سنة مرت ، وبلادنا تغلي كالمرجل، لا يدري أحد متى يهدأ أوراها، بلاد انهدّ بنيانها، وانفرط عقدها. أطفالنا غابت الابتسامة عن شفاههم. نساؤنا ترملن وثكلن وتهجرن. شبابنا كبَّلهم العجز، وتاهوا في الفيافي، قضى بعضهم عطشا فيها، وضل الآخرون الطريق إلى مبتغاه. شيوخنا هائمون على وجوههم في أرض الله، تلقفتهم المنافي وحطّوا في بلاد لم يكونوا يعرفون موقعها من قبل. سنة مرت ، وحقولنا لم تعد تشتعل قمحا ووعدا وتمنيا، وإنما ذبلت بتلاتها، وتلوث أريج وردها، وكفَّت نحلاتها عن ارتشاف الرحيق. سماواتنا لم يعد فيها متسع لتحليق الطيور؛ إذ زاحمتْها الصواريخ والطائرات في فضاءاتها. سنة مرت، ومدارسنا بدّلت نشاطها من تقديم التعليم إلى إيواء النازحين. سنة مرت ، وموظفون لم يتقاضوا راتبا فيها و تجار فقدوا تجارتهم ورب أسرة وقف عاجزا أمام أسرته، لا يقدر على توفير حياة كريمة لهم. وطلاب احتوتهم الشوارع وآوتهم المنافي، حينما تمنَّعت المدارس واحتجبت الجامعات. سنة مرت ، لم يجد الناس ما يغاثون فيها ولا ما يعصرون. سنة مرت ، تعطلت فيها معاني الحياة، وتوقفت فيها قيم الإنسانية. سنة مرت ، والتوجس مخيم، والقلق مسيطر، والخوف جاثم، والرؤية معتمة، والمستقبل قاتم. شحبت الوجوه، وغصَّت الحلوق، وغارت العيون، وجفت الدماء في العروق، وانطفأ الضوء الذي كنا نبصره آخر النفق؛ إذ تهدم النفق، وغاب الأمل الذي كان يلوح في الأفق؛ إذ ضاع الأفق. سنة مرت ، والسودانيون يُمسون على الطوى، ويصبحون على الهم، ويظهرون على أصوات المدافع. سنة مرت ، والنيل الأسمر تخضَّب بالدماء، وغاض ماؤه، وكفَّت العصافير عن التغريد، وتوقفت الغزلان عن الركض، وامتنعت الحمائم عن الهديل. سنة مرت ، ولا تكاد تبصر أسرة واحدة اجتمع أفرادها تحت سقف بيت واحد؛ إذ تشتت الشمل، وتفرق الناس أيدي سبأ، وتفتق الجرح، واتسع الصدع. [email protected]