وقائع الحرب وتطوراتها الميدانية وتداعياتها السياسية والاجتماعية خلال السبعة اشهر الماضية راكمت الكثير من الحقائق والخلاصات التى توفر مادة كافية للتنبؤ بمآلات مسار الحرب وخواتيمها المحتملة. اولا بات من نافلة القول او فى حكم اليقين ان لا احد من اطراف الحرب قادر على طرد غريمه خارج السودان او ان يدفعه للاستسلام او ان يقوم بإفنائه نهائيا ، هذا الامر بات واضحا انه لن يحدث إن كان على المدى القريب او على المدى البعيد. منذ بداية الحرب ادرك الجيش حجم القوى الضاربة للدعم السريع واختبر مقدرته على اعادة الحشد والتموين ومرونة التحرك والانتشار وانه لن يكون هدفا سهلا له لذلك تخندق الجيش فى مقراته واستخدم استراتيجية إنهاك واستنزاف الدعم السريع خاصة من خلال الغارات الجوية. وخطل هذه الاستراتيجية يكمن فى انها لن تمكن الجيش من كسب اى أراضي او التوسع خارج مقاره المحصنة وبالتالى لن يتمكن من حسم الحرب لصالحة او بصورة اكثر وضوحا ليس لدية القدرة الكافية لكسب الحرب الميدانية , بمعنى سحق خصمة تماما والسيطرة على مقراته واعتقال قياداته واعلان السيطرة الكاملة على الدولة. بالنسبة للدعم السريع الذى تعود على الحرب الخاطفة والانتصارات السهلة المعتمدة على المباغتة وجسارة مقاتليه الشبان والاعتماد على المشاة للسيطرة الميدانية، شكلت استراتيجية الجيش فى التمترس فى مقراته اختبار كبير لقدرته كمليشيا تمارس حرب العصابات ما دفعها لتبديل تكتيكاتها وان تستخدم تكتيكات الجيش النظامى باعتماد استراتيجية الاستهداف المدفعي (التدوين) على مقرات الجيش واستخدام بعض المدرعات التى غنمها من الجيش وبعض الطائرات المسيرة . لكن بسبب عدم مقدرته على اجتياح والسيطرة الكاملة على مقرات الجيش المحصنة واعتقال قياداته بعد محاولات متكررة فى القيادة العامة ووادى سيدنا وكررى والمهندسين ، فإنه لن يتمكن من حسم الحرب لصالحه او لنكون اكثر دقة ليس لديه القدرة الكافية لكسب الحرب الميدانية بمعنى سحق خصمة تماما والسيطرة على مقرات الجيش واعتقال قياداته واعلان السيطرة الكاملة على الدولة. لماذا لم ولن يتمكن احدهما من القضاء على الآخر؟ من الجلى ان كلا من الطرفين غير قادر على هزيمة الآخر و كلا منهم منى بخسائر كبيرة فى العتاد والأرواح وخسر مقدارا كبيرا من قوته وعتاده وهى خسائر استراتيجية لا يمكن تعويضها الان اثناء الحرب ولا توجد اى إمكانية لبناء قدرات عسكرية من جانب اي من طرفي الحرب سواء فى ما يتعلق بالمعدات او المقاتلين. هذا اضافة الى العجز الوظيفي الذى يعاني منه الطرفين وهو ان الجيش ليس لديه مشاة والدعم السريع ليس لديه طيران ومدافع ثقيلة. اذ يبدو ان كل ما يحتاجة الجيش لحسم الحرب موجود لدي الدعم السريع وهم المشاة , وكل ما يحتاجة الدعم لحسم المعركة هو الطيران وهو موجود لدي الجيش. ورغم ان الطرفين لم يصلوا بعد لمرحلة الإعياء الكامل لكن مؤشر بداية الإعياء او تبدد اوهام الانتصار العسكرى الحاسم يمكن ملاحظته فى تباعد آماد العمليات العسكرية مما يعنى ان الحرب ربما فى طريقها لتدخل طور الحرب المنسية مما يستتبع ذلك ان تخفت اخبارها رويدا رويدا وتقبع فى المرتبة الثالثة او الرابعة فى ترتيب بورصة الاخبار وتتوقف عن إثارة شهية اجهزة الإعلام فى المنطقة و العالم. كذلك يمكن ملاحظة ان وطئة الحرب خفتت ايضاً فى الميديا (مواقع التواصل) وهى ساحة حرب وان كانت افتراضية إلا انها لا تقل ضراوة عن الحرب الفعلية على الارض . وتراجع زخم الحرب فى الميديا مؤشر على تراجع وقائع القتال على الارض . لم يتمكن الجيش طوال الحرب من استرداد المواقع التى سيطرعليها الدعم منذ بداية الحرب. كذلك لم يتمكن من كسب اي مواقع على الارض او يتمكن من طرد الدعم من منازل المواطنين رغم ان دعاية الحرب الأساسية للجيش ضد الدعم هى اتهامه منذ انطلاق شرارة الحرب الاولي بالاستيلاء على والاختباء فى منازل المواطنين وسرقة ممتلكاتهم. من جهة اخرى فشل الدعم فى السيطرة الكاملة على مواقع عسكرية رئيسية مثل القيادة العامة وقاعدة وادى سيدنا وكررى يمكن أن تصبح موشر لقياس عدم تمكنه فى المستقبل من اجتياح مراكز عسكرية إذا اضطرّ الجيش فى حالة دحرة فى الخرطوم للانسحاب والتخندق فى احد المدن الأخرى مثل بورسودان او عطبرة او مروى. الجغرافية هنا سوف تكون لاعب رئيسي وسلبي مثلما كانت دائما عبر تاريخ السودان الحديث. المساحات المترامية للسودان بقدر ما انها نعمة ودليل على سعة وتنوع الرزق والثروات و من اسباب المنعة والقوة إذا استقرت البلاد ، لكنها ستكون نقمة فى حالات عدم الاستقرار بسبب قابليتها للانعزال والتشظي فى ظل عدم وجود مركز قابض. والمركز القابض هنا لا يعنى السيطرة العسكرية بقدر ما يعنى قدرة المركز على بسط سيطرته وربط أطرافة من خلال التنمية المتوازنة والفرص المتكافئة فى كل المجالات السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية الامر الذى لم يحدث عبر تاريخ السودان منذ استقلال البلاد ونحن الان نتجرع مرارة هذا التفريط. لكن ماذا لو انقلبت هذه التوقعات وتمكن احد الأطراف من هزيمة الطرف الآخر او إجباره على التقهقر او حتى الفرار. فى هذه الحالة وفى هذا البلد الواسع سيتقهقر المهزوم إلى مركز ثقله الاثنى والجهوى الحصين . إذا كان هذا المهزوم هو الدعم السريع سوف يتقهقر إلى اقاليم غرب السودان وإذا كان المتقهقر الجيش السوداني سينسحب إلى مروى او عطبرة او بورتسودان ولن تنتهى الحرب بل ستنتقل إلى منطقة جغرافية اخرى وسيكون مقدرا لها الاستمرار من جديد ولكن بوتائر مختلفة وجولات اخري منها المراوحة بين حالة الحرب واللا حرب او حالة الكر والفر مما يدفع لتطاول امد الحرب. وتطاول امد الحرب سوف يفرز اقتصاد الحرب وثقافة الحرب وقيم الحرب وإذا كانت الحرب هى ام الشرور بل هى الشر المحض بعينة بإمكانك تصور كيف سيكون الوضع إذا كانت الحرب هى القاسم المشترك الرئيسي فى حياة الناس . وعندما يتعاظم الإعياء وتصبح الحرب مرض عضال وعبئ على الجميع حتى الخصوم المتقاتلين بعد امد ليس بالقصير سوف تتعاظم كذلك فرص أن يستقل كل طرف بالمناطق التى يسيطر عليها لأنه فى ظل حالة الخوار وتوازن الضعف سيفقد الأمل فى الاستحواذ على مناطق الطرف الآخر وييأس من كسب الحرب بسبب عجزه عن تحقيق النصر الكامل ويرضي كل منهم بما اقتطع لنفسه من أقاليم. إذا وصلت الحرب إلى هذا المستوى سيكون قد فات الأوان حتى على عملية التفاوض من أن تحافظ على السودان كقطعة واحدة ، بالأحرى سيكون التفاوض على التقسيم هو الخيار الوحيد المتبقي على طاولة المفاوضات. عندما تصل الحال بنا إلى هذا الحد سيكون السودان قد انقسم نظريا إلى منطقتين سياسيتين وإداريتين وعسكريتين تدعيان الشرعية والسلطة والسيادة ولا يتبقي إلا التوقيع على التقسيم على الورق وترسيم الحدود. إذا الذهاب إلى التفاوض الان وفورا قبل فوات الأوان هو العاصم الوحيد لوحدة وعدم تمزق السودان لأنه بات واضحا الان انه لا يحتاج الأمر لحرب اهلية شاملة لينقسم السودان بل ان جميع خيارات استمرار الحرب حتى لو لم تتدخل اطراف عسكرية اخرى ستقود الى تفتت البلاد بينما خيار التفاوض الان يحمل فى طياته ليس فقط انقاذ البلاد من خطر التفكك الشامل بل سوف يقود الى ابعاد طرفي الحرب من المعادلة السياسية ووضع البلاد مرة اخرى فى طريق التعافي والنهوض الحقيقي.