الملاحظ هذه الأيام تواتر تصريحات قادة الاسلامويين حول فشل تجربة الاسلام السياسي، ومحاولة طمس معالم هذا الفشل وعدم متابعة تاريخه وجذوره وتقويمه نقديا بهدف تجاوزه، مما يقود لتكرار التجربة الفاشلة مرة أخري، فضلا عن محاولة القفز لشكل آخر من التنظيم مثل النظام الخالف للراحل الترابي، أو الدعوات الزائفة للحوار مع العلمانيين وكأن الصراع الدائر رحاه في البلاد ديني أو بين اسلاميين وعلمانيين ، وليس صراعا طبقيا حول طريق التنمية وبين الديمقراطية والديكتاتورية، أو محاولة التسوية علي أساس الهبوط الناعم الذي يعيد إنتاج النظام وتوسيع قاعدته الاجتماعية ليخدم المصالح الامريكية والاستثمارات الاقليمية والعالمية، وحتي لا يتم طمس تجربة الاسلام السياسي في السودان أو إعادة إنتاجها والتي كانت مريرة، مهم التوثيق لها بدقة، فماهي أهم معالم تلك التجربة؟. برزت الحركة الاسلاموية في السودان في اوائل خمسينيات القرن الماضي، وخلال مسيرتها اتخذت اسماء مختلفة مثل: الإخوان المسلمين، وجبهة الميثاق الاسلامي بعد ثورة اكتوبر 1964م، والجبهة القومية الاسلامية بعد المصالحة مع نظام الديكتاتور جعفر نميري عام 1977م، والمؤتمر الوطني بعد انقلاب الانقاذ في يونيو 1989م، الذي انشق الي وطني وشعبي بعد المفاصلة عام 1999م، اضافة للانشقاقات الأخيرة التي قامت بها مجموعة غازي صلاح الدين باسم التغيير الآن،...الخ، والخطوات الجارية في اطار التسوية لتوحيد هذه المجموعات مرة أخري، بدخول الشعبي في الحوار وقراره المشاركة في الحكومة، وانضمام مجموعة غازي للحوار..الخ. من أهم المؤلفات التي لخصت تجربة الحركة الاسلاموية: مؤلف د. حسن مكي ( حركة الإخوان المسلمين في السودان) ومؤلف د. حسن الترابي (الحركة الاسلامية في السودان: التطور والمنهج والكسب)، ومن هذين المؤلفين يمكن أن نلحظ الآتي: - قامت الحركة الاسلاموية كرد فعل لنمو ونشاط الحركة الشيوعية السودانية في منتصف اربعينيات القرن الماضي. ولم تكتف بذلك، بل تبنت أشكال عملها وتحالفاتها التكتيكية والاستراتيجية في العمل التنظيمي والجماهيري علي سبيل المثال : اتخذت وسط الطلاب (الاتجاه الاسلامي) مقابل (الجبهة الديمقراطية) ووسط الشباب ( الاتحاد الوطني للشباب ) مقابل ( اتحاد الشباب السوداني)، ووسط النساء الاتحاد الوطني للنساء ) مقابل ( الاتحاد النسائي السوداني)، وكذلك الحال وسط المهنيين والاشكال الجبهوية علي النطاق الوطني التي دخل فيها الحزب الشيوعي السوداني. وبالتالي يتضح الطبيعة والنشأة الطفيلية لهذا التنظيم العاجز عن اتخاذ الاشكال التنظيمية التي تنبع من فكره وجهده في دراسة الواقع. رفعت الحركة الاسلاموية الشعارات المبهمة التي لاتغني ولاتسمن من جوع مثل: (الاسلام هو الحل) ، اذ ما معني أن الاسلام هو الحل؟ ، وحل لماذا؟، والشعارات المضللة حول (العلمانية) باعتبارها كفر ورذيلة ودعوة للتحلل الخلقي والالحاد ومؤامرة صهيونية ضد الاسلام.. الخ، في حين أن (العلمانية) هي دعوة لأن تكون السياسة ممارسة بشرية تقبل الخطأ والصواب ، بدون قداسة وحكم زائف باسم السماء، وأن العلمانية لاتعني استبعاد الدين من حياة المواطنين، فما علاقة ذلك بالالحاد والتحلل الخلقي والمؤامرة الصهيونية...الخ؟؟؟!!!! الفرية الثانية من شعارات الحركة الاسلاموية هي الدعاية المضللة ضد (الشيوعية) وتصويرها بأنها كفر والحاد ودعوة للرذيلة وغير ذلك من الاوصاف التي لايقبلها العقل والفكر السياسي الحديث، في حين أن (الشيوعية) هي نظرية علمية تدعو لاقامة مجتمع خالي من كل أشكال الاستغلال الطبقي والعنصري والديني والاثني والجنسي ، وتحقيق الفرد الحر باعتباره الشرط لتطور المجموع الحر، فما علاقة ذلك بالكفر والرذيلة والتحلل الأخلاقي ..الخ؟!!!. - لم تبذل الحركة الاسلاموية جهدا معتبرا في دراسة واقع السودان وتركيبته الاجتماعية والاقتصادية وتطوره التاريخي، ولم تقدم رؤي منتجة وفعّالة لحل مشكلة الأقليات في السودان، مما ادي لانفصال الجنوب،وربما تؤدي لتمزيق ماتبقي من الوطن في حالة استمرار نظامهم الحالي، ولم تعالج قضايا الاصلاح الزراعي والصناعي والتعليم والصحة ..الخ، وعندما وصلت تلك الحركة للسلطة بعد انقلاب 30 يونيو 1989م لم تفعل شيئا سوي أنها تبنت سياسة الاقتصاد الحر وطريق التطور الرأسمالي في ابشع صوره، مثل : خصخصة القطاع العام، وتنفيذ(روشتة) صندوق النقد الدولي بسحب الدعم عن التعليم والصحة والخدمات والسلع الأساسية، وهي سياسات افقرت الشعب السوداني بحيث اصبح 95% منه يعيش تحت خط الفقر فاي اسلام هذا؟! كما دمرت هذه السياسات القطاع العام عن طريق الخصخصة وتم تدمير وبيع مرافق السكة الحديد ومشروع الجزيرة والنقل النهري ،الخطوط الجوية، والمواني البحرية، وبيع اراضي السودان للاستثمارات الرأسمالية الاقليمية والعالمية ......الخ، وتم نهب عائدات النفط والذهب، بل لم يتم تخصيص جزء من عائدات النفط لدعم الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والخدمات حتي تم فقدان 75% من عائداته بعد انفصال الجنوب، كما تم تدمير الخدمة المدنية من خلال تشريد الالاف من الكوادر المؤهلة والمدربة لاهداف سياسية، وتم ادخال نظام التعذيب الوحشي حتي الموت للمعتقلين السياسيين، وتم تعمّيق التفرقة العنصرية وتمزيق وحدة البلاد والتفرط في سيادتها الوطنية( احتلال حلايب من قبل مصر، وأجزاء من شرق وجنوب شرق السودان بواسطة اثيوبيا وكينيا..)، وتم انفصال جنوب السودان، اضافة لتعميق مشكلة دارفور والتي اصبحت مأساة حقيقية جعلت رئيس النظام مطلوبا أمام محكمة الجنايات الدولية. كل ذلك يوضح مدي تخبط هذه الحركة التي ذابت داخل السلطة، ونشأت من صلبها مجموعة رأسمالية طفيلية فاسدة حتي نخاع العظم، وتناسلت وتكاثرت داخل تلك البحيرة الآسنة الراكدة التنظيمات السلفية الارهابية " داعش وغيرها" التي تكفر الجميع، وتصدر الارهاب للدول المجاورة.. ولم تقدم الحركة نموذجا للتنمية والديمقراطية يحتذي به رغم وجودها في السلطة لأكثر من25 عاما ، وحتي الصيغ الاسلاموية التي قدمتها كانت فاشلة مثل نظم: البنوك الاسلامية( زيادة الربا) ، ونظام السلم، والزكاة، ولم تسهم تلك النظم في التنمية وخلق نظام اجتماعي عادل، بل تم نهب تلك البنوك، ونهب مال الزكاة نفسه.. كما لم تنتج هذه الحركة حتي بعد الوصول للسلطة وتسخير كل امكانانها لها فنا أو ادبا يذكر ، اضافة لخلوها من الطاقات المبدعة والخلاقة وعيشها في فراغ ثقافي، ولم تنتج دراسات عميقة في الواقع السوداني كما أشرنا سابقا. اضافة الي أن اخطر ما في دعوة الحركة الاسلاموية هو: اعتبار كل تاريخنا الثقافي منذ ممالك السودان القديمة والنوبة المسيحية جاهلية، والغاء وتحطيم وتهريب آثار تلك الفترة بوسائل وطرق غير مباشرة وماكرة.. الميدان