تذكرت مطلع الأغنية (القطار دوًر حديدو)، وأنا أتابع عبر الفضائيات انطلاق قطارات الدعم من (عطبرة) و (ودمدني) نحو العاصمة صبيحة الخميس : 30 سبتمبر 2021م، وقد امتلأت عرباتها بشباب الثورة القادمين لمؤازرة مواكب التأييد للحكم المدني والتحوّل الديمقراطي والوثيقة الدستورية. لعب القطار دوراً عظيماً في النهضة النسبية التي تحققت في السودان الحديث، وشبكة السكك الحديدية الممتدة لآلاف الأميال شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً نجحت في تعزيز الوحدة الوطنية، ولم يزل القطار حاضراً في الاغنية العاطفية. كما شكّل القطار حضوراً قوياً في أدب المدائح بعد أن حلّ محل الإبِل في نقل الحجيج، حيث أصبح آلاف الحجاج يستغلون القطار من محطة (الخرطوم بحري) إلى بورتسودان في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ومن بورتسودان ينتقل الحجيج إلى الحجاز على متن البواخر. ومن المدائح المشهورة في هذا الباب قصيدة الشيخ حياتي رحمه الله : هيّا يا عُشّاق قوموبنا.. في النايرة النَّزور مَحبوبنا. فارَقْنا الوطن والسُّكنا.. حُبّ المصطفى مَلَكْنا.. خرطوم بحري خَتّ عَفَشنا.. عِنْد قَطْع التّذاكِر بُشْنا.. إكسِبريس دَخَلنا وهُشنا.. فارَقْنا النّحوس والمَشْنا.. عليه، ومن هذه الخلفية تأتي أهمية القطار ورمزية مسيرته من كلٍ من عطبرة وودمدني بنقاباتهما العمّالية وتاريخهما النضالي المعروف، ليمرّ عبر القرى والمدن والمحطات وصولاً إلى الخرطوم للالتحام بمواكب 30 سبتمبر 2021م. وأعتقد أن مواكب 30 سبتمبر في جوهرها كانت استفتاءً (في الهواء الطلق) لجماهير الشعب للاختيار ما بين نظام (الحكم المدني) وما يعنيه من حرية وعدالة وشفافية وبرلمان منتخب وبين (الحكم الفردي) حيث الشمولية والرأي الواحد والصوت الواحد والموت داخل الزنازين. لم يُنقل الناس بالبصّات للمشاركة في المواكب كما كان يحدث في العهد السابق، فمسيرات 30 سبتمبر التى انطلقت بصورة متزامنة في سِنجة ودُنقلا وبورتسودان والجنينة والدمازين وكافة مدن البلاد، لم تحرّكها توجيهات الوزراء ولا مذكرات زعماء النقابات والاتحادات المهنية ولا الوجبات المجانية لإخراج تلاميذ المدارس، كما كان يحدث في الماضي، وإنما حرّكها الشعور بالمسئولية وحرّكها الخوف من الارتداد إلى عهود القمع وبيوت الأشباح، وحرّكها الأمل في مستقبل أفضل ووطن أجمل ينعم فيه الجميع بالطمأنينة. هذا الاستفتاء الشعبي لا يعني بالضرورة الرضا عن أداء الإئتلاف الحاكم، بل هو استفتاء لدعم فلسفة الحكم المدني وليس لتركيبة الحكم الحالي..فالشعب مع التحول الديمقراطي والحكم المدني كهدف استراتيجي حتى ولو تشوّهت المرحلة الحالية بالهزال والمحاصصة والصراع على المناصب. عليه، فإن الرسالة التي يجب أن يفهمها الجميع، هي أن سوء أداء الشراكة المدنية/ العسكرية الحالية وهشاشتها لا يعني هشاشة مشروع التحوّل الديمقراطي! فالانجاز الذي حققه الشعب بمساندة الشرفاء من القوات النظامية لا يمكن التفريط فيه بأي شكل من الأشكال. والحشد المشبوه الذي تمّ في قاعة الصداقة يوم السبت: 2 أكتوبر 2021م، لن يزيد الشعب إلا إصراراً وتمسكاً بالثورة الديسمبرية وشعاراتها ومبادئها في إقامة دولة العدالة والقانون والحريات والتحول الديمقراطي. الواقع السياسي الجديد ومناخ الحريات الذي رسّخته سواعد الثوار غير قابل للمساومة والتسويات، وحكومة البرهان/حمدوك ليست بأهم ثمار ثورة ديسمبر، ومن السهولة بمكان إسقاط هذه الحكومة بواسطة الثوار والإتيان بغيرها في ظل اتساع رقعة الخلاف بين مكوناتها المتنافرة. ما يمنع الثوار من إسقاط هذا الإئتلاف الحاكم، هو الأمل في إمكانية تصحيح الأخطاء وتطوير الأداء وتنفيذ محتوى الوثيقة الدستورية، حيث ما تزال الفرصة متاحة لكافة الشركاء للجلوس على طاولة مستديرة وحلحلة المشاكل قبل ان يدركهم الطوفان. ما يمنع الثوار من إسقاط هذه الحكومة هو اقتراب الاستحقاق الانتخابي، وستكشف الانتخابات الأحجام والأوزان الحقيقية لكافة القوى السياسية، وسيختار الشعب بكامل إرادته ما ينفع البلاد والعباد، أما الزبد فسيذهب جفاءً. ما يمنع الثوار من إسقاط هذه الحكومة هو ما أطلقته من وعود اقتضت إمهالها لبعض الوقت (لتعبُر) نحو السلام والاصلاحات الهيكلية وتهيئة البلاد للانتخابات القادمة. فالكل على يقين بأن هذا الوضع المؤقت إلى زوال، وأن كل التصريحات النارية لعسكريي المجلس الانتقالي بالوصاية على الشعب ستذهب أدراج الرياح، وأن كل التهديدات الصادرة من بعض الكيانات الانفصالية والحركات المسلّحة بقلب الطاولة والإنكفاء الإقليمي والرجوع بالبلاد إلى عصر (السلاطين) و (المكوك)، لن تجد لها أذن صاغية وسيكون محلّها سلة المهملات. قطار الديمقراطية انطلق ولا مجال لإيقافه. القطار دوّر حديدو.. ما كَتَب عنوان بَريدو.. قولوا لَي كيفن أعيدو.. التحية،،