في أواخر شهر أبريل كنا لا نزال نقيم في العاصمة ، لكن الأوضاع تراجعت إلى مستويات متدنية ، ولم يعد المكان آمناً للعيش بتاتاً ، كل مايرى حولنا كان نذيراً بالشؤم ، فعزمنا أمرنا وقررنا مغادرة الخرطوم بأي وسيلة ، وقبل أن نشد الرحال إلى أي مكان ، كان علي أن أعرج على جاري لأودعه ، فهذا الإنسان عزيز على قلبي . إن حمزة الذي يبلغ من العمر 18 عاماً لم يكن مجرد جارِ لي ، بل هو رفيقي في المدرسة وزميلي منذ الطفولة المبكرة ، كان صبياً مشاغباً ، يحب إثارة المتاعب ويقحم نفسه دائماً في المشاجرات والمشاكل ، كان مستعداً دائماً للكشف عن ساعده وخوض معركة مع الأولاد في الحي ، فأصبح معظمهم يخافون منه ويؤثرون الابتعاد عنه ، لكنني لم أكن أفعل ، كنت أرى في حمزة ما لا يراه فيه الآخرون ، فخلف قناع القوة والشدة ، كان هذا الإنسان يخفي معدناً أصيلاً وروحاً نقية . وقد استطعت رؤية هذه الروح التي خفيت على الآخرين . وأنا لم أكن سوى ولد هادئ ومسكين ، لم أهوَ إثارة المتاعب والخوض في المعارك ، بخلاف صاحبي حمزة ، كنت العاقل الذي يؤثر السلام ، وكان حمزة الجامح الذي لا يبالي الخوض في حرب مع أحد ، وبالرغم من اختلاف طبيعتينا ، إلا أننا كنا صديقين مقربين ، يجد كل منا الراحة مع أخيه. وصلت إلى منزله ، وطرقت الباب الحديدي الصغير ثم انتظرت قليلاً ، ففتح لي حمزة الباب وصافحني بقوة مرحباً بي ، دخلت معه إلى المنزل ، وأجلسني في سرير تحت المظلة في حوش بيتهم ، ثم جلس هو على السرير الآخر ، دار بيننا حديث قصير ، ثم أخبرته بنيتنا في الرحيل من الخرطوم ، حيث أن الوضع لم يعد مناسباً للعيش ، ابتسم ثم فرد ذراعيه قائلاً : "وإلى أين ستذهبون ؟" أجبته بقولي : "إلى مدني ، حيث يقيم جميع أهلنا" ، أعقب كلامي فترة صمت متواضعة ، أردفت بعدها قائلاً : "وأنت يا حمزة ؟ لماذا لم تغادر مع أهلك ؟ ما الذي يبقيك في قلب العاصمة ؟" ، تنهد ثم أجابني : "لا يوجد خيار آخر ، لا نستطيع ترك المنزل خالياً دون حراسة ، نحن أسرة فقيرة لا نملك الكثير ، فإذا ما تعرضت ممتلكانتا البسيطة للنهب فلن نجد ما نعيش عليه في الأيام القادمة" ، قبضت على يدي بقوة وخاطبته قائلاً: "لم يكن على أهلك أن يتركوك هنا لوحدك وينفذوا بجلودهم ، حتى لو كان ذلك خوفاً على ممتلكاتهم" ، كانت كلماتي الصادقة مليئة بالخوف والقلق على صديقي المقرب ، ولكن بدا أن حمزة قد استثير مما قلته ، فقد تغيرت نبرة صوته وهو يجيبني قائلاً : "لا أسمح لك بالحديث عن أهلي هكذا ، هذه الأمور ليست من شأنك في كل الأحوال" ، لكن كلامه رغم نبرته القاسية لم يشعرني بالإهانة ، ولم يدفعني للاعتذار ، فقد اعتدنا أن نكون صريحين مع بعضنا دائماً ، بغض النظر عما قد يترتب على ذلك . عاد حمزة ليقول لي بعد أن هدأ قليلاً : "في كل الأحوال ، أنا شاب جلد وقوي ، لست خائفاً من أحد ، ولن أفر من بشر مثلي يأكلون ويشربون " ، ابتسمت بسخرية وأجبته قائلاً : "الدعم السريع ليسوا بشراً مثلك ، إنهم مجموعة من البرابرة المتوحشين وأنت إذ تبقى هنا تخاطر بحياتك يا صاحبي ، لا تتكلف الشجاعة ، ولا تركض وراء أهوائك عليك أن تركض وراء الحياة يا حمزة وتسير وفقاً لصوت عقلك ، هذه فلسفة زماننا" ، شرد حمزة قليلاً وكأنه يتمعن في كلماتي ، ثم قال: "إنك تبالغ وتهول الأمور يا صاحبي ، كعادتك دائماً ، تخشى مفارقة الجدران ، ولكن دعني أخبرك بأن هذه الحرب لن تدوم للأبد ، بل إنني أعتقد أن بضعة أيام أو أسابيع كفيلة برد الأمور إلى نصابها الأول وإيقاف هذا القتال المحتدم ، لن يعجز الجيش بأكمله عن سحق هذه الفرقة الحقيرة ، لن تدوم هذه اللعبة طويلاً ، وسيعود الناس إلى حياتهم عاجلاً أم آجلاً رغم أنف حميدتي " ، سكت حمزة وأطلقت أنا تنهيدة عميقة حزينة ، راودتني مشاعر غير جيدة ، لأول مرة أحسست بأن صديقي حمزة يتكلف في حديثه تكلفاً ، وهو يحاول التمسك بقشة أمل . اضطجعت على وسادة بقربي ثم تحدثت وأنا أحدق في سقف المظلة: "الأمل لم يعد كافيا ً ليسد رمقنا ، مللنا من تصور الغد ، مللنا من تأجيل حياتنا إلى أجل غير مسمى ، يا صاحبي ، متى سنعيش ؟ يا صاحبي ، إننا الآن شابان ، إن لم نعش الآن فمتى سنعيش؟ أيان تتحسن حال بلادنا وتنتهي كل هذه المصائب ؟ أيان ؟ إننا لا نريد وطناً آمناً لنعيش فيه غداً ، بل نريد الوطن لنعيش فيه اليوم ، لأن اليوم هو يومنا نحن ، إننا في عز شبابنا ، ومن المفروض أن نعيش الآن وليس لاحقاً ، إن قدوم الغد يعني أن نصبح عجائز هرمين ، ألا تفهم يا حمزة ؟" ، أنهيت حديثي ، فنظر إلي حمزة نظرة عميقة لم أفهم مدلولها ، ثم خاطبني وهو يبتسم : "لا تقلل من شأن الغد يا صديقي فهو المكان الذي سنجد فيه السعادة تنتظرنا ، بغض النظر عن عمرنا وشبابنا ، ليس لنا إلا الغد" ، حينها لم أتمالك نفسي ، ضربت بيدي على الطاولة بعنف ثم صحت قائلاً : "حمزة ! هل ذهبت واطلعت على أوراق القدر ؟ كيف لك أن تعرف أن الأيام القادمة تحمل لنا السعادة ؟! إن هذا الكلام الشاعري هراء !! وأؤلئك الذين يتفوهون به لا يعيشون في السودان ولا يعرفون معاناة أهل البلد ! ولكنك ترى الحقيقة بعينيك وتحس بها ، فما بالك تتفوه بالسخافات مثلهم؟! يا لله ! "ضحك حمزة ضحكة لم أفهم سببها ، ثم رد علي قائلاً : "يا لك من أحمق يا شهاب ! إنني لا أردد عبارات جوفاء خاوية كما تعتقد ، ولكنني أتحدث عن علم ومنطق ، أليس من الجلي لك أن بلادنا قد مرت بالعديد من النكبات ؟ منذ أن كنا صغاراً ونحن نعاني من سوء الأحوال المعيشية ، نتفرج في أولاد الكيزان يلبسون الجديد ويأكلون ما لذ وطاب أمام أعيننا ويرتادون المنتزهات دائماً ، في حين حرمنا نحن من تلك المتع إلا نادراً ، لقد عشنا حياة فقر وحرمان ، وها هي الحرب تأتينا في شبابنا مثل خاتمة تعيسة ملائمة لحكايا البؤس التي عشناها فقدنا الأمان وقاتلنا من أجل الغذاء والماء ، ألا تعتقد أن هذا كاف في حقنا ؟ لقد حدث كل شيء سيء بالفعل ، الحرب وقامت ، ما الذي يتبقى لنخاف من أجله المستقبل؟ إن الأيام القادمة لن تجد ثياباً غير ثياب السعادة لترتديها ، فقد اختطف الدهر كل ثياب البؤس ، كل الألم الذي كان علينا احتساؤه على مهل في ستين أو سبعين عاماً ، تجرعناه أنا وأنت دفعة واحدة قبل أن نبلغ العشرين ، الحياة أمامنا يا صاحبي ، وقد نلنا حظنا من الألم ، ولم يتبق لنا سوى السعادة لنشعر بها"، كلامه بعث في نفسي إحساساً لم أستطع فهمه ، لكنه كان مريحاً وجميلاً ، تمنيت في قرارة نفسي أن أخطئ ويكون هو المصيب تمنيت أن تؤمن السماوات والأرض على كلام حمزة ، ونجد السعادة تنتظرنا حقاً في قادم الزمان ، عانقته قبل أن أغادر ثم عدت إلى منزلي كي أستعد للسفر مع أسرتي إلى مدني . هناك عشت حياة مقترة ، صعبة ، ضائقة ، كنا فيها نجد الطعام والشراب بشق الأنفس ، ونتعرض للسخرية من أهل البلد ، الذين يحتقرون النازحين ويقولون بقسوة وجهل : "ناس الخرطوم هم اللي جابوا لينا الحرب" ، إن تلك الكلمات تقع علينا موقع السهام من الصدور ، ولكننا نصبر ، ونتمسك بالأمل ، وقد أتذكر كلمات صاحبي حمزة فأحس بأنها تمنحني القوة لمواجهة المصاعب . في ذلك الصباح الأسود ، أفقت على خبر مروع ، وهو وفاة صاحبي العزيز حمزة ، عاد أهله ليأخذوه بعد أن تبين لهم أن الأوضاع تتجه نحو ما هو أسوأ ، فرقت قلوبهم ورجعوا إلى بيتهم ، ولكنهم لم يجدوه ، كان المنزل متهالكاً ومدمراً ، أخبرهم الجيران أن الفتى مات بعد أن ضربت دانة البيت عن طريق الخطأ ، ندم أهله التعساء أي ندم ، ولطموا الخدود وشقوا الثياب ، لكن هذا لم يعد إليهم ابنهم . أما أنا فقد بكيت عليه بحرقة ومرارة ، وطالني حزن عميق لم أشهد له مثيلاً في حياتي ، فقدت الأمل وانطفأ النور داخلي ، كنت أردد دائماً : مات حمزة قبل أن يدرك المستقبل. * ترك بعض الناس ابنهم في المنزل لوحده ، وعندما عادوا إليه فجعوا بخبر موته *. [email protected]