وزير الخارجية يكتب: الإتحاد الأوروبي والحرب في السودان ..تبني السرديات البديلة تشجيع للإرهاب والفوضى    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    ماذا جرى في مؤتمر باريس بشأن السودان؟    العطا يتفقد القوات المرابطة بالمواقع الأمامية في الفاو والمناقل – شاهد الصور والفيديو    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    استمرار حبس البلوجر هدير عاطف بتهمة النصب على المواطنين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    أحمد موسى: ده مفيش ذبابة ماتت من الصواريخ والمسيرات اللي إيران وجهتها لإسرائيل    إسرائيل تعيد فتح المدارس!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    حفظ ماء وجه غير مكتمل    خبراء: الهجوم الإيراني نتاج ل«تفاهمات أمريكية».. وجاء مغايرًا لاستراتيجية «طهران»    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    حزب المؤتمر الوطني المحلول: ندعو الشعب السوداني لمزيد من التماسك والوحدة والاصطفاف خلف القوات المسلحة    ضمن معايدة عيد الفطر المبارك مدير شرطة ولاية كسلا يلتقي الوالي    محمد وداعة يكتب: الاخ حسبو ..!    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    شاهد بالصورة.. إبن عضو مجلس السيادة رجاء نيكولا يحمل السلاح مدافعاً عن وطنه وجمهور مواقع التواصل يشيد ويعلق: (أبناء الإسلام والمسيحية في خندق واحد لحماية السودان من الجنجويد)    شاهد بالفيديو.. الفنان أحمد فتح الله يلهب حفل في القاهرة بالإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) وساخرون: (يا جماعة كفاية لحدي هنا لأنو براؤون دي بتحمي القحاتة النوم)    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    بعد راحة العيد...المنتخب الوطني يُعاود تحضيراته أمس    تجاوز مع أحد السياح.. إنهاء خدمة أمين شرطة لارتكابه تجاوزات في عمله    تركيا تنقذ ركاب «تلفريك» علقوا 23 ساعة    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    بايدن بعد الهجوم الإيراني: أمريكا ملتزمة بأمن إسرائيل.. وساعدنا في إسقاط جميع الطائرات المسيرة    إعلام عبري: طائرات أميركية وبريطانية تسقط مسيرات إيرانية فوق الحدود العراقية السورية    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    والي الخرطوم يزور رموز ونجوم المجتمع والتواصل شمل شيخ الامين وقدامى المحاربين والكابتن عادل أمين والمطرب عوض الكريم عبدالله    «العازفون الأربعة» في «سيمفونية ليفركوزن»    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    سان جيرمان يخسر على أرضه من برشلونة في دوري الأبطال    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    "طفرة مواليد".. نساء يبلغن عن "حمل غير متوقع" بعد تناول دواء شهير لإنقاص الوزن    حمادة هلال : مكنتش عارف تفاصيل مقلب رامز جلال    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسلام الغتغتة
نشر في الراكوبة يوم 30 - 03 - 2017

المنهج الذي تتبناهُ جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة ( الأخوان المسلمون) في التصدي للمشاكل الإجتماعية يشوبه خللٌ أساسي يتمثل في أنَّهم يعتبرون "المنع القانوني" معياراً للنجاح في محاربة ما يصفونه "بالظواهر السالبة", ومن ثم يفترضون أنَّ علاج المشاكل قد إكتمل حتى ولو كانت نتيجة ذلك المنع هو تمدُّد تلك الظواهر "تحت السطح" بصورة أكبر مما كانت عليه قبل ذلك المنع.
خطورة مثل هذا النهج تتمثل في تجاهل النظر"العقلاني والعلمي" للمشاكل التي يُعاني منها المجتمع من أجل إستنباط الحلول المُمكنة, وبالتالي فإنَّه – أي ذلك النهج - لا يؤدي في خاتمة المطاف إلا إلى تفاقم تلك المشاكل وعدم تدارُكها إلا بعد وصولها لمرحلة "الإنفجار" وتحولها لكوارث غير قابلة للحل.
سُقتُ هذه المقدمة لمناقشة الحديث الذي أدلى به الأسبوع الماضي القيادي الإخواني أحمد عبد الرحمن محمد في ندوة حول المسيرة السياسية للدكتور حسن الترابي وأوردته صحيفة "الجريدة", حيث قال في إطار إستعراضه لنجاح مشروع حكم الإنقاذ : (حدث تغيير للجميع بنسبة 180 درجة) وأضاف (كنت ضابط صحة أجمع الرسوم من النساء لضمان مدى التزامهن بالإشتراطات الصحية)، وتابع (البارات كانت حول المساجد).
إنَّ إشارة الأستاذ أحمد لإختفاء بيوت "البغاء" و "البارات" قصد منها القول أنَّ تغييراً إيجابياً "بنسبة 180 درجة" قد طرأ على المجتمع السوداني منذ أن تم تطبيق مشروع الإخوان المسلمين بقيادة الدكتور الترابي.
قبل الشروع في تفنيد الحديث أعلاه, أودُ الإشارة إلى أنَّ الإخوان المسلمين لديهم حساسية مفرطة تجاه موضوع "الخمر" ويعتبرون منعها هو المؤشر الأهم لنجاح طرحهم في ميدان "الأخلاق والقيم" , غير أن حساسيتهم تكاد تكون معدومة في مواجهة أمور أخرى مثل السرقة والكذب والرشوة والفساد, وهذا موضوع يحتاج لدراسة "نفسية" وبحث متعمق لمعرفة أسبابه.
هذا الأمر يُمكن ملاحظته في حديث الأستاذ أحمد الذي يُمِّثلُ للتغيير الإيجابي بإختفاء بيوت البغاء والبارات ولكنه يتجاهل بالكامل المصائب "الأخلاقية" الأكبر التي حلت بالبلاد وفي مقدمتها "الفساد" غير المسبوق.
ولكن حتى موضوع الخمر والبغاء فإنَّ الإخوان المسلمين ينظرون له بسطحية شديدة, ولا يتعمقون في النظر لتلك الظواهر بمعيار "المقاصد" الذي يوازن بين السلبيات والإيجابيات حتى يقيس جدوى القرارات ومدى تحقيقها للأهداف المنوط بها خدمة مصالح المجتمع وليس مفاقمة المشاكل وزيادة المفاسد.
في البداية, وحتى لا يتهمنا أحد المُهَفَّكين ( المُهَفَّكُ من الرجال : الكثير الخَلط ) بالسعي لنشر الرذيلة نقول بوضوح أننا لسنا من دعاة عودة البارات وبيوت البغاء, ولكننا نسعى لإعمال عقولنا في دراسة القرارات المتعلقة بالظواهر الإجتماعية بصورة علمية حتى نرى مدى تطابقها مع الغايات التي أتخذت من أجلها.
نعم يا أستاذ أحمد, تم إغلاق البارات ولكن ذلك لم يمنع إزدياد نسبة شاربي الخمر بصورة مخيفة لا يمكن مقارنتها مع نسبة الشاربين قبل قرار المنع, وهو كذلك لم يمنع الأطفال القُصَّر (من الجنسين) - الذين كان يستحيل عليهم الشرب بحكم أعراف المجتمع السائدة في الماضي - من إرتياد عالم الخمر بكثافة مُحيِّرة.
في تقرير منظمة الصحة العالمية حول "إستهلاك الكحول والصحة" الصادر في ديسمبر 2014, حلَّ السودان في مقدمة دول العالم من حيث نسبة إحتساء الفرد للكحول, وإحتل المركز الثاني عربياً حيث بلغ معدل إستهلاك الكحول للفرد في السودان 24.10 لتراً في العام !
قطعاً سيخرجُ علينا "مُوسوسٌ شكَّاك" يعتقدُ في مؤامرةٍ تُديرها المنظمات الدولية ضد "دولة المشروع الحضاري", ليبدي رفضه لنتائج التقرير أعلاه, ولكننا سنسارع وندعوه لمراجعة ضبطيات الخمور المهربة ومراكز البحوث ومصحات علاج الإدمان وإستقصاءات الصحف حتى يعرف مدى إستفحال المشكلة, وفي هذا الإطار نورد هذا المقتطف من تحقيق أجراه الصحفي "عثمان البلولة" حول موضوع الخمور بصحيفة "الصيحة" في ذات السنة التي صدر فيها التقرير الأممي وجاء فيه :
( وهاتفياً يقول أحد مروجي الخمور التائب عن ممارسة المهنة : كنت في وقتٍ قريب ألقب ب "الرصاصة" هكذا يلقبه الزبائن, لا أتعاطى الشراب, وكنت أبيع من 600 إلى 650 قارورة في الأيام العادية, وترتفع إلى 800 قارورة في يومي الخميس والجمعة، والزبائن من السودانيين وهم كبار وصغار طلاب وطالبات ومن الأجانب، وعن وجود زبائن من النساء قال : "يوجد لكن نسبة قليلة، وبعضهن ترسل السائق ليشتريها لهن ).
في عام 1919م قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتعديل دستورها وأصدرت قانوناً "حرَّم بيع الخمور وصنعها والإتجار بها واستحضارها من الخارج", وقد وقف وراء ذلك التعديل رجال الصناعة والزراعة الذين رأوا أن الخمر تذهب بقوى العمال والمزارعين وتضعف صحتهم وتقعدهم عن العمل.
ولكن في أجواء تحريم الخمر إنتشرت الحانات الخفية, ونشطت عصابات رهيبة ( أشهرها "آل كابوني") إستفادت من قانون التحريم وكوَّنت ثروات هائلة، ومجموعات مدربة من القتلة، وبدأ تهريب الخمر من كندا، واستنفرت أمريكا نفسها في كل سواحلها لمنع تجارة الخمر التي راجت أكثر من ذي قبل, وتضاعفت أسعار الكحول مثلما يحدث لكلِّ سلعةٍ يندُرُ ويقلُّ أو يتم إحتكارها، وأقبلَ الناسُ على الشُرب أكثر من ذي قبل تحت تأثير القانون النفسي الرهيب : كلُّ ممنوعٍ مرغوب.
وأخيراً إضطر الرئيس فرانكلين روزفلت بعد أربعة عشر عاماً من التحريم (أي في عام 1933) إلى إلغاء القانون حيث ثبت أنه لم يكن مفيداً في إقتلاع عادة الشرب من الشعب الأمريكي، مع كل معرفتهم بضررها.
هذه التجربة الأمريكية تفتحُ أعيُننا على أثر عمل القوانين وقدرتها على علاج المشاكل الإجتماعية، فما لم تُهيأ النفوس لقرارات كبيرة و خطيرة من هذا النوع فإنه لا يُمكنُ اقتلاع عادات مثل التدخين أو شرب الخمر أو غيرها.
أمَّا حديث الأستاذ أحمد عن البغاء (الجنس مقابل أجر) فهو أيضاً يسير في ذات نهج حديثه عن الخمر, وهو النهج الذي يقيس النجاح في محاربة المشاكل الإجتماعية بالمنع والتحريم فقط وليس علاج أسبابها ودوافعها.
معلومٌ أنَّ ممارسة البغاء تُعد ظاهرة إجتماعية وجدت منذ أقدم العصور, وعندما جاء الإسلام حرَّمها مثلما فعلت المسيحية واليهودية من قبل, ولكن الجواري والبغايا المملوكات راجت سلعتهن في العصرين الأموي والعباسي وامتداداً للعصور اللاحقة.
وعلى سبيل المثال فقد عرفت مصر هذه الممارسة منذ القِدَمْ, و لم يُغيِّر دخول المسلمين بعد الفتح العربي من إستمرار البغاء ممارسة وتجارة, حيث ترك الحكام المسلمون طوال العهدين الأموي والعباسي الأمور على ما كانت عليها، وفي ظل "الخلافة العثمانية" إستمر فرض الضرائب على بيوت البغاء, كما فعل الفاطميون من قبل, وسُميت بيوت الدعارة "كرخانات" وهى كلمة تركية مكونة من مقطعين "كري" وتعني نوم و"خانة" وتعني نُزُل أو محل.
إذن, تلك الممارسة كانت موجودة في مختلف المجتمعات الإسلامية, ولم يك السودان إستثناءاً, ولكن لا يُفهم من ذلك أننا نوافق عليها ونجيزها لأننا نقف ضد جميع الممارسات القبيحة التي تُسيء للإنسان ولا سيما للمرأة, بيد أنَّنا نهدفُ للنظر للموضوع في سياقه الذي وُجِدَ فيه حتى نستطيع مقارنة الأوضاع قبل وبعد منعه وتحريمه.
لا يختلفُ إثنان ولا تنتطحُ عنزان في أنَّ "البغاء" في السودان تحوَّل بعد المنع لظاهرة "سرية" تُمارسُ في الخفاء وبشكل كبير جداً, والأخطر من ذلك أنَّه تمدَّد للمجتمع بأكمله بعد أن كان محصوراً في دور "صاحبات الرايات" فقط, حينها لم يكن أحدٌ يتجرأ على مراودة بنت الجيران أو زميلة العمل والدراسة أو المرأة المتزوجة, كذلك لم يعرف المجتمع حينها ظاهرة "الإغتصاب" التي إنتشرت بصورة مخيفة مؤخراً.
مرَّة أخرى, حتى لا يتفلحس (تفَلْحَس الرَّجل : تطَفَّل) علينا أحدهم ويتهمنا "بتضخيم" نسبة التدهور الذي أصاب المجتمع في هذا الخصوص, فإننا نحيلُ القارىء لدفاتر شرطة النظام العام, والإحصاءات المتعلقة بإنتشار مرض الأيدز, والأرقام الخاصة بالأطفال مجهولي الأبوين, والقصص التي يرويها لك أصحاب "الركشات" و "الأمجاد" حول الموضوع, وهى قصص يشيبُ لها الولدان ! وغير ذلك من المؤشرات.
يجدُرُ بالأستاذ أحمد وجماعته قبل أن يهللوا لنجاحات وهمية لم تتحقق في أرض الواقع, أن يتعمقوا في دراسة الأسباب الحقيقية التي أدت لتفاقم هذه المشكلة وعلى رأسها "الكبت الجنسي" الذي يعاني منه الشباب, وكذلك عليهم علاج مشكلة "الفقر" وسوء الأوضاع الإقتصادية التي تدفع بأعداد كبيرة من النساء للجوء إلى هذه المهنة لكسب المال, إضافة للتأثير المباشر للفضائيات والإنترنت, والإنفتاح على العالم وغيرها من الأسباب.
أخيراً نقول : نتفق مع الأستاذ أحمد أنَّ تغييراً بنسبة 180 درجة قد وقع في المجتمع السوداني منذ أن بدأ تطبيق فكر الأخوان المسلمين في مختلف المجالات, ولكنه في رأينا تغييرٌ "للأسوأ" وليس للأفضل, سيما فيما يلي الموضوعات محل النقاش في هذا المقال "البغاء والخمر", التي تمَّ التصدي لها بقوة القانون فقط في محاولة "للغتغتة" وليس للحل, فصارت أشبه بمحاولة تنظيف الغبار بوضعه تحت البساط وليس التخلص منه.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.