وتأتي هذه النتائج في الوقت الذي أدى فيه انتشار جائحة كورونا إلى تفاقم عدم المساواة وزيادة حجم الفجوة الهائلة في الرواتب في أنحاء العالم، وهو ما قد يضع الناس ذوي الدخل المنخفض في مواجهة مشاكل صحية أكبر، ومخاطر فقدان الوظائف، وتدهور في مستوى الرفاهية. وقد تسلط الضوء على هذه الفروقات أكثر من أي وقت مضى مع تزايد الوعي بأهمية العمال "الأساسيين" الذين يعملون على خطوط المواجهة مع الفيروس، من دون أن تكون لديهم حقوق عمل كافية، كما يحصلون على أجور قليلة. وأدى هذا التفاوت الهائل إلى تصاعد الغضب جراء الدخل المذهل الذي لا يزال كبار الرؤساء التنفيذيين يحصلون عليه. ومع كشف الغطاء عن هذه الحالة من غياب العدالة والمساواة والمتجذرة في ثقافة الشركات، فإن السؤال بالنسبة لكثيرين هو كيف ظهرت حزم الرواتب الضخمة هذه؟ كيف، ومن يوافق عليها، وكيف يتم منحهم الضوء الأخضر؟ والأهم من ذلك، هل يجب أن يحافظوا على مكانهم في مجتمع ما بعد الجائحة؟ صدر الصورة،ALAMY التعليق على الصورة،يعتبر البعض أن الرواتب العالية مقبولة حين تكون لأصحاب الرؤى مثل إيلون ماسك، لكنها مثيرة للتساؤلات حين يحصل عليها رؤساء تنفيذيون عاديون وليس لديهم أي مواهب استثنائية جذور الرواتب المستندة إلى أسعار الأسهم وتعود جذور الفجوة الهائلة في الرواتب لصالح المسؤولين التنفيذيين إلى السياسات التي وضعتها إدارة دونالد ريغان في الولاياتالمتحدة وحكومة مارغريت تاتشر في المملكة المتحدة في ثمانينات القرن الماضي. وقد أدت الفلسفات السياسية للإدارتين إلى رفع الضوابط، وخصخصة القطاع العام، وتشجيع رأسمالية السوق الحرة، إلى جانب النظرة المتحفظة تجاه النقابات العمالية، وهو الأمر الذي لعب دوراً في تقليص فعالية هذه المنظمات وقدرتها في الدفاع عن حقوق العمال. ويقول ساندي بيبر، الخبير في الأجور التنفيذية في كلية لندن للإقتصاد: "خلال الجزء الأول من تلك الفترة، كانت وظائف المسؤولين التنفيذيين جزءاً من نظام التقييم الوظيفي الشامل للشركة. وكان هناك نظام واحد لتقييم رواتب الجميع". وقد نشر بيبر مؤخراً بحثاً عن سبب نشوء الفجوات الكبيرة في الأجور بين الرؤساء التنفيذيين ومجمل الموظفين الذين يشكلون القوى العاملة. ويقول إن النظام السابق "انهار" عندما أصبحت رواتب المسؤولين التنفيذيين مرتبطة بأسعار أسهم الشركات، وأطلقت "المكافآت القائمة على الأصول" في ظل الليبرالية الجديدة السائدة. وأظهرت التحليلات التي أجراها بيبر على بيانات مؤشر "فوستي 100" منذ عام 2000، أن متوسط الزيادة السنوية على رواتب جميع الموظفين بلغت نحو ثلاثة في المئة، في حين زادت رواتب الرؤساء التنفيذيين بنحو 10 في المئة سنوياً. ويضيف بيبر أن المنطق الذي استند عليه ذلك هو أن الرئيس التنفيذي يحصل على راتب وفقاً للأداء المالي للشركة، ونظراً لكونه العامل الأهم في نجاحها. وعلاوة على الرواتب الأساسية، مُنح الرؤساء التنفيذيون مكافآت تبعاً للأداء، إضافة إلى إتاحة الفرصة لهم لشراء أسهم الشركة بسعر ثابت. وتضمنت حزمة رواتب ستينر، الرئيس التنفيذي لشركة أوكادو، لعام 2019 مكافأة قدرها 54 مليون جنيه إسترليني بسبب إنجازه "خطة حوافز نمو" لمدة خمس سنوات، وذلك تبعاً لنمو سعر سهم الشركة بحسب مؤشر "فوستي 100". في الوقت نفسه، تراجعت نسبة الشركات البريطانية المملوكة من قبل أفراد بشكل حاد. ونمت سلطة أصحاب الأسهم والمستثمرين المساهمين، وأدت مطالبتهم بإنعاش أسعار الأسهم في السوق، إلى ارتفاع حزم أجور المديرين التنفيذيين، وبموافقة مجالس الإدارة المتلهفة لإرضاء المستثمرين. وتتفق روبن فيراكون، الرئيسة التنفيذية لشركة فاريان أدفايزرز، وهي شركة استشارية دولية للأجور التنفيذية، مع سياسة الرواتب "حسب الأسعار"، والمقصود هنا أسعار الأسهم. وتقول: "إذا كان لديك رئيس تنفيذي جيد، فقد يكون التأثير المضاعف هائلاً. لذا، من حيث المبدأ، فالأجر المتوسط للأداء المتوسط، والأجر المرتفع للأداء العالي، هو أمر منطقي". صدر الصورة،ALAMY التعليق على الصورة،مع نمو قوة المساهمين، أدت مطالبهم برفع أسعار الأسهم إلى زيادة رواتب الرؤساء التنفيذيين السير على قشور البيض لكن على أرض الواقع، فإن نظام حساب راتب ومكافآت الرئيس التنفيذي أكثر تعقيداً. وتعتمد الشركات في ذلك الأمر على لجان تتكون في الغالب من أعضاء مجلس الإدارة ومديرين تنفيذيين من شركات أخرى، وتجتمع مرة واحدة في السنة. وإلى جانب المقاييس التقليدية المعتمدة على الخبرة والأداء السابقين، تستخدم اللجان المقارنة المعيارية كجزء أساسي من العملية. إذ تقدر أجور الرئيس التنفيذي مقارنة برواتب المديرين التنفيذيين في شركات مماثلة، كما يقول ستيفن كليفورد، وهو رئيس تنفيذي سابق ومؤلف كتاب "آلة دفع الرئيس التنفيذي". وغالباً ما يكون المبلغ الذي تحدده اللجنة يعادل 50 أو 75 أو 90 في المئة بعد المقارنة، ومن ثم، إما يتم الحفاظ على الراتب، أو زيادته بانتظام. وخلصت دراسة نشرت عام 2010 في مجلة "جورنال أوف فاينانشال إيكومينيكس" إلى أن نظام لجان التعويضات يسرع من تضخم الأجور "لأن مثل هذه الشركات النظيرة تسمح بتبرير المستوى العالي لأجور الرؤساء التنفيذيين". ويجري الاتفاق على المكافآت كطريقة لتقييم الأداء، إما بزيادتها بناء على مقاييس مالية، أو بشكل مبلغ إجمالي إذا جرى تحقيق أهداف محددة. ويعتبر ممثلو العمال أن عملية حساب الراتب الأساسي والمكافآت الخاصة بالرؤساء التنفيذيين قضية إشكالية، لأن أعضاء مجالس الإدارة، الذين لا يرغبون في إثارة غضب الرئيس التنفيذي لشركتهم خشية أن يتركهم ويستقيل، أو أن يطردهم من العمل، يقررون رفع راتبه. وتعتبر جانيت ويليامسون، كبيرة مسؤولي السياسات في مؤتمر النقابات العمالية في المملكة المتحدة، أن نظام لجان التعويض، التي غالباً ما تقدم تقاريرها إلى الرئيس التنفيذي مباشرة، يفتقر إلى النزاهة، ويحتاج إلى عملية إصلاح. وتضيف: "نحتاج إلى تغيير نظام الأجور المرتبطة بالأداء. فهذا ما أدى إلى هذا الارتفاع (في رواتب المسؤولين التنفيذيين)". لكن وفقاً لما يراه بيبر، فإن الأدلة العملية تظهر أن أجور الرؤساء التنفيذيين لا يحددها الأداء المالي للشركة، بل حجمها. ويقول: "كلما كبرت الشركة، زادت رواتب الرؤساء التنفيذيين". "الرؤساء التنفيذيون هم مفتاح النجاح" لا تزال قضية رواتب الرؤساء التنفيذيين الضخمة، وفي ما إذا كانت مبررة أم لا، موضع نقاش حاد. فمن ناحية، يجادل خبراء اقتصاديون في السوق الحرة بأن الرواتب المرتفعة للرؤساء التنفيذيين لها ما يبررها إذا كانت تتماشى مع مصالح المسؤولين التنفيذيين والمساهمين. ويقولون إذا كانت الشركات على استعداد لدفع هذه المبالغ، فهذه هي القيمة التي يستحقها المديرون التنفيذيون كما تقتضي السوق. ويقول دانييل بريور، رئيس البرامج في معهد آدم سميث، وهو مؤسسة بحثية تنتمي إلى الليبرالية الجديدة: "الرؤساء التنفيذيون هم مفتاح النجاح". ويضيف: "من الواضح تماماً أن هناك عدداً محدوداً من الأشخاص الذين لديهم المهارات والشخصية والاستعداد لأن يكونوا الرئيس التنفيذي لشركة كبرى، وهؤلاء الأشخاص الذين عددهم محدود، مطلوبون بشدة". ويستشهد بريور بأشخاص مثل ستيف جوبز في شركة آبل، وجيف بيزوس في أمازون، وإيلون ماسك في تيسلا وسبيس إكس، والذين يمثلون مواهب استثنائية، وتمكنوا من صياغة تقنيات ثورية كاملة من الألف إلى الياء. لكن في المقابل، يرى عدد من الباحثين أن دور الرئيس التنفيذي العادي، وهو شخص إداري، لم يؤسس الشركة ولم يكن صاحب رؤية، مبالغ فيه، في حين أن هناك عوامل أخرى أكثر أهمية في تحديد ثروات الشركات الكبرى. ويقول ديفيد بولتشوفر، خبير إدارة الأجور ومؤلف كتاب "شيك الراتب: هل أصحاب أعلى الأجور يستحقونها فعلاً؟": "هناك عدة أسباب تجعل الشركة تعمل بشكل جيد". ويضيف: "ربما يكون الاقتصاد منتعشاً، أو قطاعهم مزدهر، ولا علاقة لذلك بالرئيس التنفيذي، وربما يعملون في مجال تحتكره قلة. ويمكن أن يكون السبب مساهمة العمال. تأثير الرئيس التنفيذي على أداء الشركة غير قابل للتحديد، وهذا هو لب الموضوع. وهم يبررون ذلك ب ‘أيديولوجية الموهبة'. لكن هل فعلاً قدراتهم نادرة جداً؟ أعتقد أنها خدعة". ويرى بولتشوفر أن الأزمة المالية العالمية في عام 2008 هي مثال واضح على أن الأداء والأجور ليسا دائماً متوافقين، ويقول: "لطالما دافع القطاع المالي عن رواتب (كبار موظفيه) المرتفعة على أساس قدراتهم النادرة ومواهبهم، لكن الكثير من هذه البنوك أفلس خلال الأزمة، وبدأ الناس يطرحون أسئلة: لماذا دفعت لهم كل هذه المبالغ، ولماذا استمر حصولهم على هذه الأموال حتى بعد الأزمة؟". ووفقاً لبولتشوفر، فإن "دائرة المصلحة الذاتية" بين المساهمين وأعضاء مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين هي السبب في عدم خفض رواتب الرؤساء التنفيذيين، ويعتقد أن هذا هو سبب وجود امتعاض وضغوط متزايدة من قبل عامة الناس. صدر الصورة،ALAMY يتنامى الشعور بالغضب لدى العاملين في الشركات الكبرى التي يكسب فيها الرؤساء التنفيذيون مبالغ طائلة جراء الفجوة الهائلة في الأجور خطوة مهمة إلى الأمام وبينما تستمر رواتب كبار الموظفين في الارتفاع، يبدو أن حقوق الموظفين تسير في مسار تنازلي، خاصة الذين يعملون على الخطوط الأمامية خلال أزمة انتشار الوباء. وبالنسبة للعديد من الموظفين العاديين، فإن الفجوة الهائلة في الرواتب ومكاسب الرؤساء التنفيذيين الضخمة بمثابة شراب مرّ الطعم لكن لا مفر من تجرعه. وظهر تصاعد غضب القوى العاملة من هذا التفاوت في الأجور جلياً في وقت سابق من هذا الشهر عندما دخل الآلاف من موظفي شركة "بريتش غاز" في إضراب لمدة خمسة أيام رداً على خطط لتقليل أعداد العاملين، وتغيير عقود الموظفين إلى أخرى جديدة تتضمن تقليصاً في حقوقهم الحالية. وكانت التوترات تعالت منذ عام 2018 بعد أن تلقى الرئيس التنفيذي لشركة سينتريكا، الشركة المالكة لشركة "بريتش غاز"، زيادة في أجره بنسبة 44 في المئة ليصل إلى 2.4 مليون جنيه إسترليني في السنة. ويقول جون، الذي يعمل في شركة "بريتش غاز" وعمره 32 عاماً، وقد تم تغيير اسمه مراعاة لوضعه الوظيفي: "إنه الجشع والاستحواذ. إن هذا أكثر مما يتقاضاه رئيس الوزراء! كيف يمكنهم تبرير ذلك؟ عندما تدفع هذا القدر من المال، فهذا لا يعني أنك تحصل على المستوى الجيد، وإنما على نوع معين من الأشخاص، ومن خلفية معينة". ومع ذلك، هناك إشارات على أن الارتفاع في رواتب الرؤساء التنفيذيين بدأ يتباطأ على الأقل. يقول بول لي، الذي عمل مستشاراً استثمارياً طوال 20 عاماً، إن رواتب الرئيس التنفيذي في المملكة المتحدة "استقرت" خلال السنوات الأخيرة، لكن المستوى كان في حدود 4 إلى 5 ملايين جنيه إسترليني". ويعتقد لي أن تغير نظرة المؤسسات الاستثمارية وصناديق الثروة السيادية يقف وراء هذا التباطؤ في زيادة رواتب المديرين التنفيذيين. فهذه الجهات تستثمر في الشركات ذات الأجور المرتفعة، لكن تمويلها في النهاية يأتي من عامة الناس، من خلال صناديق التقاعد والاستثمار، وهي على دراية بعدم الارتياح الشعبي المتزايد تجاه ذلك. ويقول: "هل هذه الأرقام مبررة؟ من الصعب حقاً قول ذلك بموضوعية، لكن هناك مساءلة. ويرجع جزء من ذلك إلى نقاش ومطالبات من عموم الناس وإلى ضغط من الحكومة في جزء آخر". على سبيل المثال، في الولاياتالمتحدة، يقترح مشروع قانون "الرأسمالية القابلة للمساءلة"، الذي صاغته السيناتور إليزابيث وارن، مدداً زمنية محددة لبيع أسهم الشركات، في محاولة لتحويل التركيز من عائدات المساهمين قصيرة الأجل إلى الأهداف طويلة الأجل لجميع أصحاب المصلحة. وهناك أيضا مبادرات ناشئة مثل تلك التي وقعت في سان فرانسيسكو وبورتلاند، حيث تخضع الشركات للضريبة إذا كانت نسبة أجورها مرتفعة للغاية، ما يخلق حافزا اقتصاديا لتحقيق قدر أكبر من المساواة. وفي الوقت الذي كان فيه الوباء ينتشر في أنحاء العالم عام 2020، ضحى رؤساء تنفيذيون في بعض الشركات الكبرى مثل بوينغ، وماريوت إنترناشيونال، وبرايس ووتر هاوس كوبرز، بجزء من مكاسبهم طواعية لإنقاذ وظائف الموظفين، وإن انتقد كثيرون ذلك معتبرين أنه خطوة رمزية لا أكثر. ويقول لوك هيلديارد، مدير مركز "هاي باي"، إن بإمكان الشركات اتخاذ المزيد من الخطوات الهادفة لتقليص فجوة الأجور، مثل تمثيل العمال في مجالس الإدارة، وإعداد تقارير أفضل عن بيانات أجور الشركة، وهو ما يسمح بمساءلة أفضل. ويمكن حينها توزيع أرباح الشركة بشكل أكثر عدالة على كافة القوى العاملة. ويضيف هيلديارد: "تحسين حياة هؤلاء الناس العاديين بزيادة مبالغ مالية صغيرة نسبياً، يمكن أن يكون له أثر كبير، وستكون هذه خطوة عملية عظيمة إلى الأمام". وبالنسبة لهيلديارد ، فإن الأرقام الخيالية التي يحصل عليها الرؤساء التنفيذيين دليل "مذهل" على الانقسام المجتمعي المتزايد. ويقول: "المملكة المتحدة هي إحدى الدول الأكثر تفاوتاً من حيث الدخل في العالم المتقدم، وقد ارتفع هذا بالتزامن مع ارتفاع رواتب المسؤولين التنفيذيين". وهو يعتبر أن لهذا دلالات مهمة لأن الأبحاث تظهر أن الدول التي لا يوجد فيها تكافؤ وعدل في الرواتب، من المرجح أن يكون أداؤها سيئاً فيما يتعلق بمجالات أساسية مثل التماسك الاجتماعي، والصحة العامة والرفاهية، ومستويات الجريمة، والتعليم. فكلما كان مستوى عدم المساواة أعلى، كلما كان المجتمع يعاني أكثر، ولديه مشاكل أكثر. ومع الركود الاقتصادي العالمي الذي بات يلوح في الأفق جراء استمرار تفشي وباء كورونا، يعتقد هيلديارد أن "التدقيق في عدم المساواة" سيزداد. ويقول إن الدور المتنامي للقطاع المالي، والاستعانة بمصادر خارجية للحصول على يد عاملة رخيصة، وتراجع دور النقابات العمالية هي السبب وراء اتساع فجوة الأجور وغياب المساواة خلال العقود الأخيرة. ويضيف: "في الوقت نفسه، لم يكتف الذين في القمة بالمحافظة على ثرواتهم فحسب، بل تمكنوا من تنميتها بشكل كبير، وإذا استمر هذا الاتجاه، فسيتفاقم انقسام المجتمع، وتزداد معاناة العمال".