* "ضربوني وسحلوني على الأرض بوحشية وغضب جنوني وكنت أقرب للموت من الحياة".. * "قيدوني بطريقة" الطيارة قامت" وكدت أفقد الوعي من وطأة الألم".. * " معرفتهم بهويتي الصحفية زادت من شراستهم ووحشيتهم واستهدافهم لي".. الخرطوم: خالد فتحي " أنتم لا تساوون شيئا بالنسبة لنا أو للسلطة الحاكمة، راس مالكم طلقة واحدة وينتهي أمركم". هذه الكلمات كانت واحدة من آلاف الكلمات التي صبها والإهانات التي كالها، أفراد الشرطة فوق رأس الصحفي علي فارساب، عند اعتقاله وسحله، حتى أشرف على الموت، في مليونية 17 نوفمبر 2021. علي فارساب، لا يزال يعاني من آثار التعذيب البدني والنفسي القاسي الذي تعرض له. وسرد لنا تفاصيل ضربه وسحله واعتقاله وتجويعه ومنعه من تلقي العلاج لأيام .. * الواحدة ظهرا يقول فارساب: حوالي الساعة الواحدة ظهرا ، وهو الموعد المعتاد لبدء التظاهرات السلمية منذ تفجر الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، توجهت إلى منطقة المؤسسة بالخرطوم بحري لتغطية مجريات مليونية 17 نوفمبر التي دعت لها لجان المقاومة وقوى سياسية معارضة ضد الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021م . تحولت منطقة المؤسسة وهي ملتقى طرق يربط بين أحياء بحري على طول شارع المعونة، إلى مركز لتجمع المواكب الجماهيرية لثوار أحياء الخرطوم بحري.. مركبات الشرطة احتلت المكان منذ وقت مبكر، أنا شخصيا أحصيت ما لا يقل عن ثماني مركبات وعشرات الجنود المدججين بالعصي والسلاح والقنابل المسيلة للدموع على متنها أو بالقرب منها.. الشرطة جاءت مسلحة حتى "ذقنها" حتى أفراد شرطة المرور ظهروا مسلحين بالمسدسات والعصي وقنابل الغاز المسيل للدموع، وبدت قوات الشرطة كأنها تحمل تعليمات مباشرة بمنع المتظاهرين من التجمع والسيطرة على المكان حتى لو أدى الأمر إلى القتل و بلارحمة. الشرطة طفقت في إطلاق وابل من قنابل الغاز المسيل للدموع بغزارة لإخماد أي تجمع للمتظاهرين في مهده، وسرعان ما غطت المكان سحائب الدخان الأبيض. شعرت أن هذا اليوم سيكون عصيبا جدا خاصة وأن الشرطة سبق لها ارتكاب مجزرة مماثلة في أمدرمان في 13 نوفمبر 2021م.. * قمع وحشي يقول علي فارساب: ازدادت وتيرة العنف والقمع الوحشي، بعد أن وصلت تعزيزات إضافية من شرطة الاحتياطي المركزي المعروفة بشراستها ومليها للعنف المفرط وارتكاب المجازر على غرار ما فعلت في اقليم دارفور إبان حكم الرئيس المخلوع عمر البشير لتنضم إلى الشرطة المتمركزة في المكان. قوات الشرطة اطلقت الأعيرة النارية بشكل كثيف للغاية واستهدف الرصاص الحي رأس وصدر المتظاهرين مما تسبب في وقوع الضحايا مضرجين بالدماء بشكل متتالي وسريع، بجانب تنامي وتيرة الإصابات بالرصاص الحي بمعدلات قياسية والتي طالت الأرجل والأيدي؛ وصار مشهد المتظاهرين يحملون شخصا ينزف دما بغزارة، مشهد يتكرر بين دقيقة وأخرى. في المقابل تحلى المتظاهرون ببسالة وشجاعة نادرة وفشلت الشرطة رغم عنفها ووحشيتها وقسوتها واستعدادها للبطش والتنكيل في إجبارهم أو حملهم على التراجع أو الاستسلام. ونجحوا في أكثر من مرة في إجبار الشرطة بكل سلاحها وعتادتها على التراجع والفرار مخلفين وراءهم بعض أحذيتهم وملابسهم و"بيريهاتهم" و"درقاتهم" وعلاماتهم العسكرية. الشرطة واصلت إطلاق الرصاص الحي والمطاطي والقنابل الصوتية والقنابل المسيلة للدموع كأنها تخوض معركة حربية وليست مواكب سلمية. *حفلة تعذيب يروي فارساب: حاولت الاحتماء بجدار صغير لاتقاء الرصاص الحي الذي تحول إلى عمليات قنص مباشر في الرأس والصدر. وبعد أن هدأت أصوات إطلاق النار قليلا، حاولت الرجوع إلى الوراء والتقهقر إلى داخل الحي السكني "حي الشعبية" وبدأت في تنفيذ خطتي، تحت وابل الرصاص؛ في طريقي رأيت أحد الشهداء مضرجا بالدم وقد خمدت أنفاسه، ثم رأيت آخرا يلفظ أنفاسه الأخيرة، أسرعت نحوه لحمله وإسعافه سريعا، وفي غمرة انشغالي بذلك الأمر سمعت صوت رجل يصيح بغضب : "ثاااابت"..!!! رفعت رأسي لأجد شخص يصوب سلاحه نحوي.. رفعت يدي وفي لمحة بصر تدافع الجنود نحوي وبدأوا في ضربي وسحلي على الأرض بوحشية وغضب عارم وقسوة لا متناهية، وانهالوا علي بالعصي وأعقاب البنادق "الدبشك"، والركل بأحذيتهم الثقيلة، في كل مكان في جسدي، حتى أن حذاء أحدهم ترك آثاره في قميصي حتى خروجي من المعتقل. أصبت بكسر في يدي بينما توزعت الآلام المبرحة في سائر الجسد. وما زاد الأمر سوءا أنني كنت أنزف بشدة جراء إصابتي بطلق ناري في فروة رأسي. فجأة توقفوا عن الضرب والسحل بعد أن صاح أحد أفراد الشرطة قائلا: "هناك تصوير، يوجد شخص ما يقوم بالتصوير"!!!! ودائما ما تخشى الأجهزة الأمنية والعسكرية والشرطة في السودان، أن يقوم شخص او جهة ما بتوثيق جرائمها خفية، لأنها عادة ما تعتمد على الإنكار والتكذيب. يضيف فارساب: بعدها اقتادوني إلى شارع جانبي وعادوا لضربي بوحشية وقسوة أكثر، في "حفلة تعذيب" امتدت لوقت ليس بالقصير، ثم قذفوا بي على بطني على ظهر عربة نصف نقل "بوكس" وقيدوا يدي وقدمي بحبل، بطريقة يسمونها" الطيارة قامت"..!!! تلك القيود حولت حياتي إلى جحيم.. أوشكت على فقدان الوعي من وطأة الألم الذي استفحل مع آلام الكسر والضرب، وظللت لأكثر من ساعة بهذه الطريقة، كانت الآلام الفظيعة تقتلني كل دقيقة، حتى جاء أحد الجنود وهو يحمل إلي ماء وفك قيود يدي.. زحفت ببطء شديد حتى تمكنت من الجلوس على ظهر العربة… بعدها ارتحت قليلا.. * استدراج لشهادة زور يقول فارساب: معرفتهم بهويتي الصحفية زادت من شراستهم ووحشيتهم واستهدافهم لي، وصاروا يسألون أين الصحفي؟!!! وعندما يشيرون نحوي، يكيلون لي الضرب حتى أشبعوني لكما وصفعا وركلا، وسفها بالإهانات اللفظية البذيئة. وقتها رأيت الموت وكنت أقرب منه إلى الحياة في أي لحظة كان يمكنهم إطلاق رصاصة علي وإلقائي على قارعة الطريق كما قال لي أحدهم بثقة وفخر..!!!!! ماك الوليد العاق لاخنت لاسراق عودك خاتي الشق ماقال وحاتك طق تب ماوقف بين بين بي موتو اتقدم قال أنا مابجيب الشين لوسقوني الدم #الصحفي فارساب حمد الله على السلامه وربنا يكتب الشفاء العاجل ✌️✌️#مجزرة17نوفمبر#الردة_مستحيلة#لاللانقلاب_العسكرى#مليونية21نوفمبر#لا_لحكم_العسكر pic.twitter.com/ePqOA1K61y — Muhtadi Youssif (@MuhtadiYoussif) November 20, 2021 توثيق وحشية العسعس في 31 مارس 2022 واصابته باصابات خطيرة الثائر علي فارساب احد ابطال الثورةً #زلزال_6أبريل pic.twitter.com/SKW6Lvrc3q — MANOUT (@BetNaFiSa) April 4, 2022 في حوالي الساعة السابعة ليلا، حشرنا كلنا، على ظهر العربة نصف النقل من مكان اعتقالنا بالمؤسسة بحري وتوجهت العربة إلى الخرطوم وكان السائق المتهور يقود بسرعة في الشوارع الخالية ولم يدع حفرة إلا ووقع فيها حتى يزيد من آلامنا. ووقفت بنا العربة داخل مقر شرطة النجدة، وهناك حاولوا إجباري على شهادة زور ضد أحد المتظاهرين حيث اتهموه بحرق ناقلة جنود تابعة للشرطة واتهموني بتصوير الحادثة، لكنني رفضت قولهم وأكدت لهم بأنني لم أكن قريبا حتى من المكان لأرى من قام بحرق ناقلة الجنود.. بطبيعة الحال لم تعجبهم أقوالي تلك، وردوا عليها صفعا ولكما وشتما، أمام ضابط برتبة العميد ما جعلني متأكدا أن عمليات القتل والتعذيب البدني والنفسي تتم بعلم ومباركة قيادة الشرطة وليس سلوك أفراد في الميدان كما يرددون دائما. في زنازين العساكر بعدها اقتادونا إلى قسم شرطة أمن المجتمع بالمقرن، وبعد دخولنا الزنزانة أبلغتهم بأنني مصاب إصابة شديد وطلبت ذهابي إلى المستشفى وعرضي على طبيب، لكن لا أحد اقام لكلامي وزنا أو أعاره اهتماما.. ظللت هكذا حتى عصر اليوم الثالث "الجمعة" حيث ذهبت مع معتقلين آخرين تعرضوا للبطش والتنكيل أيضا، إلى مستشفى الشرطة بضاحية بري، شرقي الخرطوم لكن قبل بدء العلاج واستلام نتائج الفحص وصور الأشعة لذراعي المكسور، أمرونا بالاستعداد للعودة إلى قسم الشرطة مرة أخرى وبالفعل عدنا من حيث أتينا دون تلقي العلاج. قضيت ليلتي الأخيرة هناك ومنتصف نهار السبت 20 نوفمبر أطلقوا سراحي وسمحوا لي بالذهاب إلى المستشفى لتلقي العلاج. انتهاكات جسيمة يقول فارساب: في اعتقادي، الصحافة كانت أول ضحايا الانقلاب العسكري وعانى الصحفيون، معاناة كبرى في ظل قطع خدمة الانترنت والاتصالات. وتصاعدت الانتهاكات من الاعتقال الذي يرقى لجرائم الاختفاء القسري والحبس الانفرادي وهو من وسائل التعذيب والإنهاك النفسي والاستدعاءات من الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن والمخابرات بالإضافة إلى التنكيل والبطش والضرب المفضي إلى الموت، ووضع إذاعات الموجات القصيرة" اف ام" تحت إشراف مباشر للسلطة الانقلابية. كل هذا جعل حرية الصحافة وحرية التعبير في وضع سيئ للغاية فأضحت الصحافة مهنة محفوفة بالمخاطر ما يجعل دورها ومستقبلها مظلم للغاية في ظل هذه الأوضاع. لا أعتقد أن الصحافة يمكن أن تمضي إلى الأمام في ظل الظروف التي نعيشها الآن؛ لأن الحرية جوهر الصحافة والرئة التي تتنفس عبرها.