الخطر الحقيقي الذي يهدد بحر أبيض يتمثل في الخلايا الحيّة التي تجاهر بدعم التمرد    "مدينة هرار" .. بدلا من المانغو والفول السوداني.. ماذا يفعل "الذهب الأخضر" في إثيوبيا؟    مدير شرطة إقليم النيل الأزرق يقف على سير العمل بمستشفى الشرطة بمدينة الدمازين    (خواطر ….. مبعثرة)    وجوه مسفرة    وزير الخارجية الأمريكي في اتصال هاتفي مع البرهان يبحث الحاجة الملحة لإنهاء الصراع في السودان    الخارجية المصرية: "في إطار احترام مبادئ سيادة السودان" تنظيم مؤتمر يضم كافة القوى السياسية المدنية بحضور الشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين    عائشة الماجدي: الموت إكلينيكياً (مؤتمر تقدم)    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    الموساد هدد المدعية السابقة للجنائية الدولية لتتخلى عن التحقيق في جرائم حرب    المريخ يواصل تحضيراته بالاسماعيلية يتدرب بجزيرة الفرسان    مازدا يكشف تفاصيل مشاركة المريخ في ملتقى المواهب بنيجيريا    الجزيرة تستغيث (3)    شاهد بالصورة والفيديو.. زواج أسطوري لشاب سوداني وحسناء مغربية وسط الأغاني السودانية والطقوس المغربية    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة السودانية شروق أبو الناس تحتفل بعيد ميلادها وسط أسرتها    بالصورة والفيديو.. شاهد ردة فعل سوداني حاول أكل "البيتزا" لأول مرة في حياته: (دي قراصة)    اختراع جوارديولا.. هل تستمر خدعة أنشيلوتي في نهائي الأبطال؟    شح الجنيه وليس الدولار.. أزمة جديدة تظهر في مصر    أوروبا تجري مناقشات "لأول مرة" حول فرض عقوبات على إسرائيل    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    السعودية: وفاة الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    والي ولاية البحر الأحمر يشهد حملة النظافة الكبرى لسوق مدينة بورتسودان بمشاركة القوات المشتركة    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يترأس اجتماع هيئة قيادة شرطة الولاية    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    "آبل" تعيد بيع هواتف قديمة في "خطوة نادرة"    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    سامية علي تكتب: اللاجئون بين المسؤولية المجتمعية والتحديات الدولية    بيومي فؤاد يخسر الرهان    نزار العقيلي: (العطا طااااار ومعطا)    تراجع مريع للجنيه والدولار يسجل (1840) جنيهاً    "امسكوا الخشب".. أحمد موسى: مصطفى شوبير يتفوق على والده    الأهلي بطل إفريقيا.. النجمة 12 على حساب الترجي    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    بالنسبة ل (الفتى المدهش) جعفر فالأمر يختلف لانه ما زال يتلمس خطواته في درب العمالة    الإعلان عن تطورات مهمة بين السودان وإريتريا    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    زيادة سقف بنكك والتطبيقات لمبلغ 15 مليون جنيه في اليوم و3 مليون للمعاملة الواحدة    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بروفيسور مصطفى إدريس يكتب : فشل الإنقاذ في تحقيق الشعارات التي نادت بها
نشر في الراكوبة يوم 10 - 09 - 2011


مقدمة:
لا شك بأن السودان يواجه أزمات حقيقية وخانقة تضعه على حافة الصوملة أو اللبينة أو السورنة (نسبة لما يجري في ليبيا وسوريا) ولاشك أن ذلك سببه في المقام الأول السياسات الخرقاء لحزب المؤتمر الوطني وحكومته المحنطة العاجزة عن الاتيان بأي مبادرات جادة لعلاج القضايا الكبيرة العالقة التي أفرزتها نيفاشا وانفصال الجنوب، ولا تلك المتعلقة بحياة الناس اليومية، وما يصاحبها من أزمات اقتصادية واجتماعية متصاعدة يصطلي بنارها الغالبية العظمى من الشعب السوداني، فالإنقاذ أضر بها طول المكث في السلطة والانفراد بها لوقت طويل دون منافس مقتدر ومقنع، فانتهى الحال بها إلى اللامبالاة والاستهانة بأمر البلاد والعباد، فقد عجزت عن أي تجديد أو تغيير في نهجها أو قياداتها التي شاخت وتحنطت في كراسي الحكم فانتهى بها الحال إلى نضوب المعين من أي عطاء نافع للبلد أو لمستقبلها هي نفسها إن أرادت أن تستمر في الحكم. فقد أصبح إصلاحها من داخل مؤسساتها أشبه بالمستحيل وكل من ينكر ذلك إما مكابر شرير عنيد وإما جاهل غبي بليد، أو عميل مغرض حقيد، وأما المراقب الواعي والمنصف صاحب البصر الحديد فإنه يصل إلى هذه النتيجة ويقر بأننا مقبلون على الصوملة أو اللبينة أو السورنة لا محالة إذا لم تتخذ تدابير عاجلة وعاجلة جداً لتغيير هذا الواقع المرير الذي نعيشه، فالاحتقان وصل ذروته في كل أنحاء البلاد غربها وشرقها ووسطها وشمالها وجنوبها الجديد، وكل الفرقاء في السودان يملكون السلاح والمليشيات المدربة وكثيرون منهم يملكون النصير عبر الحدود وفي ما وراء البحار، وإذا انطلقت الشرارة –وهي قاب قوسين أو أدنى- فلن تترك رطباً ولايابساً إلا قضت عليه، ولن يكون هناك (حشاش واحد ليملأ شبكته) ولن ينطبق علينا المثل (دار أبوك كان خربت شيل ليك منها شلية).
في ظل هذا الواقع المريرلم تبق إلا فرصة واحدة لشخص واحد في منظومة الإنقاذ ليقوم بالتغيير ويجنب الأمة ويلات الفتنة وهو الرئيس والرئيس شخصياً ولا أحد غيره إذا توفرت لديه الإرادة للتغيير، ولن تتوفر له الإرادة للتغيير والحال على ما نراه الآن، إذ أنه محاط إحاطة السوار بالمعصم بأناس تواترت الأقوال والشواهد العملية بأنه ليس من بينهم ناصح أمين على أقل تقدير، ورغم ذلك لن نيأس من رحمة الله فربما يخلو الرئيس بنفسه ويعتكف لفترة من الزمن يبتعد فيها عمن حوله ويتأمل فيما يجري في الساحة السودانية من أحداث متلاحقة تنذر بشرور قادمة تضاف إلى ما عندنا سلفا من تعقيدات ومصائب، ولعل الرئيس يجد متسعاً من الوقت فيما تبقى من (الزمن الضائع) من عمر الإنقاذ ليصغي إلى ما قاله ويقوله الآخرون من الحادبين على المصلحة العامة في الساحة السودانية عن الأوضاع الحالية في البلاد، ومنهم أعضاء من داخل حزبه، وآخرون في صف المعارضة، فالرئيس فعلاً يحتاج لسماع أناس من غير بطانته الخاصة الحالية الذين أوصلونا إلى طريق مسدود وأوردوا السودان كله إلى التهلكة والزوال.
وعلى الرئيس أيضاً إن أراد أن يغتنم آخر فرصة متاحة له ويقود حملة التغيير أن يتخلّص من تلك البرامج الروتينية الرتيبة التي يشغلونه بها عمداً حتى لا يلتفت للإصلاحات الحقيقية المطلوبة في الظرف الراهن، ويتخذ القرارات الجريئة التي يحتمها الواقع الذي تعيشه البلاد بعد انفصال الجنوب، فالذين من حوله يريدون له أن يعيش بصورة مستمرة في الأحلام الوردية بأن الإنقاذ ما زالت دولة الإنجاز والإعجاز دون أن يدرك حجم المخاطر التي تحدق بالبلاد ويحس بالنار التي تسري تحت الهشيم لتلتهم الوطن بأكمله.. وعلى رأس البرامج التي يجب إعادة النظر فيها تلك الزيارات المبرمجة والمعد لها إعداداً محكماً مسبقاً من بطانته الحالية وما أكثرها في الآونة الأخيرة.. فما معنى أن يظل الرئيس في تجوال مستمر ويدعى لافتتاح محطة مياه شرب في أم درمان ومن بعدها بأيام يتظاهر معظم أهل العاصمة بسبب انقطاع المياه أو تلوثها بالطمي، وما المغزى من دعوة الرئيس لافتتاح مستشفى أو مباني داخل مستشفى وتظل معطلة لأكثر من عام بعد زيارته لها أو حتى طريق مسفلت أو جسر على أحد الانهار، فكلها أعمال روتينية من صميم واجبات السلطة التنفيذية في المواقع المختلفة على مستوى المركز والولايات والمحليات وتتم في كل أنحاء الدنيا دون احتفالات وحشود يشهدها الرؤساء، فلا تحتاج تلك الإنجازات أصلاً أن يقف عليها الرئيس مباشرة وتحشد له الجماهير ويرتب له صعود المنابر ليمتطي لسانه ويطلق له العنان بخطب مرتجلة أمام الجماهير المحتشدة قسراً، بالترغيب والترهيب وتبديد المال العام، وهذا والله أسوأ أسلوب لإدارة البلاد وحشد التأييد للدولة لم نشاهده إلا عندنا في السودان وفي الدول الشيوعية المندثرة.. وليت الأخ الرئيس يعتمد طريقة أخرى لمتابعة ما يجري في البلاد بتكليف خبراء محايدين يأتونه بتقارير دورية عما يجري في كل ولاية، وبدلاً من أن تطلب الولاية زيارة الرئيس لتريه هي ما تريده أن يراه فالعكس هو الأولى فيجب أن يحدد الرئيس موعد زيارته للولايات بنفسه بناء على التقارير المحايدة التي تأتيه ويطلع عليها بعمق، وعندما يذهب يقف على مواطن الخلل ميدانيا حسب التقارير وليس التوجه للافتتاحات المعدّة سلفاً، وصعود المنابر والثناء على القائمين على الأمر في تلك المواقع وإطلاق التصريحات النارية في شؤون عامة ليس لها علاقة بالزيارة والافتتاحات وفي أحيان كثيرة نحصد ثمارها علقماً مراً. فالرئيس يضطر للثناء على القائمين وإنجازاتهم جهارا نهارا أمام الحشود دون أن يعلم شيئا عن كثير من المآسي التي تعيشها الجماهير المحتشدة بغير إرادتها والمواجع التي تعانيها الأمة من القائمين على أمرها الذين يقومون بتعطيل المدارس وحشد القوات النظامية وإعداد فرق الهتافات والزغاريد لنجاح اللقاء الجماهيري الذي يصرف عليه بسخاء من المال العام وهدفه الأساسي أن يسمع القاصي والداني برضاء الرئيس عن أولئك المسؤولين بصورة مباشرة فيجدد لهم التفويض لمزيد من التسلط على رقاب العباد في ظل الفاقة والحرمان الذي تتصاعد وتيرته بين كل عشية وضحاها، وليت الرئيس في جولاته يمتنع عن الخطابة الجماهيرية ويعلن عن رغبته في سماع الصفوة وأهل الرأي الآخر فلعله يجد عندهم ما يستعين به على المهام الخطيرة التي تنتظره في مقبل الأيام حيث يتحتم عليه القيام بإجراءت رادكالية عاجلة خلال الفترة القليلة القادمة لإنقاذ البلاد من مصائب الإنقاذ، وربما انقاذ أهل الإنقاذ أنفسهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم.
لا أريد أن أسترسل في الحديث عن المهددات التي تواجه السودان الآن بعد ولادة دولة جنوب السودان بكل تبعاتها السالبة، وانفجار التمرد في جنوب كردفان بصورة مفاجئة وحلف كاودا الذي تشكل حديثا برعاية من حكومة الجنوب ودعم من امريكا واسرائيل وآخرين وكذلك المشكل المزمن في أبيي التي بدأ تسليمها لقوات أجنبية من الجارة العزيزة أثيوبيا ودار فور التي ما زال التواصل بين مدنها الكبرى يتم عبر الأطواف والحشود العسكرية وجنوب النيل الأزرق التي تعد العدة للتمرد، كل هذا بجانب الضغوط الاقتصادية على الأمة بسبب الغلاء الطاحن الذي يتصاعد مع بزوغ كل فجر جديد في ظل فساد واسع (عينك يا تاجر) وعجز إداري لم يسبق له مثيل في تاريخ السودان المعاصر حيث تتحدث الحكومة نفسها عن جشع التجار واستغلال حاجات الناس وتعجز أن تقوم بأي إجراءات عملية لملاحقتهم والقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمات العلنية ولكن لا تتوفر لديها الإرادة للقيام بذلك لأن كل الامكانات الأمنية والشرطية مسخرة حاليا لحماية النظام والحيلولة دون قيام أي مظاهرات تنادي بإصلاح النظام أو إسقاطه.
نواجه كل تلك التحديات في ظل غياب تام للناصح الأمين على كافة المستويات في الحكم، بل وإصرار على العنجهية ودفن الرؤوس في الرمال من بعض قادة الإنقاذ الذين يتسابقون في التصريحات المستفزة للأمة.. السيف البتار.. لحس الكوع.. وإحراق من تسول له نفسه بالخروج.. حتى أصبح البعض يقول بأن قادتنا (مكتوبين- عاملين ليهم عمل) وسرى فيهم (العمل) بحيث لا يجدي معه حفلات أعتى شيخات (الزار) فهم يتبارون في إطلاق التصريحات التي تعجل بتقويض دولتهم وانهيارها بأنفسهم، فوالله الذي لا إله غيره فقد أصبحت سياسات أهل الإنقاذ ومواقفهم تجعل الحليم حيران، والعاقل مذهولاً والحادب محبطاً والشامت مغتبطاً.
على وجه العموم فنحن الآن أمام ثلاث خيارات في الشأن السوداني: اولها مبادرة عاجلة من الرئيس باصدار قرارات غير تقليدية لاحداث التغيير المطلوب وفي مقدمتها أن يلبس الرئيس الجلباب القومي ويتخلى عن قيادته للمؤتمر الوطني البائس المفلس ويعلن عن فترة انتقالية بمواقيت محددة يستعين فيها على حكم البلاد بخبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة بعيدا عن المحاصصة السياسية والشروع فورا في إعداد مسودات للمواثيق التي ترد للأمة حقها في اختيار الطريقة التي تحكم بها ومن ثم الشروع في انتخابات عامة في ظل حريات مشرعة كما سأورد بعض ملامحه بالتفصيل فيما بعد، وأما الخيار الثاني فهو أن يتحرك الحادبون على الوطن من كافة ألوان الطيف خاصة الإسلاميين الذين يقفون في الرصيف والذين ملوا الانتماء للمؤتمرين الوطني والشعبي، ويتواثقون على بناء تنظيم جديد من قواعد الشعب السوداني تحت مظلة شعارات جامعة وأهداف قومية واضحة تستوعب تعقيدات الظرف الراهن في السودان ويتجاوزون بذلك التنظيم الجديد تحجر السلطة القائمة وتعنتها وعجز المعارضة الضعيفة وتهافتها، ويسعون بعد استنفار قاعدة مليونية عريضة منظمة بدقة من الشعب في مدة زمنية وجيزة لتشكيل قوة ضاغطة ومنضبطة تثبت للجماهير بأنها تلبي طموحاتهم وتسعى لعلاج مشاكلهم فيفرض ذلك التنظيم نفسه في الساحة ويسعى لإحداث التغيير وسحب البساط من كل الفرقاء الموجودين في الساحة بما فيهم المؤتمر الوطني، ويتم ذلك دون استفزاز للقوات النظامية إذا لم يتم انحيازها الطوعي والفوري لمناصرة التغيير والوقوف مع خيارات الشعب مع اليقظة التامة للحيلولة دون حدوث فوضى يدرك الجميع بأن السودان لا يتحملها أبداً، ولابد من الاستفادة وأخذ الدروس والعبر من تجارب الشعوب التي سبقتنا في محيطنا العربي كما سأورد معالم كل ذلك أيضا لاحقا، وكلا الخيارين الأول والثاني يمكنهما السير معا جنبا الى جنب ونأمل أن يبادر الرئيس بالسرعة المطلوبة واتخاذ القرارات الشجاعة المطلوبة لاحداث التغيير طوعا قبل أن تسبقه الأحداث ويتصاعد الضغط الشعبي العارم وتصل الأحداث الى نقطة اللاعودة كما حدث في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن ويصبح حينها هنالك شعار واحد (الشعب يريد إسقاط النظام)، أما الخيار الثالث إذا لم ينجح الأول أوالثاني فهو الصوملة لا محالة ولا شيء غيرها كما هو واضح للعيان.
لم أقصد بتلك المقدمة الطويلة التحامل على الإنقاذ ونقدها والهجوم عليها واتهامها بالفشل بدون أدلة دامغة وبراهين ساطعة، وقد كتبت عن أداء الإنقاذ وحزبها خلال العقدين الماضيين مطولاً بعد الانتخابات التي جرت في أبريل 2010 ويمكن الرجوع لتلك المقالات في موقعي على شبكة المعلومات الدولية، ولكن لابد أن نستعرض في المقالات القادمة بعض ما نادت به الانقاذ من شعارات عند مجيئها ونقيم كسبها فيما بشرت به ونطرح السؤال هل واقع الحال اليوم في السودان يعبر عن تلك الشعارات ويجسدها أم أن هناك نكوصاً وردة عن تلك الشعارات لا تخطئها عين كل مراقب للمسيرة وما سببها..
انتفاضة الأُمة وتحديات المستقبل10
فشل الإنقاذ في تحقيق الشعارات التي نادت بها
بروفيسور مصطفى إدريس
أعلنت الإنقاذ عند مجيئها أنها صاحبة مشروع حضاري يسعى للمحافظة على وحدة البلاد وكرامة الأمة وسيادتها واستقلال قرارها وذلك بتحكيم شرع الله وبسط الشورى والعدالة وبناء دولة المؤسسات ووقف التدهور الأمني والاقتصادي المريع والنهوض بمُقدّرات الأمة واستغلال الموارد على ظهر الأرض وباطنها والارتقاء بالتعليم والصحة ورتق النسيج الاجتماعي...وهلمجرا....فأين نحن الآن من كل تلك الشعارات؟ هل حافظنا على وحدة البلاد وسيادة الأمة وبلادنا تتقطع وتقع تحت الاحتلال الأممي (الهجين والصافي) وتنهال علينا القرارات الدولية التي تسلب السيادة كل يوم حتى أصبح من العسير تعدادها بأرقامها التي فاقت تلك القرارات التي صدرت في شأن القضية الفلسطينية خلال أكثر من نصف قرن من الزمان، ولعل آخرها وأشدها إيلاماً علينا ما كان بشأن التمديد الأخير للقوات الدولية في دار فور والذي أعطاها أيضًا حق التدخل في كل شبر من أرض السودان والتنسيق مع القوات الموجودة في مواقع أخرى من أراضيه أو في دول الجوار ...ولا نملك نحن في المقابل أمام كل ذلك إلا الاحتجاج النظري والعويل ومن ثم التسليم بالأمر الواقع، فهل تمّ كل ذلك بسبب المشروع الحضاري الذي أعلنّاه كما يقول البعض أم أن غالب تلك التدخلات الخارجية سببها سوء التدبير منّا والاستغفال والاستحمار والاستدراج الذي يسوقنا إليه خصومنا؟ وهل نفعنا تقديم التنازلات والتودد إليهم والتعاون معهم حتى النخاع وفي أخطر الملفات الأمنية؟ وهل رضوا عنّا بعد أن وافقنا على فصل الجنوب واعترفنا بدولته في ظل قضايا عالقة كثيرة وعلى رأسها ترسيم الحدود ومشكل أبيي وجيوش الحركة الشعبية في الشمال....؟
كل مراقب مُنصف لمسيرة الإنقاذ يقول إنّها جلبت كثيرًا من عداوة الآخرين لها بسوء تدبيرها وتطاولها ومد أرجلها أبعد من طول لحافها وعدم مقدرتها على المناورات السياسية الذكية، وقد عرف خصومها كثيرًا من مواطن ضعفها وعلى رأسها التشبث بالكراسي وعدم القدرة على التغيير والتعامل بذات الكروت المحروقة، فظلوا ينصبون لها الشراك فتقع في الفخ بإرادتها ولا تستطيع الخروج منه حتى بتقديم التنازلات تلو التنازلات والانبطاح والقبول بالضرب على (القفا) والأمثلة في هذا الباب لا تحصى ولا تعد طوال مسيرة الإنقاذ.....هل نذكر موقف حكومتنا من غزو العراق للكويت وما تبع ذلك من مضايقات، وهل نذكر فتح البلاد على مصراعيها للحركات الإسلامية المخترقة وغير المخترقة وما نجم عن ذلك من مآسي للسودان إذ كان دخولهم بدون ضوابط واضحة... وهل نذكر قيام المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي والذعر الذي أصاب القوى الكبرى ودول الجوار منه.....وهل نذكر محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في أديس أبابا...... دعونا نأخذ مثالاً واحداً من تلك الأحداث - وغيرها كثير- ونغوص في آثاره المدمرة على مسيرة الإنقاذ وليكن ذلك الحدث هو الاتّهام لحكومتنا بالمشاركة في تدبير محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995.
تلك الحادثة مهما تنصلنا منها وتبرأنا فإن اعترافات الممسكين بزمام الأمور في تلك الفترة تقول بأن حكومتنا كانت ضالعة فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، صح ذلك أم لم يصح فدعونا نتأمل في المصائب التي جلبتها لنا إفرازات تلك الحادثة بعد فشلها وما ظللنا نعانيه من ويلاتها حتى الآن؟ كل الشواهد تقول إن تلك الحادثة قد استغلت استغلالاً بشعاً واتخذت ذريعة للابتزاز المستمر للإنقاذ من قبل النظام المصري البائد وكذلك من قبل ما يسمى بالمجتمع الدولي، فكان من ثمارها احتلال حلايب بدون مقاومة أو مساومة تذكر وكان استقطاب جيراننا ضدنا واستنفارهم لدعم التمرد في الجنوب حتى من دول شديدة التحفظ والمحافظة في محيطنا العربي، وكانت الحرب تشن على السودان عبر الحدود من يوغندا وكينيا وأثيوبيا وأريتريا بتمويل من القذافي وبعض دول الجوار الخليجي، واستأسد علينا الجيران الذين ساندناهم في الوصول للحكم في بلادهم وما زلنا نستدر عطفهم ونخشى بأسهم حتى اليوم في سابقة لم تحدث في تاريخ السودان في التعامل مع هذه الدول، وقد كانت سياسة حرب السودان وغزوه عن طريق جيرانه سياسة مدروسة ومتفق عليها وقد أعلنت عنها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق في أكثر من مناسبة.
كانت تلك الحادثة أيضاً من أكبر العوامل لزرع الفتنة وبذور الشقاق داخل القيادة في الدولة والحزب والتي توجت بانشقاق الإسلاميين في عام 1999 م. أقول ذلك وعندي تفاصيل كثيرة عن التحولات في المواقف والصراعات التي كانت تدور وسط القيادات في تلك الفترة التي أعقبت محاولة الاغتيال.... من هم الذين تم تهميشهم ومن هم الذين تم إبعادهم ومن هم الذين لقوا حتفهم ومن هم الذين تمت تصفيتهم ......ومن هم الذين صعد نجمهم ومن هم الذين بدأوا يقيمون المحاور داخل القيادة الى أن وصلنا الى المواجهة السافرة الخجولة في مذكرة العشرة الشهيرة وما تبعها من انشقاق ومواجهة بين الفريقين تسببت في معظم ما يعانيه السودان اليوم.
واستطيع أن أؤكد القول بأن ولادة أزمة دار فور لم تبدأ في عام 2003 بل نشأت وترعرعت من الصراع الذي أعقب محاولة اغتيال حسني مبارك داخل القيادة في الحزب والدولة أيضاً، وقد تابعنا بأسف شديد وحسرة بالغة تمرد الأخ داوود يحيى بولاد وخروجه على التنظيم والدولة وتعاونه مع الحركة الشعبية وتحركه بجيش عرمرم من الجنوب الى دار فور، وكثيرون منّا يعلمون دوافعه لتلك المغامرة الغريبة وقتها والتي لم تخطر على بال كل من يعرف بولاد عن قرب - وأنا منهم، وكذلك تابعنا الآثار التي نجمت عن إخماد تمرده، والتفاعلات التي كانت تدور في أروقة الحزب والدولة، فقد كانت تلك الأحداث (خميرة) لما تم لاحقاً في دار فور من تصعيد ومواجهات عسكرية ضاع خلالها الآلاف من الأبرياء وتعمقت مشاعر الكراهية والعداء بين أهل الملة الواحدة والتاريخ والمصير المشترك وتوقفت عجلة التنمية وأصبح (حالنا مكشوفاً) تلوكه كل الألسنة على ظهر الأرض، ولم يسلم من آثار فتنة دار فور رمز الدولة نفسه حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمرًا باعتقاله على ضوء اتهامات موجهة له بشأن الحرب في دار فور وتريده أن يمثل بسببها أمام القضاء الدولي في لاهاي، وأصبحت تلك الملاحقة للرئيس هي الأخرى من الهموم والشواغل القومية الكبرى في مسيرة الدولة وعلاقاتها مع الأمم والشعوب......حدث كل ذلك وما يزال تبادل الاتهامات بين الوطنيين والشعبيين على أشده ... من يقف وراء التمرد في دار فور.... ومن قام بالتصعيد...ومن ....ومن... فالمشكلة ما زالت تراوح مكانها وتتصاعد وتجد من يصب عليها الزيت في كل مرحلة من مراحل تطور الأحداث في السودان ولم يجدنا نفعاً اتفاق أبوجا ولا توقيع نيفاشا وإنفاذ كل ما طلب منّا فيها ولن يكون اتفاق الدوحة بأفضل من سابقيه، وكل المراقبين السياسيين يقولون إنها مرشحة لمزيد من التصعيد بعد انفصال الجنوب وقيام حلف كاودا إذا لم تتم المراجعة والمحاسبة وتغيير المنهج الذي تسير به البلاد حالياً ..... فاتقوا الله في الأمة يا قادتنا.....
استمر الصراع والتنافس والكيد المتبادل بين الفرقاء الإسلاميين بعد الانشقاق ولم يقتصر على دار فور وامتد الى قضية الجنوب أيضاً بالرغم مما بذلناه في سبيلها من دماء غالية وأهدرنا فيها من موارد كان يمكن أن تحول السودان كله إلى جنة، فكانت مذكرة التفاهم بين الشعبي والحركة الشعبية في جنيفا التي أدانتها الحكومة واستنكرتها بأشد الألفاظ والألقاب، ولكن ما لبثت هي الأخرى أن سارعت الى الجلوس مع المتمردين وقدمت لهم التنازلات التي لم يحلموا بمثلها وهم يتقدمون نحو كوستي بجيوشهم قبل مجيء الإنقاذ..... فكانت نيفاشا التي لم تغب عن أجوائها أيضًا ظلال محاولة اغتيال حسني مبارك وما تبعه من انشقاق وشقاق بين الإسلاميين فقد ظل كل طرف يسعى لتسجيل هدف في مرمى الطرف الآخر بالتودد الى خصومه خاصة الحركة الشعبية. كل ذلك جعل مهمة رعاة المفاوضات الغربيين سهلة في نيفاشا وتمكنوا من ممارسة الضغوط المستمرة خلال تسعة أشهر متواصلة مع استعراض العضلات ورفع الكروت الحمراء وفتح الصحائف السوداء والتهديدات عند الضرورة حتى ولدت نيفاشا (بسكين النفاسة) وبكل تلك التشوهات الخلقية والخلقية حيث التنازلات المخزية والمحزنة التي قادتنا الى الشراكة المجحفة مع الحركة الشعبية التي تنازلنا لها عن الجنوب بكامله وأشركناها في حكم الشمال وتقاسم الثروات البترولية ويالها من مصيبة.
بعد توقيع الاتفاقية لم نفطن لخطورتها ولم نخضعها لنقاش وافٍ يبين عيوبها ويمكننا من التحوط للمخاطر المترتبة عليها وتمّ تمريرها عبر الأجهزة المحنطة والمغلوب على أمرها دون تمحيص وذلك من باب حفظ ماء وجوه الذين وقعوها - كيف لا وهم من سادتنا وقادتنا وفلذات أكبادنا- وظللنا من بعد ذلك غارقين في المعارك الجانبية على مدى خمس سنوات في المرحلة الانتقالية مع الحركة الشعبية التي أفلحت في جرنا إليها بالاستخدام الأمثل لقدرات فاقان وعرمان على السفسطة والثرثرة ووضع المطبات حتى داهمنا الاستفتاء الذي تم دون ترسيم الحدود أو حل مشكلة أبيي أو الاتفاق على مصير الجيوش في جنوب كردفان والنيل الأزرق وكذلك الديون الخارجية والنفط وغيرها من القضايا التي ما تزال عالقة.....والتي أقسمنا في بادئ الأمر على أن الاستفتاء لن يتم دون حلها. وتم الانفصال المؤلم وبأغلبية ساحقة تظل شاهدة على عجزنا في التنبؤ بالأحداث وضعف التدبير السياسي أبد الدهر، ولم تشفع لنا أو تسعفنا المليارات التي بددناها بلا رقيب ولا حسيب في الجنوب قبيل الاستفتاء مباشرة أملاً في تغيير النتيجة أو على الأقل تقليل نسبة المصوتين للانفصال الى الحد الذي يحفظ ماء الوجه، فقد كانت تلك المشاريع التي سعت القيادة لتنفيذها في الجنوب قبيل الاستفتاء أشبه ب (علوق الشدة) وهو إطعام الدابة قبل إسراجها استعداداً للسفر مباشرة وهي جائعة منذ زمن بعيد فلن يعينها ذلك العلوق ويقويها لقطع المشاوير الطويلة التي تنتظرها كما يقول أهلنا الطيبون.....تم انفصال الجنوب بالرغم من الدماء التي أريقت منذ الاستقلال من أجل المحافظة على وحدة السودان وخاصة في عهد الإنقاذ التي صعدت الحرب وعملت على دحر التمرد في إطار شعارات التوجه الحضاري ونشر الدعوة، وتمّ الانفصال وذهبت معه الثروات النفطية التي بذلنا جهوداً خارقة لاستخراجها واستثمارها وكل المراقبين يقولون بأن ذلك لن يحقق السلام المزعوم....
كل المراقبين في الساحة يقولون بأن الانفصال الذي تم لن يحقق السلام المنشود ولن ينتج منه إلا المزيد من الحروب والمواجهات الدامية التي يخسر فيها الجميع وعلى وجه الخصوص شمال السودان كما نرى الآن، حيث لم يمض سوى شهر واحد على الانفصال (وأهلنا يقولون العينة من باديها) حتى تفجر الصراع المسلح في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق تتهيأ لذلك أيضاً وقام تحالف كاودا بين المتمردين في دار فور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وربما تبعهم آخرون.... وهرعت وفود التمرد الى إسرائيل انطلاقًا من جوبا عاصمة الدولة الوليدة وصعدت أمريكا والغرب من حملتها ضد الحكومة وقد تنبأنا بكل ذلك في مقالات سابقة نشرت قبل أكثر من عام ولكن لا حياة لمن تنادي.
إن الذي تم في نيفاشا وما تبعه من شراكة غريبة ومريبة مع الحركة الشعبية اتسمت بالتدليل والحرص على عدم التصعيد والمواجهة معها في كثير من القضايا التي طرأت خلال السنوات الخمس الماضية زادها تعنتاً وإصرارًا على كسب المزيد من التنازلات والتي يصعب علينا نحن عامة الشعب السوداني تفسيرها أو قبولها في حدود إبداء حسن النية أو السذاجة وعدم الخبرة (والاستكرات) فحسب، بل الأمر ربما كان أعمق من ذلك بكثير، وحتما يحتاج الأمر برمته لمراجعة شاملة ومحاسبة لمن وصلوا بنا الى هذه النهاية المأساوية المؤلمة والمخيبة للآمال، فالتحقيق في مثل هذه الأحداث الجسام يحدث في كل الدول التي تحترم نفسها وشعبها وتنظر الى مستقبلها وقد فعلت إسرائيل ذلك بعد الهزيمة التي تجرعتها من حزب الله وحركة حماس وطارت رؤوس وخلت مقاعد وسجن آخرون، فنحن في انتظار الرئيس ليفي بوعده الذي أعلن عنه بالمراجعة الشاملة لمسيرة الإنقاذ خلال الفترة الماضية والدخول في مرحلة جديدة كما سموها الجمهورية الثانية، فالحال لن يستمر على ما كان عليه في الجمهورية الأولى مهما حاولنا تبرير ما تم بالكلام المعسول والوعود الفارغة والأماني المستحيلة، وألقينا باللائمة على الحكومات المتعاقبة على حكم السودان وحملناها معنا قسطًا من وزر الانفصال.
وهكذا عزيزي القارئ فإن حادثة واحدة مما كسبت أيدينا وليس بسبب كيد الأعداء سواء جاءت تلك الحادثة بتفلتات فردية أو توجه رسمي للدولة تسببت في مآسي دفع ثمنها الشعب السوداني باهضاً ودفع ثمنها المشروع الذي جاءت به حركة الإسلام في السودان ودفع ثمنها قادة البلاد وحكامها وما يزال ينتظرنا المزيد إن لم نستيقظ وننتفض. وعدم علاج تلك الحادثة بالحسم الواضح في وقتها ظل مصدر ابتزاز مستمر للدولة وقادتها، وقد ظلت تفاصيلها في طي الكتمان ولم يرشح منها إلا النذر اليسير وفي إطار المكايدات بين الإسلاميين بعد انشقاقهم ولكنها كانت ورقة قوية تمكن خصوم الإنقاذ من استثمارها بصورة مستمرة حتى الشهور الأخيرة قبل رحيل الرئيس مبارك حيث تابع المراقبون في الساحة السياسية السودانية باستغراب شديد الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس المخلوع حسني مبارك برفقة القذافي الذي شارف الخلع أيضًا للسودان والإملاءات التي حاولا فرضها على القيادة في السودان كما تحدثت عن ذلك بعض وسائل الإعلام المنشورة والمستورة، وقبلها أيضاً تواترت الأخبار عما تلقاه أحد المسؤولين الكبار من معاملة لا تليق بالمقام السيادي الرسمي لدولتنا عند زيارته لمصر ومحاولته اللقاء بالرئيس حسني مبارك قبل عامين، حيث قوبل بطريقة كان فيها المزيد من الاستفزاز والابتزاز.......... بعد هذا السرد الموجز جدًا نطرح السؤال مرة أخرى أين نحن الآن من شعار الحفاظ على السيادة ووحدة التراب وكرامة الأمة وهل ما واجهناه في هذا الباب كان بسبب كيد الأعداء أم بسوء كسبنا نحن؟.
كل المراقبين في الساحة يقولون بأن الانفصال الذي تم لن يحقق السلام المنشود ولن ينتج منه إلا المزيد من الحروب والمواجهات الدامية التي يخسر فيها الجميع وعلى وجه الخصوص شمال السودان كما نرى الآن، حيث لم يمض سوى شهر واحد على الانفصال (وأهلنا يقولون العينة من باديها) حتى تفجر الصراع المسلح في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق تتهيأ لذلك أيضاً وقام تحالف كاودا بين المتمردين في دار فور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وربما تبعهم آخرون
إن الذي تم في نيفاشا وما تبعه من شراكة غريبة ومريبة مع الحركة الشعبية اتسمت بالتدليل والحرص على عدم التصعيد والمواجهة معها في كثير من القضايا التي طرأت خلال السنوات الخمس الماضية زادها تعنتاً وإصرارًا على كسب المزيد من التنازلات والتي يصعب علينا نحن عامة الشعب السوداني تفسيرها أو قبولها في حدود إبداء حسن النية أو السذاجة وعدم الخبرة (والاستكرات) فحسب
انتفاضة الأُمة وتحديات المستقبل11
فشل الإنقاذ في تحقيق الشعارات التي نادت بها
بروفيسور مصطفى إدريس
أما فيما يختص بالتزام الإنقاذ وكسبها في تطبيق الشريعة واعتماد الحكم الراشد والنزاهة والشفافية واتباع المؤسسية في صنع القرار وتحقيق العدالة والرفاهية ورتق النسيج الاجتماعي فإن كل ذلك ظل شعارات تلوكها الألسن ويتم استخدامها كمُسكّن عند اللزوم بغرض دغدغة عواطف الجماهير خاصة عند النوازل الكبرى والانتخابات، حيث تستخدم تلك الشعارات خاصة الشريعة كأدوات من أجل الكسب الرخيص للتأييد والسعي المُستميت للبقاء في الحكم لأطول مدة ممكنة دون أن يسند ذلك جهد مقدر لتنزيل تلك الشعارات في واقع حياة النّاس العامة بصورة جادة طوال الفترة السابقة من عمر الإنقاذ التي تمت فيها (دغمسة الشريعة) كما جاء في اعترافات المسؤولين الكبار أنفسهم، ومهما تحدثنا عن كثرة المساجد وازدياد روادها والاهتمام بالقراءن وكثرة الحفاظ واستخراج البترول وإقامة السدود ورصف الطرق وزيادة عدد الجامعات والمدارس والوفرة في السوق.....بالرغم من كل تلك الإنجازات فإن شواهد الواقع اليوم تكشف عن (دغمسة واسعة) وتراجع كبير جدًا في الأداء الرسمي للدولة تسبب في انحسار المثل واندثار القيم التي عُرف بها الشعب السوداني طوال تاريخه الممتد عبر العصور من حب الكرامة والكرم والشهامة وعزة النفس والحياء والعفاف والتعفف والتواضع والتكافل الطوعي والمشاركة في السراء والضراء والمواساة والتداخل الأُسري والتعاون والنفير والنفرة وضيق الهوة بين الفقير والغني ومناصرة الحق، أين تلك القيم اليوم مع ما نراه عياناً بياناً من تنامي الجهوية والقبلية والطبقية التي تميز بين من ينتسبون إلى الإنقاذ وبين من لا ينتسبون لها أومن يعارضونها، فحالنا لا تختلف عن حال الشعوب التي انتفضت من حولنا في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن، لا أظن ذلك أبداً فالشعب كله يراقب حال الذين ينتسبون للطبقة الحاكمة في كافة المواقع من المحليات إلى الأجهزة الدستورية العليا وفي الشركات والمؤسسات وغيرهم ممن تظهر عليهم آثار النعمة فجأة وبدون مقدمات أو سند تاريخي بأنهم من الوراث، فكثير ممن كانوا يرقعون الثوب ويخصفون النعل قبل الإنقاذ أصبحوا أصحاب شركات وممتلكات عابرة للقارات فهل هي (الفلاحة) والاجتهاد والجهد الذاتي فقط ما أوصلهم إلى تلك الحال أم هي المحسوبية والتمييز والسرقة المباشرة وغير المباشرة. لا يحتاج قادتنا إن توفرت لهم الإرادة لمحاربة الفساد أن يطالبوا وسائل الإعلام التي تكشف كل يوم عن قرائن تشير الى الفساد في موقع ما أن تأتي بدليل قاطع على الفساد بينما ترفض المؤسسات تزويد الإعلام بأي تفاصيل وتتستر على منسوبيها وترفض تمليك أي إعلامي تفاصيل الوثائق التي تثبت أو تنفي ما رشح في وسائل الإعلام، هذا إذا لم يكن جزاؤه الضرب والحبس والتنكيل والتهديد كما حدث لبعض الصحفيين. فأين الشفافية في ممارسة الحكم؟ عموماً فإن المتابع للأحداث عبر النوافذ الإعلامية المتاحة -وما أكثرها في هذا الزمان- وكذلك التقارير العلمية التي تنشرها بيوت الخبرة المحايدة وغير المحايدة يصاب بالغثيان والخجل والإحباط مما آل إليه الحال في أداء الدولة السودانية، ولا أقصد بذلك الإعلام المتحامل علينا ولكن مصادر المعلومات التي تنتهج النهج العلمي وفق معايير متفق عليها في الجامعات ومعاهد البحوث المتخصصة والتحليل الإحصائي الدقيق كلها تؤكد أننا في تراجع مستمر ونأتي في ذيل القائمة على المستوى العالمي في غالبية مناحي الحياة وفق المعايير المتفق عليها، وينطبق ذلك على سيادة حكم القانون – أي قانون كان- وعلى تفشي الفساد الإداري والمالي الذي يزكم الأنوف وفي الدمار الذي أصاب الخدمة المدنية وانهيار مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية وتفشي المحسوبية وعدم الاتقان في كل عمل يؤدى في أي موقع خدمي، صناعي، تجاري، وظيفي وفي تدهور البيئة وتفشي الأمراض والأوبئة وانتشار الجريمة بأنواعها المختلفة وتلاشي الحدود ما بين الدولة والحزب والنقابة. ومما يؤسف له حقاً أن كل ذلك يتم على مرأى ومسمع من المجموعة المحدودة التي تستأثر بالحكم وصناعة القرار والتي تحيط نفسها بطوابير من الكوادر الضعيفة التي لا تنصح من أهل الولاء المزيف فكانت النتيجة الحتمية أن تحولت طموحات الإنقاذ التي جاءت من أجلها الى سراب وتحولت إنجازاتها الكبيرة التي تحققت إلى إخفاقات بسبب عدم القدرة على تسويقها بطريقة مقبولة وأصبح كثير من خصومها الحقيقيين أو المتوهمين أبطالاً بسبب قدرتهم على تسويق إخفاقات الإنقاذ وسوء تصرفات بعض قادتها دون أن يخوضوا ضدها حرباً بالسنان، والأمثلة في هذا الباب لا تحصى ولا تعد وقد فصلت في إخفاقات الدولة خلال الفترة الماضية في مقالات سابقة نشرت بعد الانتخابات التي جرت في أبريل عام 2010 يمكن الرجوع إليها في موقعي على الشبكة العنكبوتية Mustafaelbashir.comوبدلاً من الاستفادة مما ورد في تلك المقالات من نصائح فقد جلبت علينا نقمة بعض القائمين على الأمر وغضبهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومهما أحسنّا الظن في نوايا قادتنا الكبار وصدق توجههم في إحقاق الحق وتوفير العدالة ومحاربة الفساد فإنني على يقين تام بعد معايشة لصيقة لأداء الدولة في مواقع كثيرة بأنهم لن يفلحوا أبدًا في إقامة الحق ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة في الجمهورية الثانية في ظل الأوضاع القائمة حاليًا وفي وجود ذات الوجوه المتحكمة في دولاب الدولة من المحترفين المخضرمين والمعتقين الذين عرفوا كيف يستخدمون اسم الحزب الحاكم في إملاء ما يريدون وتنصيب من يحبون ويتغلغلوا في النقابات التي سلبت إرادة العاملين وأصبحت حكراً لفئات بعينها على مر السنين ولا يقبل البعض منهم أو يساوم بفراقها حتى بعد بلوغ سن المعاش، وكذلك هناك كثير من التكوينات والمنظمات الإنقاذية الرسمية وغير الرسمية التي تمكن العاطلون من كل المواهب والمؤهلات والمفسدون في الأرض وأصحاب المصالح الشخصية من التسلل إليها وظلوا يتسببون في تكريس الواقع التعيس الذي تعيشه الدولة والشعب والذي يزخر بالأزمات المتلاحقة التي لا تترك للقادة للكبار وقتاً- إذا أحسنا بهم الظن- ليتابعوا ما يجري ويطلعون على ما تقوم به الذئاب وبني آوى والرخم من تعطيل لمصالح البلاد والعباد. فقد عرف أؤلئك المتسلقون كيف يلعبون ويموهون على الكبار ويكسبون ود بعضهم وينالون ثقتهم المطلقة ويقنعونهم بكفاءتهم، وأهم من ذلك كله عرفوا كيف يؤدون فروض الولاء والطاعة المبالغ فيها وبطريقة ملائكية بحيث لا يردون للكبار أمرًا ويفعلون كل ما يطلب منهم على الوجه الأكمل خاصة في المسائل البعيدة عن المصلحة العامة للأمة. وكل من يقرأ هذه السطور ويتأمل في محيطه الذي يعمل فيه في مؤسسات الدولة المختلفة يجد شواهد على ما نقول وقد تحدث عن ذلك الوباء القاتل كثير من الحادبين على المسيرة مرارًا وتكرارًا قبل الشامتين والمتربصين ولكن لم يحدث أي تغيير يذكر، نفس الوجوه ونفس الشخصيات وذات المنهج الى أن تقع الطامة الكبرى ويعم الطوفان ولا عاصم في ذاك اليوم من أمر الله وسننه الذي لا يتخلف عنها إلا من رحم. فالإنقاذ يا معشر القادة الكبار قد ضلت طريقها أو اختطفت إن لم تكن قد تنكبته عمداً وبفعل فاعلين مندسين، وبسبب أفعالهم أصبحت دولتنا في المرتبة الثالثة (قبل الطيش) في قائمة الدول الفاشلة في العالم بعد أن توفرت فيها معايير الدولة الفاشلة الاثنا عشر وهي : 1 / الضغوط الديمغرافية ( سوء توزيع السكان والنزاعات بينهم ) 2 / اللاجئون والمهجرون والمشكلات الناتجة عن الهجرة والنزوح 3 / فساد الحكم وغياب المحاسبة والشفافية وضعف الثقة بالمؤسسات 4 / هجرة العقول من أوطانهم 5 / تدهور حاد في تقديم الخدمات للجمهور 6 / استفادة أقلية معينة من النظام السياسي وهضم حقوق الأغلبية المهمشة 7 / وجود تراجع اقتصادي حاد واختلال الميزان التجاري وضعف سعر الصرف بالعملة المحلية وانخفاض في معدلات الاستثمار وهبوط في الدخل الإجمالي 8 / انتهاك حقوق الإنسان وانتهاك حرمة القانون 9 / وجود انشقاقات داخل النخب الحاكمة وظهور انقسامات دستورية حادة 10 / تدهور الوضع الأمني (دولة داخل دولة) مثل سيطرة نخبة عسكرية داخل الجيش أو مجموعة أمنية معينة واندلاع نزاعات مسلحة بين مراكز القوى المختلفة 11 / غياب التنمية الاقتصادية وعدم المساواة بين السكان في الوظائف والتعليم والمداخيل 12 / تدخل دول أخرى فى شؤون الدولة الداخلية من خلال دعم تنظيمات عسكرية وشبه عسكرية والاستعانة بقوات دولية أو قوات حفظ سلام. وواضح أن كل من يتأمل في هذه المعايير يمكنه أن يجد لها آلاف الأمثلة من واقع الحال في السودان اليوم ويتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن دولتنا قد فشلت في الوفاء بوعودها التي قطعتها عند مجيئها قبل أكثر من عقدين من الزمان ونكتفي للفت نظر المسؤولين الكبار بأسئلة نطرحها عليهم عن مدى إلمامهم بعظم المصائب التي يعاني منها السودان اليوم بسبب الاخفاقات في أداء الدولة التنفيذي في الجوانب الإدارية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية....دون تفصيل دقيق على ضوء النقاط البسيطة التالية: هل يعلم المسؤولون الكبار أسباب وحجم العجز الإداري الذي أصاب معظم مؤسسات الدولة الكبرى والصغرى منها بدءًا من مشروع الجزيرة والسكة حديد والوزارات والجامعات الى شفخانة شلعوها المغاوير ومدرسة باعوها المحافير ومحلية أكلوها المزاوير.... وهل غاصوا في أسباب ذلك الفشل الواضح للعيان ليعرفوا كيف تتم التعيينات في المناصب الإدارية العليا والصغرى وهل تراعى فيها معايير الكفاءة والمؤهلات أم تغلب عليها الجهوية والمناطقية والولاء الحزبي المزيف؟ وللتحقق مما أقول -إن لم تكونوا تعلمونه سلفًا - أطلبوا معلومات عن ثلاث مؤسسات حكومية عريقة خدمية كانت أم تجارية أم سيادية متعثرة وغوصوا في أسباب فشلها وفي هوية من يحركون دولاب العمل المتعثر فيها ومؤهلاتهم ومن هم الذين يستأثرون بالقرار في تلك المؤسسات، وهل تتم القرارات وفق التسلسل الهرمي الوظيفي أم أن هناك (فناطيط) صغار متنفذين يفرضون أنفسهم على الكبار خارج المؤسسية ويتحكمون في كل قرار يصدره المسؤول الأول ويستأثرون بالمميزات الوظيفية والحوافز والمكافآت....واسألوا من أين جاء هذا المقرب ....ومن ذاك المتسيد... ومن هذه المستأسدة .....وما علاقتهم جميعاً بالمسؤول الأول؟ هل هي تنظيمية أم مناطقية أم جهوية أم قبلية أم أسرية...أم..... موظف في مؤسسة عريقة ترك له الحبل على الغارب- لأنه واصل- فيما يتعلّق برصد حقوق العاملين ومخصصاتهم لفترة طويلة والتعامل معها في جهاز الحاسوب، فاكتشف بعد فترة طويلة أنه يتلاعب كيف يشاء في الأرقام ويخص بعض من يصطفي من العاملين والعاملات في المؤسسة بمخصصات إضافية بصورة انتقائية- ووراء الأكمة ما وراءها- ووصلت تلك المخصصات غير الشرعية الى أرقام مليونية وظلت تصرف بصورة مستمرة ولم تكتشف إلا بالصدفة البحتة.......ذات الموظف قبض متلبساً بجريمة نكراء تخدش الحياء ويتعذر ذكر تفاصيلها في فترة سابقة داخل مكاتب الدولة...ولم تتم معاقبته وتجدر الإشارة إلى أنه يأتي في بعض المناسبات (بالميري) الزي العسكري ويدعي أنه مستنفر ضمن كتائب الإسناد المدني وما يزال حرًا طليقاً بعد إيقافه عن العمل...وبس. جمعتني دعوة عشاء مع بعض الوجهاء في صالون أحد الوجهاء الفسيح وكان من بين المدعوين رجال أعمال وإعلاميون ومديرون سابقون لجامعة الخرطوم فسألني أحد الحاضرين عن أحوال الجامعة وكيف أديرها في ظل الأزمات المالية الخانقة وتكاثر الأعداد وضعف البنية الأساسية، فحدثتهم مطولاً عن العقبات التي واجهتني في البداية وكيف بدأت في التغلب عليها بالغوص العميق والنزول الى أدنى السلم الإداري والتعرف على المشاكل من جذورها عن قرب وحدثتهم عن أني فتحت كثيرًا من الملفات الشائكة والصعبة التي كان يؤجلها أسلافي أو يتجاهلونها حتى تنتهي دورتهم في إدارة الجامعة بسبب صعوبة الغوص فيها لأسباب كثيرة على رأسها الخوف من التدخلات السياسية من المتنفذين الصغار داخل الجامعة ومن المتنفذين الكبار الذين يسندونهم خارج الجامعة ويثقون في التقارير التي يرفعونها لهم ويتم تقيمهم لأداء الإدارة وفق ما يأتيهم به أولئك الصغار المتنفذون في الداخل، وعندما انتهيت من السرد الذي جذب انتباه الحضور قال لي البروفسور مأمون حميدة في دعابة بليغة وباللغة الإنجليزية
Mustafa, you know too much more than you are supposed to know as Vice Chancellor in this erra and you will not stay any longer in office - you have to go very soon فقد قال إنني صرت أعرف عن المشاكل بالجامعة أكثر مما يجب أن يطلع عليه المدير في مثل هذا الزمان الذي نعيشه ولن أبقى في موقعي طويلاً ويجب أن أرحل– وقد صدقت نبوأته ومن بعدها دار نقاش بين الحاضرين في ذلك العشاء الفاخرعن مواصفات المدير الذي يعمر طويلاً في موقعه في مؤسسات دولة الإنقاذ....فكان خلاصة ما ذكروه عنه (أنه يأتي إلى المكتب بعد العاشرة صباحاً ويتصفح الصحف اليومية، ويطمئن على أن الجواز والتذاكر والنثرية بالدولار جاهزة للسفرة القادمة خارج البلاد في مهمة جديدة غير تلك التي كانت في الأسبوع الماضي، ومن ثم يبدأ في مطالعة البريد المهم بعد تصنيفه بواسطة السكرتارية الحصيفة التي تعطي اهتماماً خاصاً وأولوية للمذكرات التي تأتي من المسؤولين الكبار بالقلم الأخضر والأحمر وغالباً ما تحتوي.... بطرفكم ابننا /ابنتنا/ود جيرانا/...فلان وهو من أهل الثقة والسبق .و......فأرجو أن يجد منكم الاهتمام والرعاية وإجابة طلبه......ثم بعد ذلك ينظر المدير في الدعوات التي وصلته للمشاركة في اجتماعات اللجان التي يشكلها الكبار خاصة فيما يتعلق بتطبيق الإستراتيجية القومية الشاملة والخطة الخمسية والربع قرنية ولجنة ضبط الجودة وتحسين الأداء في مؤسسات الدولة والخطة الإسعافية لنجاح الموسم الزراعي والصناعي والتبعيلي.....ولجنة الضغط على المصروفات وتقييد السفر للخارج وتوطين التقانة والعلاج وصناعة طائرات الإنذار المبكر التي تكتشف الطائرات المغيرة قبل وصولها للأجواء السودانية وهلم جرا....وقبل أن يخرج السيد المدير (المعمر في كرسيه) للمشاركة في اجتماع إحدى اللجان المذكورة ربما استمع الى تنوير عن مجريات العمل في المؤسسة التي يُديرها من نائبه أو مدير المكتب..... (والخلاصة كلو تمام يا أفندم – وربنا يطول عمرك ويخليك لينا)... هذه نماذج بسيطة عن حال الخدمة المدنية وما آلت إليه في عهد الإنقاذ... مهما أحسنّا الظن في نوايا قادتنا الكبار وصدق توجههم في إحقاق الحق وتوفير العدالة ومحاربة الفساد فإنني على يقين تام بعد معايشة لصيقة لأداء الدولة في مواقع كثيرة بأنهم لن يفلحوا أبدًا في إقامة الحق ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة في الجمهورية الثانية في ظل الأوضاع القائمة حاليًا وفي وجود ذات الوجوه المتحكمة في دولاب الدولة من المحترفين المخضرمين والمعتقين الذين عرفوا كيف يستخدمون اسم الحزب الحاكم في إملاء ما يريدون. ******* العقبات التي واجهتني في الجامعة تغلبت عليها بالغوص العميق والنزول إلى أدنى السلم الإداري والتعرف على المشكلات من جذورها عن قرب وفتحت كثيراً من الملفات الشائكة والصعبة التي كان يؤجلها أسلافي أو يتجاهلونها حتى تنتهي دورتهم في إدارة الجامعة بسبب صعوبة الغوص فيها لأسباب كثيرة على رأسها الخوف من التدخلات السياسية من المتنفذين الصغار داخل الجامعة ومن المتنفذين الكبار الذين يسندونهم خارج الجامعة ويثقون في التقارير التي يرفعونها لهم ويتم تقيمهم لأداء الإدارة وفق ما يأتيهم به أولئك الصغار المتنفذون في الداخل.
التيار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.