوان وقريباً منه لأجل القيام بخفره وحفظه.
ووضح الطبري ? في تاريخه - أن البجة يشرفون على معادن الذهب ويقومون بمقاسمة العاملين عليه، «ويؤدون إلى عمال السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى.» ويتضح أن العمل في كل مناطق التعدين كان تحت إشراف البجة الذين كانوا يسيطرون على كل مناطقه. ولكنهم لم يعملوا في استخراجه، بل اكتفوا بمهمة الإشراف واستتباب الأمن في تلك المناطق. فقد ذكر ابن سليم أن المسلمون هم الذين يعملون في هذه المعادن، وهم مسالمون للبجة.
غير أن الادريسي في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق - ذكر ما يفيد أن البجة كانوا يحتكرون بعض مناطق التعدين ربما لأن العمل فيها لا يحتاج إلى حفر ويتطلب فقط المعرفة التامة بالمنطقة. فقد ذكر أنهم كانوا يقومون بالبحث عن الذهب في بعض المناطق الرملية في صحراء وادي العلاقي في أول ليالي الشهر العربي وآخره. فكانوا يذهبون إلى تلك الرمال ليلاً فإذا أبصر أحدهم التبر يضيء «علّم على موضعه علامة يعرفها وبات هنالك فإذا أصبح عمد كل واحد منهم إلى علامته في كوم الرمل الذي علم عليه ثم يأخذه ويحمله معه على نجيبه فيمضي به إلى آبار هنالك ثم يقبل على غسله بالماء في جفنة عود فيتخرج التبر منه ثم يؤلفه بالزئبق ويسبكه بعد ذلك فما اجتمع لهم منه تبايعوه بينهم واشتراه بعضهم من بعض ثم يحمله التجار إلى سائر الأقطار وهذا شغلهم دأباً لا يفترون عنه ومن ذلك معايشهم ومبادئ مكاسبهم وعليه يعولون.»
ويلاحظ أن الادريسي يتحدث هنا عن البجة بصورة عامة ولا يشير إلى أن هذا العمل تقوم به بعض قبائل البجة المجاورة لتلك الرمال. ويبدو من كلامه وكأن هذا هو كل نشاط قبائل البجة في التعدين. وكثيراً ما تأتي مثل هذه التعميمات في المصادر العربية فتؤدي أحياناً إلى التضارب في المعلومات وأحياناً أخرى إلى الفهم الخطأ لقبائل وتاريخ قبائل البجة. وفي هذه الحالة فقد رأينا أن العلاقة القوية بين البجة والتعدين هي الاشراف والخفارة والتأمين، ويقاسمون بذلك من يعمل في تلك المعادن، هذا إلي جانب النشاطات الرعوية والزراعية والتجارية الأخرى. وليس كما ذكر الادريسي وهو يتحدث عن البجة بصورة عامه أن العمل في البحث عن الذهب في تلك الرمال هو سبيل «معايشهم ومبادئ مكاسبهم وعليه يعولون»
وكان وادي العلاقي هو المركز والمقر الرئيس لأعمال التعدين، وذكر ابن سعيد أن «العلاقي هو مقر ملك البجة.» وقد وصفه اليعقوبي بأنه كالمدينة العظيمة، أو وادِ كالقرية الجامعة كما وصفه الادريسي وذكر بأن الماء فيه من آبار عذبة، وهو مكان تجمع البجة ومقصد التجار وفيه خلق كثير وجمع غزير.» وكان أكثر سكان العلاقي من ربيعة من بني حنيفة، من أهل اليمامة كما ذكر اليعقوبي، «وانتقلوا إليها بالعيالات والذرية. ووادي العلاقي وما حواليه معادن للتبر، وكل ما قرب منه يعتمل فيه الناس، لكل قوم من التجار وغير التجار، عبيد سودان يعملون في الحفر، ثم يخرجون التبر كالزرنيخ الأصفر، ثم يسبك».
وترجع بدايات اتصال المسلمين بالمعدن إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري (9 م) إلى عاملين رئيسين هما: 1. رأي المسلمون مناطق التعدين والآثار القديمة للعمل فيها أثناء الحملة التي قادها ابن الجهم على مناطق البجة عام 216 ه، فعند نهاية الحملة رجع الكثير ممن اشتركوا فيها للعمل في مناطق التعدين. 2. أوقف الخليفة العباسي المعتصم (ت 227 ه) صرف العطاء في مصر والذي كان يصرف للعرب مقابل انخراطهم في الجندية فاضطروا للبحث عن بديل يسترزقون منه، وصادف ذلك بداية تعرف العرب لمناطق التعدين فوفدت إليه مجموعات كبيرة منهم. وكان أغلب الوافدين الأوائل من قبائل الحجاز. ثم جاءت ربيعة في منتصف القرن الثالث وأصبحت لهم السيطرة على ما تبقى من القبائل العربية في المنطقة بعد تحالفهم وتصاهرهم مع البجة. وهكذا قاد البجة نشاطاً واسعاً في مناطق التعدين منذ منتصف القرن الثالث الهجري وحتى توقف العمل في المناجم في «سنة بضع وستين وسبعمائة»
وإلى جانب ذلك شهدت منطقة البجة نشاطاً تجاريّاً آخر وهو صيد اللؤلؤ في مدينة عيذاب. فقد وصف ابن جبير- الذي دخل عيذاب عام 578 ه - أن مغاص اللؤلؤ في بحر عيذاب «في جزائر على مقربة منها، وأوان الغوص عليه في هذا التاريخ المقيدة فيه هذه الأحرف، وهو شهر يونيه العجمي والشهر الذي يتلوه، ويستخرج منه جوهر نفيس، له قيمة سنية، يذهب الغائصون عليه تلك الجزائر في الزوارق ويقيمون فيها الأيام فيعودون بما قسم الله لكل واحد منهم بحسب حظه من الرزق.»
ويواصل ابن جبير: «والمغاص منها قريب القعرليس ببعيد. ويستخرجونه في أصداف لها أزواج كأنها نوع من الحيتان أشبه شيء بالسلحفاة. فإذا شقت ظهرت الشقتان من داخلها كأنهما محارتا فضة، ثم يشقون عليها فيجدون فيها الحبة من الجوهر قد غطى عليها لحم الصدف. فيجتمع لهم من ذلك بحسب الحظوظ والأرزاق. فسبحان مقدرها لا اله سواه. لكنهم ببلدة لا رطب فيها ولا يابس قد ألفوا بها عيش البهائم؛ فسبحان مجبب الأوطان أهلها، على أنهم أقرب الوحش منهم الأنس.»
ولم يقتصر نشاط قبائل البجة في العمل في التعدين فقط بل كان لهم نشاط تجاري أيضاً في السلع التي يجود يها إقليمهم والأقاليم المجاورة. ورغم أن المصادر لا تمدنا بمعلومات عن أنشطتهم التجارية بقدر ما ذكرت عن عملهم في التعدين. إلا أنه من خلال الاشارات القليلة التي وردت هنا وهناك يتضح منها مساهماتهم المبكرة في الأنشطة التجارية، خاصة وأن سكان المنطقة شتهروا بأنشتهم الجارية الداخلية وفي البحر الأحمر كما وضحت المصادر اليونانية والرومانية كما وضحنا في المقال السابق. وقد تواصل ذلك النشاط بعد دخول المسلمين مصر في الداخل والخارج كما سنلاحظ ذلك عند الحديث عن مدن الحداربة.
[email protected]
الصحافة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.