لم تنتهِ قضية مشرحة ود مدني والجثث الملقاة بداخلها بإجابات شافية، ولم تستجب السلطات هناك لكل التساؤلات والمطلوبات التي وضعت منضدتها قبل أشهر، بعد أن فاحت رائحة مئات الجثث وتحللت لتفضح الإهمال، وتدق ناقوس الخطر مذكرة بجريمة فض الاعتصام والمفقودين الذين لم يتم العثور عليهم، وإمكانية أن تكون الجثث الملقاة هناك لمفقودي اعتصام القيادة العامة. وللمفارقة تكررت ذات الحادثة التي كشفت عن ملابساتها رائحة الجثث والدماء السائلة، التي طفت من مشرحة المستشفى الاكاديمي بجنوب العاصمة الخرطوم، لتعلن كارثة جديدة، بمنطقة الامتداد التي تشهد احتجاجات واسعة منذ أمس الأول وتطالب بكشف ملابسات الجثث المكدسة داخل المشرحة. وقبل أن تحل طلاسم الجثث بمعرفة هويتها، قررت الشرطة تجهيز مقابر لدفنها، بعد أن افترضت أنها لمجهولي هوية دون إذن من النيابة، ودون تقرير طب شرعي وتشريح لمعرفة أسباب وجود هذه الجثث في الثلاجات، وكيف وصلت إلى هناك، وما هي أسباب وحيثيات ظروف الوفاة، وهل توجد تفاصيل بخصوص سجلات المشرحة وتاريخ وصول الجثث، وهل حدث ذلك بشكل فردي أو جماعي، ما يفتح باب التساؤل واسعاً حول لماذا تريد الشرطة الدفن قبل اكتمال الإجراءات. وقالت منظمة أسر الشهداء إن قضية تكدس الجثث مجهولة الهوية بمشرحة المستشفى الأكاديمي، لم تجد أدنى اهتمام من الحكومة وجهات الاختصاص التي تقع عليها المسؤولية الأولى والأساسية في الحفاظ على حياة مواطنيها، وكل من يوجد على أراضيها، كما يقع عليها واجب احترام آدمية الإنسان حياً كان أم ميتاً. واستنكرت المنظمة، في بيان لها، أن هذه الجثث (التي يقال إنها مجهولة) من قبل جهات أو أفراد ويتم وصفها بأنها نتيجة نزاعات أو أسباب أخرى، مع حقيقة محزنة أنها كانت منذ فترة طويلة في ثلاجات المشرحة، وارتباطها على حسب مقربين من دائرة الطب بالجريمة الكبرى (فض الاعتصام) التي ارتكبها المجلس العسكري سابقاً، في حين أن ذلك هو من مهمة الحكومة وواجب القضاء والنيابة العامة في التحقيق في هذا الموضوع الذي انتهك كرامة وآدمية الإنسان. وأوضحت أن الجثث إذا كانت مجهولة أو معلومة الهوية، فهي لأناس انتهت حياتهم وأصبحوا في ذمة الله، وأي تفسير أو تبرير لا يمكن قبوله لهذا التأخير في الكشف عن تفاصيل ووقائع العثور على جثثهم، سواء من حيث مكان وتاريخ العثور عليها، والجهة أو الشخص المُخبر عنها، والتقرير الطبي العدلي لأوصاف وتفاصيل الجثة، ووجوب أن يكون لكل منها استمارة التشريح الطبي المكونة من مجموعة المعلومات والأسئلة التي تنتهي بأسباب الوفاة الواجب بيانها، وهو ما يعتبر من أساسيات وأصول التحقيق الجنائي في العالم. وشددت على ضرورة التركيز على الجانب القانوني ومسائلة الحكومة وجهات الاختصاص ومحاكمة المتسببين في هذا الجرم. بدورها أكدت القومية لحقوق الإنسان في السودان، أن قضية مشرحة مستشفى التميز الأكاديمي وتكدس الجثث هناك، تمثل وضعاً مأساوياً وينذر بكارثة بيئية محققة، فضلاً عن ما يمثله من انتهاك لحق السكان في الصحة. وأمنت المفوضية في تصريح صحفي، على حق الأهالي في التظاهر السلمي احتجاجاً على الخطر البيئي الوشيك، وأوضحت أنها في حالة انعقاد مستمر لجمع المزيد من المعلومات، وحرصها على تمليك الرأي العام جميع التفاصيل حال اكتمال الإفادات. وأضافت أن أعضاء من لجنة تقصي الحقائق التقوا بمدير المستشفى والأهالي المحتجين على وضعية المشرحة، وعلى الروائح المنبعثة منها، وما قد يترتب عليها من أضرار صحية خطيرة، فضلاً عن مخاوف بعض الأهالي من أن يكون الحادث مرتباً لطمس معالم الضحايا الذين يحتمل أن يكونوا من ضحايا فض اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019. ونوهت المفوضية إلى أنها خاطبت جميع الجهات المختصة، وستتابع جميع الإجراءات والتدابير التي تتخذها السلطات المختصة لمعالجة وضعية المشارح في العاصمة والولايات، وأبانت أنها ستتابع مجريات التحقيق مع الجهات ذات الصلة للتأكد من حقيقة المزاعم التي تربط بين الجثامين الموجودة في المشرحة، وبين حادثة فض اعتصام القيادة العامة، موضحة أنه لا يمكن التأكد من ذلك إلا بعد تشريح الجثث وإجراء التحقيقات اللازمة. وكان مدير هيئة الطب العدلي بوزارة الصحة ولاية الخرطوم د. هاشم محمد، أوضح أن إدارته ستشرع في عملية تشريح الجثامين مجهولة الهوية المتكدسة بعدد يفوق 200 جثة في مشرحة المستشفى الأكاديمي بحي الامتداد. وأضاف أن العدد الكلي للجثامين في مشارح ولاية الخرطوم تجاوز 1250 جثماناً ظلت دون تشريح، بسبب قرار من النيابة العامة وموافقة لجنة تقصي الحقائق في شأن المفقودين قسرياً، مما تسبب في عدم استقبال مشرحة أم درمان لأي جثمان جديد نتيجة لعدم القدرة على الحفظ بالمستوى المطلوب. وأشار مدير الهيئة في تصريحات صحفية إلى أن طلب الهيئة المتكرر بضرورة إجراء التشريح وحفظ عينات الحمض النووي ودفن الجثامين؛ كانت تواجه دائماً بالرفض من قبل النيابة العامة، مما يجعلها المسؤول المباشر من كل ما حدث من تلف للجثامين وتأذي المواطنين.