هذه الحرب المستعرة ما بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 ابريل 2023م والتي نتج عنها هذا الهروب الجماعي بما يزيد عن الثلاثة مليون من سكان العاصمة والمدن الأخرى فراراً من الموت الأحمر، وقد تركوا خلفهم المنازل والأموال التي تعرضت للنهب والسرقة، هذه الأحداث المأساوية تعيد التذكير بما حدث للناس يوم فتح الخرطوم على يدي المهدي وأنصاره في يناير 1885م، فقد ذكر المؤرخون لتلك الأحداث أن سكان الخرطوم كانوا أغنى أهل السودان وأكثرهم مالاً، ولما أحسوا بقدوم المهدي عليهم هجر أكثرهم الخرطوم ولحقوا بمصر، وأرسل أكثر التجار أموالهم إلى مصر وغيّب الباقون أموالهم في باطن الأرض ولما قُتلوا يوم سقوط المدينة ذهبت تلك الأموال ولم يهتد أحد لمحلها. لا شك في أن للمهدية وجهها المشرق من حيث بعثها للروح الوطنية لدى المواطنين وإيقاظهم من السبات والاستكانة للظلم والإذلال والإهانة من طرف حكام أجانب مستبدين، فنجحت في ذلك نجاحاً باهراً، وحررت البلاد، ولكنها، أي الثورة المهدية، لم تتورع عن قتل الأتباع والأنصار ممن اعتبرتهم، حسب تقديراتها الخاطئة، خطراً عليها وعلى مشروعها، فعلى سبيل المثال، قُتل الناظر مادبّو زعيم الرزيقات الذين تكوّنت منهم ومن قبائل دارفور وكردفان الراية الزرقاء، كبرى رايات المهدي وعِماد جيوش الأنصار، وقُتل الفكي المنّا إسماعيل زعيم الجوامعة والجموعية ولم يشفع له إخلاصه وتفاني قبيلته في مساندة المهدي، وتمّ إعدام الفكي المنّا بالسيف وأُعدم معه والده وهو في الخامسة والتسعين من عمره!، وأيضاً حَبس المهدي الملك العظيم آدم أم دبالو، ملك جبال تقلي، بعد أن دعاه لزيارته بعد فتح الأبيض ليلقيه في السجن مصفداً بالأغلال، وظلّ في الحبس حتى الموت، وهو الذي سبق وأن قدّم للمهدي وأنصاره المأوى والمطعم والحماية الأمنية في جبال تقلي المنيعة في بدايات الثورة المهدية. الآن يتكرر مشهد الهروب من الخرطوم ولكن بصورة أبشع. هرب الملايين من سكان هذه المدينة الرائعة التي تتخللها أنهار المياه العذبة، تاركين خلفهم ديارهم وأموالهم وأحلامهم، هربوا لإنقاذ أرواحهم من الرصاص المنطلق من الأسلحة الثقيلة والخفيفة ومن القصف الجوي الذي طال البيوت والمستشفيات والمساجد. هرب الناس، فتعرضت البيوت والأسواق والبنوك والمصانع والمراكز التجارية الخالية من أصحابها لعمليات سطو ونهب وحرق بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. الحرب الحالية والتي أكملت شهرها الرابع، تتفوق على الحروب السابقة في هذا النقل الحي المباشر لمناظر دماء القتلى والمحتضَرين وهي تغرق الطرق وردهات الأسواق. نعم أجبرَتنا هذه الحرب على مشاهدة مقاطع تصوّر لحظة الإجهاز على الجرحى والمحتضَرين، رغم أنف الشرائع والأعراف والقوانين. أخبرَتنا مقاطع الفيديو التي لا تكذب وحشية المُنتصِر وساديته وعدم اكتراثه للقيم والمُثل والأخلاق عند الظفر بأعدائه (إخوانه) في ميدان المعركة، فقد شاهدنا بعض منسوبي الطرفين المتحاربين وهم يقومون بصفع المصابين وركلهم وإجبارهم على الزحف على الأرض الحارقة وأطرافهم تنزف! بدلاً من إسعافهم. وبالرغم من كل هذا الدمار والركام وجثث القتلى التي تملأ الشوارع، يصر طرفا الصراع على المضي قُدُماً في إزهاق المزيد من الأرواح وفي إحداث المزيد من الدمار والخسائر العسكرية بالطرف الآخر ولو اقتضى ذلك تسوية المدينة بالأرض، كل ذلك لكسب المزيد من نقاط القوة تمهيداً ربما لمفاوضات قد تُضطر الأطراف المتحاربة إليها للوصول إلى تسوية سياسية تُلزم المتحاربين بفتح صفحة جديدة ونسيان الماضي ونسيان أنين الجرحى وصرخات الثكلى واليتامى والمشردين وأكوام الجثث المتحللة في الطرقات والمشارح، نعم الجثث التي لم تجد من يكرمها بالستر تحت التراب، فأصحبت طعاماً للقوارض والكلاب الضالة!. *ختاماً، يجب التأكيد بأن مصلحة هذا الشعب الكريم ومطلب السواد الأعظم منه هو الوقف الفوري لهذه الحرب المدمرة التي أهلكت الحرث والنسل، المصلحة هي مصلحة الشعب لا مصلحة أصحاب الأجندة الخارجية والطموحات الشخصية والرؤى المنامية. *لا بدّ لهذا الصراع أن يتوقف. يجب أن تكون الأولوية الآن لإنقاذ الأرواح، وخصوصاً المدنيين الذين حاصرتهم الحرب واقتحمت عليهم البيوت والأسواق ودور العبادة. أكثر القتلى الآن من المدنيين العزّل في حرب ميدانها المستشفيات والمصانع والمتاحف والمكتبات في مدينة يسكنها 7 مليون إنسان. * الجلوس على طاولة المفاوضات ليس دليلاً على الضعف، وليس رضوخاً لمطالب الطرف الآخر، وإنما هو دليل على الإقرار بأخطاء الماضي، وعلى الواقعية وعلى النضج وتحمّل المسئولية ولن يتحقّق ذلك إلا إذا أدرك حملة البنادق أنّ كل هذه الجثث الملقاة في العراء هي ثمن انتصارهم المزعوم على الطرف الآخر. *الجلوس على طاولة المفاوضات سيكون إعترافاً شجاعاً من الطرفين واعترافاً من قائد الجيش وقائد الدعم السريع بأن انقلابهما المشئوم في أكتوبر 2021م على الحكومة المدنية هو سبب هذه المأساة، ولا مجال لإنهائها إلا بإعادة الأمور إلى نصابها وتسليم شئون الحكم للمدنيين، فالرجوع للحق خيرٌ من التمادي في الباطل. *لن يكون لقوات الدعم السريع أي دور في سودان المستقبل، حيث لا مكان للمليشيات ولا للجيوش المناطقية والقبلية، فما بُني على باطل فهو باطل، والمحاسبة القادمة على كل هذه التجاوزات وما قد يتبعها من عقاب، يجب أن تطال كل من ساهم في بناء هذا الباطل وتقويته وتمكينه من مفاصل الدولة خلال السنوات الماضية، وفي هذا الشأن ينبغي التذكير بأن لا خلاف بين فئات الشعب بأن الجيش النظامي الملتزم بالأنظمة ومعايير الاختيار والملتزم بتنفيذ مهامه وفق عقيدته القتالية وتحت مظلة حكومة مختارة من الشعب، هو مطلب الجميع، ولم يكن حراك ثورة ديسمبر 2018م إلا تعبيراً عن هذا المطلب. *فحينما هتف الثوار بالعبارة البليغة "العسكر للثكنات والجنجويد ينحل" كانوا ينظرون إلى الطريق المسدود الذي ينتظر الجميع ما لم تُعالج أخطاء النظام البائد في الجهاز العسكري والمدني معاً. *"العسكر للثكنات والجنجويد ينحل" كانت رسالة تحذيرية استباقية من الثوار النجباء عن هذه المأساة التي تعيشها البلاد الآن. *"العسكر للسكنات والجنجويد ينحل" هي خارطة الطريق لإنقاذ السودان من مخاطر التفكيك والصوملة والتدخل الدولي. *"العسكر للثكنات والجنجويد ينحل" هي المدخل لسودان جديد ينعم فيه الجميع بالحرية والديمقراطية وسيادة دولة القانون.. سودان جديد تصان فيه حقوق الأفراد، ويُحترم فيه الإنسان من حيث هو إنسان دون النظر إلى الفوارق الشكلية واللونية والفكرية (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). *كما نجح الشعب في إسقاط النظام البائد والأنظمة الشمولية المماثلة التي سبقته، سينجح مرة ثانية وثالثة ورابعة في استعادة ثورته المسروقة واستعادة المسار المدني، مهما علت صيحات الفلول وأصوات البنادق والمدافع الرشاشة ((فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) *ستنطلق قريباً مواكب الثوار (السلمية) في شوارع الخرطوم وهي تهتف مع المرحوم الشاعر محمد الحسن حميد: نورا تحلَم بي عوالِم زي رؤى الأطفال حوالِم لا درادر،، لا عساكر لا مظاليم،، لا مظالِم التحية،، 14 أغسطس 2023م